دعاة الدين في كرداغ

ماجد ع  محمد
بناءً على مكالماتٍ شخصية مع العشرات من الأهالي، ممن هم محط ثقة بخصوص شهادتهم حول المجريات، فما رأته نواظرهم، وما تناهى إلى أسماعهم في منطقة كرداغ/عفرين، أن المجاهرة باسم الإله كانت من الصيحات المشتركة لدى معظم إن لم نقل كل العناصر التي شاركت في الهجوم على المنطقة، ورغم صياحهم باسم الرب آنئذٍ، والتدثر  بآياته، وتنقلهم في ظلال سوره، والإصرار على الإلتحاف بأحاديث نبي المسلمين، لقد عاملوا المدنيين وفق شهادات المقيمين في المنطقة بكامل الفظاظة والاحتقار مع حملات اعتقالات عشوائية طالت مئات الأبرياء بدعوى الوقاية من وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي  PYD، علماً أن الوحدات التابعة لتنظيم PYD كانت قد تقهقرت وغادرت المنطقة قبل 18/3/2018 بينما الممارسات التعسفية حسب الأهالي لمعظم عناصر الفصائل بدأت بعد انتهاء المعارك؟! 
ناهيك عن لجوء فصائلَ بأكملها إلى السلب والنهب والسطو المسلح والذي وثّق منه يوم واحد فقط مصوّرٌ تركي كان في قلب مدينة عفرين أثناء إعلان تحريرها من الوحدات العسكرية لـ: PYD، حيث تناقلت حينها صور الصحفي التركي وكالات الأنباء العالمية وفي مقدمتها وكالة الصحافة الفرنسية، ومن ثم مُنع وإلى تاريخ اليوم دخول الإعلام الحر إلى المنطقة ربما من باب التستر على كل ما يجري هناك في ديار الكفَرة وفق عقلية وثقافة معظم العناصر الذين سبق لبعضهم أن حارب الكُرد الكفرة بأُمرة نظام الأسد العلماني!! واليوم راحوا يحاربون نفس الكَفرة بأمرة تركيا العلمانية!!. 
وبما أن الكُرد كَفرة بمنظور كل من يريد اجتياح مناطقهم، لذا المتدينون من أهل المنطقة بيّنوا بأنهم أكثر من اليساريين والعلمانيين مِمَن ضاقوا ذرعاً بتلك الهتافات الإسلاموية التي نطق بها مجتاحو ديارهم باسم محاربة جهة عسكرية كانت قد غادرت المنطقة أصلاً قبل مجيئهم، وذلك لتبرير سطوتهم وشرعنة ممارساتهم الدنيوية بالشعارات والخطابات الدينية، وحيث كان حال مسلمي عفرين (كرداغ) في العملية العسكرية التي سميت بغصن الزيتون أقرب إلى حال الهنود الحمر مع البيض من دعاة الدين المسيحي في أمريكا، وكيف كان الهنود مشاريع تنكيل وإهانة من قِبل المسيحي الأبيض الذي بكل صفاقة كان يقول بأنه جاء إلى ديارهم مبشراً ونذيرا. 
ومن بعض العلامات على امتعاض أبناء المنطقة من الشعارات الدينية التي كانت غطاء شرعي للسطو والابتزاز، أني أوّل مَن اتصلت بأحد أبناء المنطقة كان مِن فئة المتدينين وليس من العلمانيين أو الماركسيين، إذ في الشهر الأول من السيطرة على عفرين إذا لم تخني الذاكرة اتصلت بأحد الأئمة في المنطقة ـ ولن أذكر اسمه هنا خشيةً عليه من فارضي الدين بالإكراه ـ وبعد السلام والاستفسار عن الأحوال سألته ماذا تفعل الآن؟ فكان جوابه صادماً لي، إذ قال الرجل: أنا في العُدة حالياً؟ فقلت يا شيخي أعرف أن الدخول في العدة يخص النساء وليس الرجال؟ فقال الشيخ: لو كنتَ هنا لدخلت العدة مثلي، ليس اقتداءً بالنساء أو تضامناً معهن أو تقليدهن، إنما قرفاً من أغلب هؤلاء الذين جاؤوا يهدوننا إلى الصراط المستقيم! فالشيخ إذن لم يجد صفة مليحة فيمن ادّعوا من أهل الدين بأنهم جاؤوا ليخلصوا المنطقة من سلطة YPG اللادينية، إنما بدا وكأنه قارب الكفر بالذي يجمعه بهؤلاء المبشرين في دين واحد، حتى أن الشيخ أضرب عن الذهاب إلى الجامع من وقتها وراح يصلي في بيته حتى لا ترى عيناه  حسب قوله مناظر هؤلاء الذين يرون أهل المنطقة كفاراً وهم المسلمون الذين جاؤوا لهدايتهم إلى الطريق القويم، هذا وفق تصورات أغلب تلك العناصر، وربما كان ذلك التوجه الأيديولوجي متوافقاً تماماً مع مزاج من لقّنهم وحشاهم بتلك التصورات التافهة. 
على كل حال فذلك كان في الاتصال الأوّل مع الشيخ، أما في المرة الثانية فقال الشيخ في اتصالِنا معه: “مع أن الصلاة حسب النص القرآني تنهي عن الفحشاء والمنكر، ولكنها في منطقة عفرين ومنذ أكثر من ستة أشهر فلم تقدر كل نصوص الدين على إنهاء السلب والنهب والسطو” وهو ما يعني بأن الدين لدى الملتحفين به ليس أكثر من زي وأداة وصولية وشعائر اجتماعية، ولا تأثير حقيقي للنص القرآني الذي يمنع الأذى والعدوان على كينونة وممارسات معظمهم، بل وأن الدين بالنسبة للعسكر ليس أكثر من وسيلة لشرعنة غاراتهم على ممتلكات المدنيين، وكذلك ربما لدى حاخامات السياسة والعسكرة الذين أعطوا العناصر رخصة الإنفلات وقالوا للأنفار بأن هذه المنطقة مستباحة لكم، فتجولوا في مضاربها، وانهبوا ما استطعتم إليه سبيلا، وإلاّ لكان على الأقل قد ظهرت فئة أخرى بالضد منهم تقف بوجه الداخلين بعقلية الغزاة، أو خرج مَن انتقد ممارسات رفقائهم، أو على الأقل تبرؤوا علناً من نتانة أعمال عناصر الكثير من الفصائل التي لم تقم غير بوظيفة السلب والنهب وممارسة عناصرها كامل أمراضهم السلطوية، وذلك تعويضاً عن الذل والمهانة التي تجرعوها سنين طوال من قبل زبانية الأجهزة الأمنية لنظام بشار الأسد.
عموماً بما أن مبشرو الدين الإسلامي قد جعلوا حتى المؤمن من أبناء المنطقة في دخلية نفسه ينفر من الدين بسبب ما رآه في ملامح وسلوكيات كِرازة* الدين؛ لذا حريٌّ بنا أن نذكر دعاة الناس إلى الدين بصفات الداعية، ولكن تجنباً للإطالة على القارئ لن أعدِّد الفقرات التسع من صفات داعي الناس إلى الدين وفق الترتيب الذي أورده الكاتب محمد أديب كلكل في كتابه “الأنيس في الوحدة”، ولكني سأذكر رحيق الصفات، أي الجانب السلوكي فقط والذي جاء في ختام الفقرات التي أوردها كلكل حيث يقول: “إن الداعية الموفق الناجح هو الذي يهدي إلى الحق بعمله، وإن لم ينطق بكلمة، فهو مَثلٌ حي متحرك للمبادئ التي يعتنقها”؛ وللأمانة التاريخية فلم يذكر أهل المنطقة  إلى بداية هذا الشهر مِن بين كل مَن ادّعوا بأنهم جاؤها أو دخلوا إليها لإرشاد الكفار من أهلنا في عفرين إلى جادة الحق  والصواب مَن ينطبق عليهم شيء من محتوى التعريف الذي أورده الكاتب كلكل، باستثتاء طبعاً الخزنويين* الذين دخلوا المنطقة بودٍ واحترام لمساعدة الناس وتقديم العون للفئة المعدومة اقتصادياً، حيث كانوا محط ترحيبٍ في المنطقة، بناءً على سلوكياتهم كما نُقل عنهم، وليس اتكالاً على سلاحهم كما فعل أغلب دعاة الدين المدججين بالبغض والبواريد.

