عندما تحتضر مدينة هي قامشلي «عن زيارتي الأخيرة إليها ما بين 18 تموز- 19 آب 2018 »

ابراهيم محمود
9- بين بياندور و” Du gir ê ” 
في زيارتي ، أنا وعائلتي إلى قامشلي، التقيتُ كُلّاً من الصديقين: زيور حاجو، وآزاد فيروزشاه حاجو، اللذين قدِما بدورهما في زيارة إليها. كانت مصادفة جميلة. في أول لقاء، عرضت عليهما رغبتي بزيارة قريتيْ : بياندور و Du gir ê” أي التلان بالنسبة للقرية الثانية “. لقد رأيتهما سابقاً، وهذه المرة تكون الزيارة لغرض بحثيّ/ استطلاعي، وتحديداً بالنسبة لمآثر تلّيهما التاريخيين.فالتل شقيق أصغر للجبل كردياً، والتل كان حامل أوابد تاريخية، وذاكرة أمم وشعوب مرت عبر العصور، وهو بطابعه الجغرافي عنوان يغري بتحرّي ” طياته ” من الداخل، وكتابي الذي نشرته مؤخراً باسم ” دولة حاجو آغا الكردية ” كان محفّزاً أكثر على هذه الزيارة. لم يتردد الصديقان: زيور وآزاد في تقبُّل زيارتي، والتوجه معاً بسيارتهما .
كان ذلك في يوم الثلاثاء” 24- 7 / 2018 “،  في حدود الساعة السادسة مساء. صحبة الطريق مشهّية وتحديداً حين تكون بين أصحاب تجمعهم أكثر من ذاكرة مكانية، كما لو أن ما كان حيٌّ.
كنت مشغولاً إلى جانب تجاذب أطراف الحديث في أمور شتى، حيث مشاهد مختلفة على جانبي الطريق، ونحن نخرج من بوتقة قامشلي من جهة الشرق، عابري العنترية وقناة السويس الحيين اللذين التحما بقامشلي، أو أن قامشلي ضمتهما إليها، والبيوت المتناثرة، كما لو أنها مجفولة. انقطعت عن التفكير فيما كان وما هو كائن لبعض الوقت، حين عبرنا قرية ” جمعاية ” ونحن نمخر عبار روائح خانقة ” زبلية ” حيث تنتشر ” زرائب كبيرة ” وتمتد على جانبي الطريق، وبشكل خاص من جهة اليمين لحظة التوجه إلى ” تربه سبي: قبور البيض “. واسترددنا أنفاسنا بعد قطع مسافة، والحرارة كانت حينها تسوطنا بلفحها الموجي.
رغم كل هذه المعاناة، لم نشعر كيف بلغنا ” بياندور ” في الجهة اليسرى من الطريق، من خلال تلها المنخفس، من وطأة ” دُوَل: متغيرات ” الزمن، والقرية تتاخم الطريق بامتداد نصف كيلو متر أو أقل. سلاماً يا تل بياندور، وأنت بهذا التواضع العظيم !
تل لا يلفت النظر، وهو مقبرة في آن، إلا بالنسبة إلى من يعرف واقعته. لقد دخل التاريخ الحديث، وأصبح مثار موضوعات، واختلافات، لا بل وخلافات حول الوقائع التي شهدها. لقد اكتسب ” جنسية ” فرنسية، قبل أي جهة دولية سياسية أخرى، كون فرنسا حينها كانت مستعمِرة سوريا، وكانت بياندور القرية داخل في حزامها السياسي، والمقر العسكري الفرنسي أعلى التل كان يشهد على سخونة الواقعة سنة ” 1923 “. لقد تشكلت أطراف وألسنة لصوغها تبعاً لمواقفها، وتفاعلها مع الواقعة وقد تم تلقين العسكر الفرنساوي، الهيبة الفرنسية درساً، لا يمكن لحكومة فرنسا أن تنساه، وهي مهزومة أمام إرادة أهل المكان: الكرد قبل أي كان، لتصبح موضوعاً تاريخياً واجتماعياً، وربما أشبه بلغز، لمن يريد الاسترسال في خيالاته.
