ابراهيم محمود
2- رؤية قامشلي قبل الدخول إليها :
ثمة أخبار وحكايات وإشاعات تعبُر ” دجلة : الماء الكبير Ava mezin ، في اللغة الكردية الدارجة ” عن قامشلي من الجهتين: من يمضون إليها ومن يأتون منها. ولكل منها زاوية نظرها، موقعها، ومغزاها. يمكن للمتوسط الحسابي هنا أن يفيد في لملمة شتات الكلام، في القبض على الصامت، والمغيب في حقيقة مدينة كانت كاسمها قبل سنين سبع، وهي خلاف ما كانت عليه، وهي تعيش وضعية حرب مهما كانت الأعذار. ما الذي خسرته قامشلو لتصبح قامشلي؟ لعل سؤالاً كهذا هو الذي يميط اللثام عن الكثير مما كانته وفارقته !
قولة: لا ليست هذه هي قامشلو التي عشناها لسنين طوال، ربما تثير البعض أو الكثيرين، وبنوع من التهكم قائلين: وكيف لها أن تكون تلك بعد هذه السنين من المكابدات ؟! لا بد أن ردود أفعال كهذه تترجِم ما يجري بالفعل، وتتكتم عما ينبهها إلى خطورة الجاري مجتمعياً هذه المرة ، وهذا يستدعي النظر في نقاط تمارس فصل المقال فيما بين قامشلو وقامشلي من انفصال واتصال !
في الطريق الماضي بالمسافر من ” سيمالكا ” الفاصلة بين جغرافيتين يشغلهما توتر، في بعض الأحيان يبز التوتر مع أي جهة حدودية يشغلها متقاسمو الكرد وجغرافيتهم، لا يحتاج المسافر هذا إلى من يعرّف له بما يجري، أو ما يقدَّم تبريرات، وكما شاهدت وعاينت هذه المرة. ثمة الطريق القديم المليء بالحفر، كأعين مفقوءة، وفي نقاط كثيرة ضاقت به جهتاه، سوى أن مسافة تقدر بقرابة سبعة كيلومترات بعد قطع مسافة قصيرة من سيمالكا، وما تثيره من متاعب جرّاء بروز الحصى الناتىء والمتطاير بين دواليب السيارة، والحجر المكسّر الذي يزيد في رجرجتها، إلى جانب التراب المتطاير، تري بؤس المعايَن، بينما تشاهد بعد مسافة قصيرة آبار النفط وهي تضخ ذهبها الأسود، وهو سرعان ما يجد طريقه في نسبة معلومة منه إلى ما بات يُسمى بـ” الحراقات ” لتزيد كربون المكان كربوناً، وما يترتب على كل ذلك من تهديد مباشر وتدريجي لمنطقة بكاملها: أرضاً، وهواء، وماء، بشراً وحيوانات ونباتات، رغم الحديث المتكرر عن البيئة وسلامتها، ولا بد أن تداعيات ذلك ستكون أوخم في القريب العاجل، وهي توصيفات المرئي وليس مجرد صور شعرية أو تخيلية لطريق سالك بصعوبة وصحبة المزيد من الآلام، أعني بذلك أن سؤال الطريق هو سؤال المدينة، لسان حالها جهة الاهتمام بها .
في الجهة الثانية، يلفت النظر وجود كم هائل من السيارات ذوات الأرقام المحلية، وسيارات تنتظر أرقاماً، يضاف إليها الكم المضاعف من الدراجات النارية، وما في ذلك بالمقابل، من إخلال آخر بسلامة البيئة، السكان، والذين يشغلونها وتوازنانها والقيمين عليها وحساباتهم بالمفهومين: الأخلاقي والاجتماعي طبعاً وهما لا ينشقان عما هو هندسي أو طبوغرافي، دون نسيان نوعية الوقود المستخدمة بالتأكيد، أحسب أن استعمالها بمثل هذه الكثافة ومع هذا الكم الهائل من ” الأحصنة ” الحديدية ذات الدواليب الأربعة، والدولابين، يسجّل موقفاً آخر لا يمكن تجاهله، وهو يفصح عن مدى الإساءة إلى البيئة ومتضمناتها، أو الاستخفاف بها صراحة.
هنا أعتقد، أن أي حديث عن القادمين إلى المنطقة ومن مسافات بعيدة، ودورهم فيما تقدم، لا يشكل تبريراً منطقياً لهذا الجنوح أو الخروج عن ” نص ” السلامة البيئية وأهلها. إنما شهادة حية على مدى التجاهل لها، وما في ذلك من استغراق بأمور تضاعف في الهموم والمخاوف .
ونقطة ثالثة، وقبل أي ولوج/ دخول إلى المدينة، تلك الأبنية الطوابقية التي تحجب السماء عن عيني المشاهد أحياناً، وما يتلوها من سؤال يعقبه توأمه سؤال آخر: كيف لمدينة مثقَلة بمناخات الحرب، أو تتحدث عن تأزمات، وتعيش انفجاراً سكانياً، أن تعيش هذه الحالة: الظاهرة الأكثر من مثيرة للاستغراب، لمن يشد رباط الجاري عمودياً بالجاري أفقياً؟ من الذي يحرّك هذه الجائحة العمرانية، وبهذا المقدار من الضخ المالي وسعار البناء الذي يمتد في الجهات كافة؟
تلك أسئلة تفرزها الصورة المخيفة للواقع، الواقع الفعلي وليس ما يجري ارتسامه، وأراها صورة ” طبقية / محورية ” تصدم بما وراء الحسي، لمن لديه بصيرة ولو بنسبة محدودة .
هل خرجت عن جادة الصواب، حيث وجه الطريق عموماً كوجه خلفية بيتي الطينية المصوَّرة؟