أردوغان و«العين الحمراء»

د. ولات ح محمد
    بذريعة ملاحقة حزب واحد استباح الجيش التركي مدينة عفرين وسلمها إلى جماعات منفلتة جعلت من المدينة وأهلها ومواردها غنائم يفعلون بهم وبها ما يشاؤون دون أي وازع من ضمير أو أخلاق أو دين، ولم يكلف مستر أردوغان نفسه ـ بوصفه رئيس المحتلين ـ منع تلك الجماعات من ارتكاب تلك الجرائم بحق أهل عفرين. اليوم تريد الحكومة التركية بقيادة رجلها الأول أن تعيد السيناريو ذاته في مدن كوردية أخرى وكأنها وجدت الفرصة التاريخية التي تبحث عنها منذ عقود؛ فالدولة السورية ضعيفة والمرتزقة المأجورون الذين يقاتلون إلى جانبها كثر والذريعة الكاذبة التي تبحث عنها وتروج لها موجودة أيضاً.
    إن ما يقترفه أردوغان بحق الكورد أمر خطير جداً سيكون له تداعياته على كل المستويات إذا أصر على المضي في هذه الطريق؛ فالغاية هنا ليست محاربة حزب كما يدعي وادعى غيره من قبل، بل هي محاربة شعب في وجوده وحقه في الحياة؛ فالجيش التركي لم يتوقف عند إنهاء إدارة الاتحاد الديمقراطي لعفرين بل عاث هو ومرتزقته في المدينة فساداً وتدميراً وتهجيراً وما زالوا يفعلون. إذاً، كان الهدف من الحملة إنهاء وجود شعب في تلك المدينة، وهو ما يريد تكراره في المدن الأخرى. وهذا ما سوف يزرع البغضاء بين الشعوب ذاتها بعد أن هدأتْ حدتُها نسبياً بين الكورد وشعوب المنطقة خلال العقدين الماضيين.
    الجرائم التي ارتكبها صدام حسين بحق الكورد وتلك التي ارتكبتها الأنظمة التي تعاقبت على حكم تركيا قبل عهد العدالة والتنمية تركت آثاراً سلبية على العلاقة بين الكورد وشعوب المنطقة ما زال بعضها مستمراً وتفعل فعلها حتى الآن وإن كانت قد خفّتْ حدتها بعد سقوط النظام العراقي السابق وبعد انتهاء زمن الحكومات التركية ذات الطابع الشوفيني أو العسكرتاري. ما فعله أردوغان في عفرين ويريد تكراره في مدن كوردية أخرى سيعيد زرع الكراهية من جديد في النفوس، إذ إن مثل هذه الأفعال والجرائم تكرس عند الشعب المنتصر عسكرياً مفهوم ” البقاء والحق للأقوى” وترسخ لديه سايكولوجية التفوق والاستعلاء التي لا ترى في الآخر إلا طارئاً ومهزوماً وخائناً تجب محاربته، وليس شريكاً في الدولة والوطن والجغرافيا. وفي المقابل يكرس مثل هذا الاعتداء المتكرر لدى الخاسر أو المعتدى عليه مفهوم “الآخر العدو وذهنية الانتقام” وسايكولوجية المظلوم الذي سيسعى لرد اعتباره وكرامته وحقه بأي ثمن، خصوصاً أن كثيراً من الكورد كانوا يرون في نهج أردوغان شيئاً مختلفاً عما فعله سابقوه ووجهاً ناعماً للسياسة التركية تجاه الكورد. وبذلك لن يعود لدى الكوردي أية ثقة بأي سياسي في السلطة أو خارجها ينتمي إلى أي من الدول التي تتقاسم جغرافيته مهما كان لونه ومنطقه بعد أن رأى أن الجميع تكالب عليه في كركوك وأن الجميع تآمر عليه في عفرين، ما يؤكد له أن مفهوم الأخوة والشعب الواحد (الذي نادى به أردوغان أكثر من غيره وجعله شعاراً له ولحزبه خلال السنوات الماضية) ليس إلا شعاراً كاذباً وذراً للرماد في عيونهم حتى لا يروا صورة الواقع الحقيقية.
    ما فعله أردوغان في عفرين ويصر على تكراره في مدن كوردية أخرى ينطلق من ذهنية “العين الحمراء” التي تستند إلى حق القوة وشريعة الغاب وليس إلى قوة الحق ومنطقه. ولذلك لن تتوقف تداعياته عند حدود هزيمة حزب أو إفشال إدارة (وعموماً ليس هذا هو الهدف من هذه الحملة)، بل سيكون له مفاعيله على مجمل العلاقة بين الكورد وبقية شعوب المنطقة، خصوصاً أن هناك سوريين يتقدمون جيش أردوغان في استباحة المدينة الكوردية واستحلال أهلها وممتلكاتهم، لا لشيء سوى أنهم كورد (هل كانوا سيرتكبون تلك الجريمة بحق عفرين لو كان سكانها من غير الكورد؟)، وأول من سيتأثر بهكذا اعتداء ـ إن حصل ـ هو أردوغان ذاته والداخل التركي قبل غيره، إذ كيف سينظر التركي إلى الكوردي وهو في نظره مجرد إرهابي انفصالي خائن كما روج أردوغان ومن سبقوه؟، وكيف سينظر الكوردي إليه وهو في نظره مجرد قاتل وغاصب وكاره وحاقد ومجرم بحقه وحق أهله؟. 
    المفارقة هنا أنه عندما تم الحديث قبل أسابيع عن حملة عسكرية على الجماعات المسلحة المدعومة تركياً في إدلب خوّف أردوغان المجتمع الدولي من أن الحرب ستؤدي إلى هجرة مئات الآلاف باتجاه تركيا وأوربا، ولكن هذا الرئيس الإنساني الحنون يتحدث منذ شهور ليلاً نهاراً عن ضرورة الهجوم على كوباني وكري سبي (تل أبيض) وسري كانيه (رأس العين) وقامشلي وشرق الفرات عموماً وكأنها مدن بلا سكان أو كأن حربه عليها لن يؤدي إلى هجرة أهلها؟. 
    أردوغان الذي فشل في كل سياساته في سوريا وراح يعوض رهاناته الخاسرة من خلال بيع حلفائه المعارضين كقطع غيار مقابل السماح له بدخول شمال سوريا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أردوغان الذي رضخ (بعد عنتريات فارغة) لكل من إيران وروسيا وأمريكا صاغراً، يسعى الآن إلى تسجيل انتصار يشغل به شعبه عن إخفاقاته من جهة ويحفظ به ماء وجهه الذي أريق بتنازلاته المتكررة لتلك الدول (آخرها قضية القس برانسون) من جهة ثانية وليغطي به على أزماته الداخلية من جهة ثالثة، فلم يجد سوى الكورد العزل ليستعرض عليهم عضلاته التي أصابها تورم واهم وليريهم “العين الحمراء” التي لم تستطع إلا أن تكون خضراء أو زرقاء أمام الآخرين، بل لم يجرؤ صاحبها على وضع عينه في عيونهم الحمراء القوية حقاً.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لم يكن، في لحظة وطنية بلغت ذروة الانسداد، وتحت وطأة أفق سياسي وأخلاقي مغلق، أمام الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء، كما يبدو الأمر، سوى أن يطلق مكرهاً صرخة تهديد أو يدق طبول حرب، حين ألمح- بمسؤوليته التاريخية والدينية- إلى احتمال طلب الحماية الدولية. بل كان يعبّر عن واحدة من أكثر المعضلات إلحاحاً في واقعنا…