لا أتحدث عن حيثيات الواقعة، عن المعركة ” البياندورية ” كما تُسمى أيضاً، وهي حقيقة، فهذا ليس مكانه، إنما عما يمكن لتل أن يثير كل هذه المشاعر لمن تعقّب خيوطاً دقيقة مختلفة عنه.
التقطنا صوراً له. ثمة قبور تقاسمته إلى نقطة واطئة منه. بدت القبور كما لو أنها تتنافس حول أهلية المكان: من يكون في القمة، ومن في الجوار. ثمة عراقة تاريخية إذاً للتل.
لم يكن هناك من أثر لأي وجود فرنسي، لأي موقع. فشلنا” فشلتُ ” في إيجاد أثر ولو بسيط، عما يصلنا ” يصلني ” بتلك المأثرة الكردية بامتياز. قبور كثيرة صامتة، لا شواهد تعين على قراءة الصمت القار في الأسفل. قبور دوارس ” ممحوة آثارها “، كما لو أن هناك تقصداً في إحالة التل بمقبرته هذه إلى ما هو عليه، ليتحمس ذوو الفضول المتعدد الأبعاد في استطاقه.
نظرتُ إلى ” الشمال “: الحدود ” التركية ” على بعد عدة كيلومترات، كانت سيارات، آليات ” تركية ” مختلفة تُرى من النقطة ” التلية ” تلك، وهي تتحرك على الطريق الحدودي السريع، بين نصيبين، جزيرة بوتان، سلوبي، وزاخو. طريق منبسط تماماً، كان يسمح للموقع العسكري الفرنسي أن يراقب الجوار، ويستطلع كل حركة. فالموقع المرتفع قوة محسوبة .
حثثنا الخطى بعد ذلك إلى Du gir ê، ولهذه مكان آخر في الإعراب التاريخي، السياسي، والاجتماعي الكردي الصرف. ليس هناك من موقع عسكري، إنما سجلات مآثر كردية في البقاء والتأكيد على أن التلال قادرة على مد المكان بأسماء تبقيه في واجهة التاريخ، حية ومؤثّرة .
لـ Du gir ê، حال بياندور حيث المسافة بينهما عدة كيلومترات، وهي متاخمة للطريق بالمقابل، بعد آخر، يمكن تسميته بالوجاهي، يمكن تسميته بالاعتباري الكردي العام، يمكن اعتباره بالتاريخي الذي يصل ما بين أمه البعيد نسبياً، والبعيد حتى قبل عدة عقود من الزمن، والحديث جداً.
يبرز التل منقسماً على نفسه، هناك بروز في ارتفاعه جهة الشرق، كما لو أن هذه مأخوذة بالشمس التي تغمرها بشعاعها فور ” استيقاظها ” كل صباح. وجهة الغرب، ثمة تل أصغر ، أقل ارتفاعاً، وجرّاء كثافة المدفونين في التلين، كان التوجه نحو الجهة الشمالية الغربية، حيث يكون الطريق شبه الترابي فاصلاً بينهما.
يمكن للناظر، ولحظة الاضطلاع، أن يعاين ” مجتمع المقبرة ” هذا، وكيف جاء الانقسام متدرجاً بتاريخه، من الأقدم إلى الأحدث، بدءاً من القمة، وانتهاء إلى القاعدة العريضة نسبياً.
يمكن للناظر هنا، أن يقرأ تاريخاً كردياً صرفاً برموز كردية لها صيتها الأهلي وأبعد منه منذ أكثر من قرن، بدءاً من القمة، وانحداراً نحو الغرب والشمال الغربي، حيث يتحكم المكان أحياناً بمكانة القبر ومن فيه، إذ توجد مقبرة مستحدثة غرب الطريق المذكور، مسوَّرة ومحروسة ومعتنى بها بشكل لافت لـ ” شهداء ب، ي، د “، تأكيد تمايز واختلاف اعتبار.