هوامش تُثري ما ورد في المتن، تُتمِّم بناءه ولا تزاحمه:
ـ *كرداغ: بالمناسبة تعمدت استخدام اسم كرداغ بدلاً من عفرين، باعتبار أن معنى التسمية مزعج جداً لمن نهلوا علومهم من حجرات مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي ميشيل عفلق، كما تدفعهم التسمية بنفس الوقت إلى ابتلاع ريقهم غيظاً، وذلك لأن التسمية عثمانية وليست كردية، كما نود تذكير القارئ بأن العثمانيون لم تكن لديهم حساسية تجاه كل ما هو كردي، كما هو حال حشود العفالقة، لذا سمى العثمانيون منطقة عفرين على اسم سكانها أي (كرداغ) بمعنى جبل الكرد، وهنا لسنا في وارد تبجيل تلك الفترة الزمنية قط، ولا نبغي العودة إلى تلك الحقبة التاريخية، ولكننا نود أن نقول بأن كل الحكومات القومية والوطنية التي جاءت بعد الدولة العثمانية في منطقتنا لم تكن أفضل منها في التعامل مع الأثنيات ومكونات المنطقة.
ـ *الكِرازة: هي المناداة علنًا بالإنجيل للعالم غير المسيحي والتبشير العلني، والكرازة حسب الأدبيات المسيحية تكون في الأغلب لغير المؤمنين، وكلمة كرازة، يكرز لغوياً تأتي بمعنى: ينادي بصوت عالي؛ وهي تعني الوعظ والتبشير بتعاليم السيد المسيح.
ـ *الخزنويين: الخزنوية عائلة دينية معروفة تقطن في شمال شرق سورية في قرية تسمى تل معروف تابعة لمدينة القامشلي، حيث كانت ومازالت قرية تل معروف مركزاً دينياً مهماً بقيادة آل الخزنوي، ويوجد فيها المجمع الخزنوي للعلوم الشرعية الذي يرتاده الكثير من الطلاب لتلقي العلم الشرعي.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف يبدو التدوين، في زمن باتت الضوضاء تتكاثر فيه، وتتراكم الأقنعة فوق الوجوه- لا كحرفة أو هواية- بل كحالة أخلاقية، كصرخة كائن حرّ قرّر أن يكون شاهداً لا شريكاً في المذبحة. التدوين هنا ليس مجرد حبرٍ يسيل، بل ضمير يوجّه نفسه ضد القبح، حتى وإن كان القبح قريباً، حميماً، أو نابعاً من ذات يُفترض أنها شقيقة. لقد كنتُ- وما…

عبد الجابر حبيب ـ ذاكرة التهميش ومسار التغيير بعد عقدين من اندلاع الأزمة السورية، وتحوّلها من انتفاضة مطلبية إلى صراع إقليمي ودولي، ما زال السوريون يتأرجحون بين الحلم بوطن حر تعددي عادل، وبين واقع تمزقه الانقسامات، وتثقله التدخلات الأجنبية والمصالح المتضاربة. سوريا اليوم لم تعد كما كانت، لكن السؤال يبقى: إلى أين تسير؟ وهل ثمة أمل في التحول نحو…

حوران حم في زوايا الحديث السوري اليومي، في المنشورات السريعة على مواقع التواصل، في تصريحات بعض “القيادات” ومواقف فصائل تدّعي تمثيل الثورة أو الدولة، يتسلل الخطاب الطائفي كسمّ بطيء، يتغلغل في الروح قبل أن يظهر في العلن. لم تعد العبارات الجارحة التي تطال الطوائف والأقليات، والمناطق، والمذاهب، تُقال همساً أو تُلقى في لحظة غضب، بل باتت تُصرّح جهاراً، وتُرفع على…

إبراهيم اليوسف لم يكن، في لحظة وطنية بلغت ذروة الانسداد، وتحت وطأة أفق سياسي وأخلاقي مغلق، أمام الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء، كما يبدو الأمر، سوى أن يطلق مكرهاً صرخة تهديد أو يدق طبول حرب، حين ألمح- بمسؤوليته التاريخية والدينية- إلى احتمال طلب الحماية الدولية. بل كان يعبّر عن واحدة من أكثر المعضلات إلحاحاً في واقعنا…