د. محمود عباس صرخة في وجه التكفير والخراب والإرهاب. من يهاجم المكون الدرزي في السويداء؟ من يحاصر مدنها، ويهدد شيوخها، ويحرّض على أبنائها بذريعة كلمة قيلت أو لم تُقَل؟ من نصب نفسه حاميًا للرسول الكريم وكأن الإسلام ملكيته الخاصة، وكأن نبي الرحمة جاء لقوم دون قوم، ولدين دون آخر، متناسين أن محمدًا عليه السلام نبي الإنسانية كلها، لا نبي التنظيمات…

بوتان زيباري في رياح السياسة العاتية التي تعصف بأطلال الدولة السورية، يبدو أن الاتفاق الموقّع بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام (هتش) لم يكن سوى وميض برقٍ في سماءٍ ما لبثت أن اكتظت بالغيوم. فها هو مؤتمر قَامشلو الأخير، بلغة ملامحه المضمرة وتصريحاته الصامتة أكثر من الصاخبة، يكشف عن مكامن توتّرٍ خفيٍّ يوشك أن يطفو على سطح…

إبراهيم اليوسف لقد كان حلم السوريين أن يتوقف نهر الدم الذي فاض وارتفع عداده ومستواه، تدريجياً، طيلة العقود الأخيرة، أن يُفتح باب السجون لا ليُستبدل معتقل بآخر، بل ليُبيّض كل مظلوم مكانه، أن يتحول الوطن من ساحة للبطش إلى حضن للكرامة. لقد كان الأمل كبيراً في أن تؤول الأمور إلى دولة ديمقراطية، تُبنى على قواعد العدالة والحرية والكرامة، لكن هذا…