جان كورد
ثمة شعوبٍ تُبتلى بقياداتٍ وزعاماتٍ ذات أحلامٍ عظيمة، فتعتقد بأنها قادرة على تحقيق تلك الأحلام في حال التزام شعوبها بما تمليه عليها من أوامر وبما ترسمه من إشارات الطريق، فيلعب الإعلام المنضم لجوقة الأتباع دوراً خطيراً في تقزيم وإهمال ومحاربة كل معارضة تقف حجر عثرة أمام تعليمات القائد/ الزعيم التي ربما لا تكون واقعية أبداً أو تصطدم بمبادىء التفكير العاقل على الأغلب. ومن هذه الشعوب السيئة الحظ شعبنا الكوردي الذي عانى من الظلم والاضطهاد والتمزّق الداخلي ما لم يعانيه أي شعبٍ آخر، ولا ندري هل يستفيق الناقمون أبداً على هذا الشعب من غفوتهم وبساطتهم السياسية بعد ما حدث لشعبنا في عفرين مؤخراً أم لن يستفيقوا، فإن من أعظم مشاكلنا هو الخضوع لقياداتٍ قد تؤدي بنا إلى التهلكة، فكيف بدأت قيادة جبل (قنديل) قبل عقودٍ من الزمن وأين انتهت الآن، فهل ثمة أكثر من شعاراتها وطننطناتها وتهديداتها وحروبها الجانبية وتوريطها الحركة التحررية الكوردية في المهازل المتتالية؟
من قيادات هذا الشعب الخاطئة هذه الفئة القنديلية التي أعلنت كل قيادات أمتنا رجعية ومتخلفة بل وخائنة لأنها لا تطالب باستقلال كوردستان، وعندما فشلت في تحقيق ما رآه الآخرون صعب المنال في تلك الظروف التي نشأت فيها هذه الفئة، إذا بها ترفض فكرة الدولة القومية تماماً وتدعو إلى إقامة دولة “الأمة الديموقراطية!” أي الأممية أو الما فوق القومية، وشأنها في ذلك شأن الساقط في برميل مليء بدهانٍ ما فيخرج ليسقط في البرميل الآخر المليء بلونٍ آخر، ومن القيادات الخاطئة من رفض السير مع سواها من قيادات شعبها فأصرّت على التحالف مع حكومة الدولة التي كانت وظلت تضطهد قومه فوضعت في تلك الحكومة ثقتها، وإذا بها تقوم بالاستيلاء على إرادتها وتسعى لتصفية وجودها في مدينة كركوك التي اعتبرها بعض من يقدسه هؤلاء “قدس الأكراد”، واليوم يعلم هؤلاء الذين كانوا السبب في إضاعة كثيرً من منجزات شعبنا واحبطوا سعيه الحثيث لنيل حقه المشروع في إدارة بلاده بنفسه أن ما قاموا به في كركوك كان بالفعل أكبر خطاٍ اقترفوه في حياتهم السياسية. وهذا مضّر فعلاً بشعبنا ويجلب له المخاطر والمآسي.
ومن قيادات هذا الشعب من اختلط عليه الأمر، فلم يفرّق بين المصالح الاستراتيجية لهذه الدولة العظمى أو تلك، فركض وراء الروس، وعاد ليتهمهم بخيانته، ثم ركض وراء الأمريكان ليتهمهم بعد ذلك بأنهم غير مهتمين بمصلحة “شعوب شمال سوريا!”، وهؤلاء يترفعون عن استخدام مصطلح (الشعب الكوردي) لأن هذا في أدبياتهم رجعية وتراجع عن مبادئهم الأممية وعن فكرة “الأمة الديموقراطية الايكولوجية حسب البراديغما القائدية”. فكان هذا التخبط السياسي وعدم الفهم الصحيح لما يجري على الساحة السورية سبباً أولياً لاحتلال عفرين وتدميرها وسلب أهلها بشكل قذرٍ ودنيءٍ وأليم.
