عندما تحتضر مدينة هي قامشلي «عن زيارتي الأخيرة إليها ما بين 18 تموز- 19 آب 2018 »

ابراهيم محمود
14- وداع مكتبتي
كان يحق لأفلاطون أن يكيل المديح لمعلّمه سقراط لأنه كان سبب ظهوره أفلاطوناً، أكثر من والديه، فهما كغيرهما من البشر في الإنجاب. أما سقراط فليس كأي كان، ليكون أفلاطون باسمه ذي الدلالة. ولهذا، فإن ارتباطي بالمكتبة، بمكتبتي، وتفجعي عليها، وقد تركتها هكذا، هو ارتباط بالكتاب الذي علَّمني ما لم أعلم، والمكتبة عالم ينتسب إلى الأبدية بمفهومها الحقيقي.
آلاف الكتب، الجرائد، المجلات، المقالات، وسوها، تركتها نهباً للمفاجآت. ليس هناك من ضمان لأن تبقى هذه المكتبة عالمي الأرحب الذي أعتز به، كما يُراد لها، في وسط لا يخفي نفوره من الكتاب، ومجتمع الكتاب الفعلي، وأهل الكتاب الفعليين. أقول ذلك، وأنا لا أتحدث هنا عن هذه الطحالب المتكاثرة مستنقع يستغرق مجتمعاً في غالبه، وهي صورة حيّة له بالذات. 
فلو كان الكتاب في مستوى اسمه، لما كان المجتمع الذي ننتمي إليه: آخرون وأنا، بهذا المستوى من التفكك، وهذه الفهلوة التي تضع الكتاب وثقافة الكتاب في المرتبة الدنيا، وإن ظهر أو يظهر فيه اهتمامه، لكنه لا يتعدى الديكور: المهزلة. لما كنتُ أصلاً خارج نطاق المكان الذي أنتمي إليه.
قد ينبري من يقول بصريح عبارة: أما كان في وسعك أن تكون كالذين بقوا و” صمدوا “؟ عبارة دقيقة، ولكنها في محتواها، لا تخفي حقيقة ما جرى ويجري على كل ذي نظر. كيف يمكن التعامل مع الثقافة، مع الكاتب الفعلي، مع لسانه ويده، ليكون السبب المؤثر في خروجي أنا وعائلتي من حيث كنت ولعقود طويلة من الزمن. بالعكس، يمكن للكتاب أن يعرّي مجتمعاً جرّاء هذا التعاكس في الاتجاه. فالحديث عن المكتبة حديث عن خواء مجتمع من زوايا كثيرة.
وهل أقول وبلغة السؤال: ليس في مقدور الكرد، وحيثما كانوا، أن يكونوا ذوي شأن، أن يتحقق لهم حلمهم القومي، ولو بنسبة منه، طالما أنهم بعيدون عن فاعلية الكتاب؟ أي طالما أنهما يراهنون على الرؤوس الجوَّف، على لسان بالكاد يتحرك، وكلام مكتوب يتعفن في ” أرضه ” !
ليس هذا محل تجاذبات، والدخول في مزيد من تداعيات القول إضاءة لخلفية ما نحن عليه. إنما هو وجع كبير، لا أثقل منه حملاً، لأنه بحجم جغرافية الكردي وتاريخه الكردي .
لأقل ما يشكل إضافة إلى ما تقدم: لو أنني كنت مرابياً ما، نصاباً ما، سمسار شعارات، لتسابق الكثيرون وهم يطلبون ودي، ونيل رضاي، لأقيم معهم علاقات في سياقات شتى” ذلك يذكّرني بما كتبته قبل فترة زمنية، وفي هذا الموقع ” ولاتي مه ” وهو لو أنني كنت قوَّاداً لكان حولي الكثير من ذوي المراتب والمقامات، لأكون متعاملاً معهم في شئون ” القواة ” المعتبرة.
لكم ذرعت مكتبتي : كرديتي، إنسانيتي، لغاتي الوجدانية المختلفة، مأساتي، وملهاتي، جيئة وذهاباً، وأنا أغلي في داخلي مشاعرَ مضطربة، وحسرات، وقهر لا يقدّره إلا أهلوه، وأمسد يدي على كتبي، وأشملها بنظرات لا يقدر قيمتها إلا أهلوها: كتاباً كتاباً، حتى التراب الذي كان يغطيها، كنت أغتبطه، كما لو أنني في قلب كارثة تاريخية، وأنا لا حول لي ولا قوة .
هذه العقود الزمنية الطوال بالنسبة إلي، والتي أمضيتها في اقتناء ” أفرادها ” العظماء من جهات الأرض الأربع، وفي كل كتاب بصمة من ” نجيع القلب “، وحتى الجريدة، المجلة، والصورة ذات العلاقة، وهي لا تعنيني أنا وحدي، كيف لها أن تبقى بمثل هذا الإهمال، هذا التجاهل، أم أنه مدروس بعناية مركَّزة تأكيداً على أن ليس للكرد من صلة حقيقية إجمالاً بالكتاب ؟
لكم حاولت الخروج، والعودة، لكم التفتُّ خلفي، لكم خذلتني خطاي، وشعرت بقلبي كما لو أنه خرج معانقاً، محتضناً المكتبة بكل ما فيها، قلبي المطعون آلاف الطعان، وهي شهادته على أنه عانى ويعاني الكثير معي ولأجلي، ولا أدري إلى أي لحظة زمني من عمري سيمضي بي، معي، ويتوقف فجأة، أو بعد إنذار ما . لكم كتمت عبرات، صرخاتي. إذ لمن تصرخ، وأمام من تذرف دمعاً من نوع خاص، فالصرخة أجناس وانتماءات، والعبرة أجناس وأنواع، كما هو الوجع الذي يتناسب عمق أثر مع نوعية المصيبة، العلة، ولا أعظم وأوخم من علة الكتاب !
لكم، دفع بي يأسي، وهو يأس معمَّر، إلى تصفية المكتبة بكل ما فيها، ولم أجرؤ على ذلك، على وقع ضغط كان يشدني إليه خارجاً. مكتبة تعيش رهن الصمت المريب وعوادي الزمن.
مكتبة، أعلمتُ بعض الاصدقاء في قامشلو  اللامكتبية، أنني أعرضها للبيع، وبسعر حددته أنا، لأنني لم أعد قادراً على حِمْل أعباء المكتبة، وأنا في هذا العمر المتقدم نسبياً، وأنا المحمول بهذا الكم الكبير من العِلل، وخوفاً من أن تختفي هي بطريقة كارثية ما، قبل أن أختفي أنا ، وإذا كنت هنا أخذل مكتبتي هذه، فلأن الذي أنتمي إليه لم يكف عن خذلاني، وحتى اللحظة، حيث لم يعد في وسعي تحمُّل هذا النزف المكتبي، وتخيل المكتبة وهي في أنينها المكتوم !!
ربما يكون هناك من يشمت بما كتبتُه هنا، ربما، من يتساءل عن مبرر كتابة كهذه، من يدفعه الفضول لمعرفة حقيقة الوضع، لكنني ، وكما أسلفت، وحدي من يعلم بوجعه الروحي، من يعلم بحقيقة المكتبة في هذه المدينة اللامدينة، وفي عهدتي الكثير مما يؤكد كل حرف سطَّرته !
سلاماً أيتها المكتبة أنيسة روحي، دمغتها. سلاماً، فجيعتي التي لم يقدّرها أحد حتى الآن، سلاماً أيتها المنكوبة بمكان وزمان ليس للكتاب الفعلي، والكاتب الفعلي من تصريف، سلاماً وأنت في بيت ليس لي حقيقة، بيت كان له نصيبه هو الآخر في تحمل معاناتي أنا وعائلتي وأولادي. عذراً أيتها المكتبة المنكوبة لأنني لم أكن في مستوى اسمك، وأنا أدفنك حيَّة، وعذراً للقلة القليلة من الأحبة ممن لم أستطع أن أفي بوعدي لهم بصدد المكتبة عينها، فكم هناك ممن يدفَنون أحياء، فيما هم عليه واقعاً، في مقبرة المعيش الكردي المأخوذة بغبار التاريخ ؟!
” جوانب من مكتبتي  “


شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين   في السنوات الأخيرة، يتصاعد خطاب في أوساط بعض المثقفين والنشطاء الكرد في سوريا يدعو إلى تجاوز الأحزاب الكردية التقليدية، بل والمطالبة بإنهاء دورها نهائياً، وفسح المجال لمنظمات المجتمع المدني لإدارة المجتمع وتمثيله. قد تبدو هذه الدعوات جذابة في ظاهرها، خاصة في ظل التراجع الواضح في أداء معظم الأحزاب، والانقسامات التي أنهكت الحركة الكردية، لكنها في عمقها…

عدنان بدرالدين   بينما تتجه الأنظار اليوم نحو أنطاليا لمتابعة مجريات المنتدى الدبلوماسي السنوي الذي تنظمه تركيا، حيث يجتمع قادة دول ووزراء خارجية وخبراء وأكاديميون تحت شعار ” التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، يتبادر إلى الذهن تساؤل أساسي: ما الذي تسعى إليه أنقرة من تنظيم هذا اللقاء، وهي ذاتها طرف فاعل في العديد من التوترات الإقليمية والصراعات الجيوسياسية، خصوصًا…

جليل إبراهيم المندلاوي   في عالمنا المليء بالتحديات الجيوسياسية والأزمات التي تتسارع كالأمواج، هناك قضية كبرى قد تكون أكثر إلهاما من مسرحية هزلية، وهي “ضياع السيادة”، حيث يمكن تلخيص الأخبار اليومية لهذا العالم بجملة واحدة “حدث ما لم نتوقعه، ولكنه تكرّر”، ليقف مفهوم السيادة كضحية مدهوشة في مسرح جريمة لا أحد يريد التحقيق فيه، فهل نحن أمام قضية سياسية؟ أم…

أمجد عثمان   التقيت بالعديد من أبناء الطائفة العلوية خلال عملي السياسي، فعرفتهم عن قرب، اتفقت معهم كما اختلفت، وكان ما يجمع بينهم قناعة راسخة بوحدة سوريا، وحدة لا تقبل الفدرلة، في خيالهم السياسي، فكانت الفدرالية تبدو لبعضهم فكرة دخيلة، واللامركزية خيانة خفية، كان إيمانهم العميق بمركزية الدولة وتماهيها مع السيادة، وفاءً لما نتصوره وطنًا متماسكًا، مكتمل السيادة، لا يقبل…