التقطنا صوراً من مسافة بعيدة ونحن نعيش مشاعر هذه المقبرة الواحدة في المحصلة، هذا المجتمع، مجتمع الموتى: الأحياء، بطريقة ما، هذه الشهرة التي تصلهم بعضهم بالبعض الآخر.
قبور لا تكتفي بتقديم نفسها بشواها، وإنما ما يبنى عليها، قبور مقبّبة، أو محمية بأسيجة.
قبور مقدَّرة بتعبير أكثر حضوراً بدلالتها: أضرحة ذات مكانة:
من جهة الجنوب، كان هناك قبر قديم ومعتنى به، وثمة شاهدة تعرّف بالمدفون فيها ” الأمير سليمان عبيس ” الذي يذكّر في الحال بمأثرة بياندور. على بعد خطوات، ثمة قبر من كان له سطوة وهيبة، والذي نشرت كتابي باسمه ” دولة حاجو آغا الكردية “، تحتضن رفاته رقعة جغرافية: حاجو آغا. في الأعلى أبيات من شعر الشاعر الكردي الكبير جكرخوين، ضمن مستطيل حجري معلّق، وبالخط الأسود، وهو يخاطبه إثر رحيله، إذ يناديه بـ” قائد الكرد ” وما كان عليه أن يرحل ” سنة 1940 “.
ما أردته، هو معاينة القبور بمواقعها، وشواهدها، قبور أبطال كرد، سياسيي كرد، ووجهاء كرد.
قبور حملت تواريخها: ولادتها ورحيلها النهائي معها، وشواهد ناقصة، وأخرى محطّمة، كما يمكن متابعة ذلك من خلال مجموعة ملتقطة من الصور: شاهدة تتقدم بعبارة” الشهيد ” وأخرى بـ ” المرحوم “، وثالثة، تكتفي بعبارة ” جثمان “، ولكل منها دلالة ومقصد بالتأكيد.
ذلك يحتاج إلى بحث آخر، وفي مكان آخر، وربما أتعرض له، إن أمكنني ذلك، سوى أن المؤثر في الموضوع، هو ذلك الإغراء الذي يشكله مجتمع مقبرة مهيب كهذا، وفي الهواء الطلق، وما يثيره في نفوس أهل المكان، ونوازعهم الاجتماعية، وطريقة ارتباطهم بمن دُفِنوا في المكان الواحد، مكان يجري تقليبه على أوجه شتى، ومقاصد شتى، كما هو حال الكرد تاريخياً .
شكراً للصديقين زيور وآزاد اللذين منحاني من وقتهما الكثير بالتأكيد، وقدَّما لي خدمة معتبَرة بأكثر من معنى ! ذاك الوقت أبقاني صحبة قامشلو وليس قامشلي، وما أبعد المسافة بينهما؟!
من الطرف الشمالي لمقبرة بياندور، شمالاً حيث تكون الحدود ” التركية “
جانب من مقبرة ” بياندور ” وبعض بيوت القرية
الصديقان زيور حاجو وآزاد فيروزشاه حاجو آغا
المؤلف أمام قبر حاجو آغا، وفي الأعلى أبيات من شعر جكرخوين في رحيله 
 يمكن قراءة الأبيات الشعرية تلك، وبعضها ممحو
قطعة متبقية مغروسة في الأرض، من شاهدة قبر المرحوم عبدالرحمن آغا 
عبارة مقروءة بوضوح: الشهيد عباس محمد عباس ” 1898 – 1919 ” 
تم إعدامه على يد الضابط الفرنسي روكال في المعكسر الفرنسي
شاهدة قبر المرحوم حسن بن حاجو آغا
أمام شاهدة قبر المرحوم الدكتور أحمد نافذ
 

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…