النهج الوحيد الذي يتحرّك ضمن إطارٍ صحيح ويقود الشعب الكوردي بخطى موثوقة ومحسوبة هو نهج القائد الخالد مصطفى بارزاني (رحمه الله)، الذي يتلخّص بالمرحلية في النضال، الواقعية في القيادة، الكفاح بما في الأيدي من أجل المستطاع تحقيقه، والجرأة على تجاوز المراحل بنفسٍ طويل. فكل ما طالب به هذا النهج عبر تاريخه منذ تأسيس الحزب الديموقراطي الكوردستاني وإلى اليوم كان ملائماً للمرحلة التي يناضل فيها وتسير فيه الثورة التي يقودها، سواءً من ناحية الأهداف والمطالب على الكوردستاني وعلى مستوى العراق كدولة يناضل ضمن حدودها، أو من ناحية الممارسة والعلاقات، فالانتقال من مطالب قومية متواضعة إلى الحكم الذاتي ومن ثم إلى الفيدرالية ومن ثم السعي لممارسة الحق في الاستقلال ارتبط على الدوام بقدرات الحزب المادية والعسكرية والسياسية – الدبلوماسية على طول الطريق، والتحديات التي أرغمته على القيام بتراجعات آنية لم تتمكّن من صده عن تطوير آفاق عمله أو لم تقدر على كبح تطلعاته القومية، الملائمة للعصر الذي تتحرك فيه الأجندات السياسية المختلفة. وسعى هذا الحزب إلى إيعاد سائر المؤثرات الآيديولوجية المتناقضة والمتناحرة عن مساره الطبيعي الواقعي، فلا الإسلاميون تمكنوا من تطبيعه بطابعهم الديني الرافض لسائر الآيديولوجيات الأخرى، ولا الشيوعيون استطاعوا احتواءه مثلما فعلوا بحركات التحرر الوطني الأخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ولا الأفكار السوداء للعنصريين والمتطرفين قومياً تغلغلت بشكل معيق لنمو الحزب، فظل بارزانياً كمؤسسه، مناضلاً كوردستانياً كشعبه، مستعداً للتضحية والبذل والفداء كبيشمركته حتى في أحلك الظروف التي مر فيها، وهي ليست قليلة، منها انهيار جمهورية كوردستان في مهاباد، حرب الأنفال المدمّرة ومآساة حلبجة والهجرة المليونية، وهجمات حزب العمال الأوجلاني على الحزب بدفع وعلم وتحريض كبير من الأعداء، وأخيراً هجمات الإرهابيين الدواعش على الاقليم من جهة الغرب، حيث مواقع الديموقراطي الكوردستاني ومن جهة الجنوب حيث حليفه الاتحاد الوطني الكوردستاني، وكذلك هجوم الحشد الشعبي الكاسح على الحزبين المتحالفين (الديموقراطي والاتحاد الوطني) والهادف إلى القضاء عليهما في كركوك والمناطق المنتزعة من الكورد أثناء حكم صدام حسين. إلاّ أن الحزب صمد، وذلك بفضل الله والقيادة الرشيدة له، هذه القيادة التي تملك مشروعاً قومياً طويل الأمد لا تراجع ولا تنازل عنه، وقد أثبت إجراء الاستفتاء الديموقراطي الحر أنه لا يرضخ للأجندات الخارجية، فلو كان حزباً عميلاً كما يشتمه القنادلة صباح مساء لما أصرّ على تنفيذ الاستفتاء في موعده المحدد رغم تهديدات الجيران ومطالبات بعض الدول الكبرى، وفي مقدمتها الإدارة الأمريكية. طبعاً، لولا “الخيانة” التي ظهرت في صف الكورد أنفسهم لأقدم الحزب الديموقراطي ومعه حلفاؤه في الوطني الكوردستاني على إعلان الاستقلال في اقليم جتوب كوردستان، رغم التحديات، وذلك لأن المصلحة العامة للشعب الكوردي تقتضي ذلك، وظروف الاقليم الذاتية ناضجة لدرجة أن يصبح مستقلاً، في حين أن هناك دولاً مستقلة لا تستطيع حماية حدودها بنفسها ولا تستطيع سد نفقاتها الحكومية ولا تقدر على تطوير بنيتها التحتية، أما اقليم جنوب كوردستان فقد أنجز الكثير في مختلف المجالات، الدفاعية والعمرانية والخدمية، بحيث أصبح العراقيون يحسدون شعبنا على ما حققه في سنواتٍ قليلة من مسيرته، ولولا الحصار على الاقليم وكافة محاولات عرقلة وكبح حراكه الاقتصادي عن طريق سرقة بترول كوردستان ومنحه للجيران بثمنٍ بخس، إضافةً إلى هجوم الإرهابيين عليه بهدف تدميره أو تقزيمه خدمةً لأعداء الكورد وكوردستان لكان الاقليم اليوم في وضعٍ اقتصادي جيد حقاً.
وعبر هذه المسيرة الطويلة الأمد منذ تأسيسه حاول نهج البارزاني تثبيت دعائم المجتمع الديموقراطي المؤسساتي وسط بحرٍ مليء بالحيتان المعادية للديموقراطية والخانعة للدكتاتورية والتطرّف المذهبي والعلاقات ما قبل المجتمعات المدنية، وذلك على الرغم من تضافر سائر القوى المعادية لشعبنا وللديموقراطية في سبيل قطع الطرق على نهج البارزاني وصده عن تحقيق أهدافه المتمثلة في بناء مجتمعٍ كوردستاني متقدّم ومتطور. فهل يكف الخونة وأعداء الحرية والديموقراطية عن صب حمم شتائمهم وسبابهم على هذا النهج الساطع في رؤاه القومية الصحيحة ويبدأوا بتوجيه النقد الصحيح الهادف لتلك القيادات التي قادت وتقود شعبنا إلى التهلكة؟
/ 27.08.2018
kurdaxi@live.com