تبعات أدلجة الأسراب البشرية (3)

ماجد ع  محمد 
بناءً على قراءة حالات الجماعات في الظروف الاستثنائية، يكتشف الناظر أن نفسيات الشعوب التي ترعرعت في مرابع النظم الاستبدادية لا تتلاءم بسهولة مع مناخات الحرية، لذا فحتى إن خرجت من تحت سيوف مستبدٍ ما، تراها تتجه لاشعورياً نحو حظائر رؤساء أو أمراء جدد، حيث أن جاهزيتها لتلك الثقافة الإنسياقية هي التي تدعوها الى استمراء ذلك الوضع المعيشي والتعود عليه؛ لذا يغدو الخروج عنه أصعب بكثير من البقاء في ظله، وربما سمعنا عن ملة ما وهي تتمرد على حاكمها وتعمل على  إزاحته، لكنها سرعان ما تقع عند سنابك أفراس سلطانٍ آخر لم يكن بأي شيء أفضل من سابقه، وذلك لأن التمرد على الأول لم يكن خاضعاً لرأي أصحاب العقول الراجحة ولا كانت معبرة عن إرادة المجتمع ككل، ولا الخضوع لسطوة السلطان الجديد جاء بعد مشاورة العقول النيرة أو عبر استفتاءٍ حر، إنما الحالة القطيعية هي مَن أزاحت الأول في لحظة جنون التمرد، ونصّبت الآخر سلطاناً مكان السابق في لحظة الاحتفاء الهيستيري.    
وفي هذا الصدد يذكر الدكتور عبدالكريم بكار في كتابه تفكيك ثقافة الغلو “بأن المواد المسرطنة تفوق الحصر، ولكن وجودها في حياة أي إنسان ليست كافية لجعله يصاب بالسرطان ما لم تكن لديه القابلية والاستعداد لذلك” ما يعني بأن هؤلاء الأوادم كان بالأصل فيهم شيء من الإنسياق والتسليم بكل ما يتلقفونه من مرشديهم ومعلميهم ومن كانوا لهم بمثابة الدهاقنة والزعماء؛ وبخصوص السوريين فإن آفة التسليم بكل ما ينطق به المسؤول أو الممول كانت وراء الكثير من التطاحن الدموي بين بعضهم، وذلك لأنهم حُرموا من آلية التفكير بما يُقال لهم أو يؤمرون به، فاليقين بالجُمل الجاهزة، والإيمان بالإملاءات، وغياب فضيلة الشك كان سبباً رئيسياً للصراعات الدموية بين الفصائل مع بعضها البعض من جهة، وبينهم وبين الأعادي القدماء والجدد، باعتبار أن التمويل والمصالح الدولية كانت كفيلة بتغيير خريطة الأعداء والأصدقاء كل فترة من الزمن.
وعن هذه الأخلاقيات الجماهيرية السلبية يشير غوستاف لوبون الى سرعة انفعال الجماهير ونزقها، وسرعة تصديقها لأي شيء يُقال لها، وعن تعصب الجماهير واستبدادها يقول لوبون: إن “الجمهور مقوّد كلياً من قبل اللاوعي، وأعماله واقعة تحت تأثير النخاع الشوكي وليس العقل”، والشخص السائر مع الحشد عبر آلية اللاوعي بناءً على الأهواء والغريزة، يعود الى الحالة القطيعية، حيث يقول لوبون بأن الفرد المنخرط في الجمهور يقترب من الكائنات البدائية، أي يغدو أقرب إلى الكائن البشري الذي كان يعيش على شكل قطعان بشرية، فهو غير قادر على رؤية الفروقات بين الأشياء، وينظر للأمور ككتلة واحدة، فتغيب قيم العدل والانصاف والوسطية والاعتدال وتغيب كل الألوان لديه ويبقى الأبيض والأسود فقط، فالآخر هو إما سيء  بالمطلق أو أنه جيد بالمطلق، وحسب لوبون أن الانحطاط الذي يعبر عنه الإنسان في لحظة ما يكون سببه الرئيس هو أن غرائز التوحش الهدامة هي عبارة عن بقايا العصور البدائية النائمة في أعماق كل واحد من المنتمين الى القطيع البشري، وكمثال قريب: فالتصرفات الفظيعة التي قام بها عناصر داعش في عموم سوريا، وكذلك ما قام به بعض عناصر الفصائل في عفرين بمقاتلة من وحدات الحماية الشعبية، وما قام به المؤيدون والمعارضون بحق بعضهم من خلال تقطيع الأوصال بالمناشير الكهربائية، وكذلك مشاهد أكل الأكباد وغيرها من الممارسات اللاإنسانية هي تعبر حقيقةً عن الحالة البهيمية لبعض البشر وفق تعبير الكاتب السوري ممدوح عدوان في كتابه حيونة الإنسان، والذي رأي بأن تكفير الآخر وإباحة دمه تتأتى من فكرة استعانة الإنسان المتوحش بالمقدس لكي يجد تسويغأ لممارسة كل أشكال العنف.
إذ حسب علماء النفس البشرية أن الفرد ما أن ينخرط في جمهور محدد حتى يتخذ سمات خاصة لم تكن موجودة فيه سابقاً، أو ربما كانت موجودة ولكن لم يكن ليجرؤ على البوح بها أو التعبير عنها، وهذه الحالات موجودة بشكل فظيع في المجتمعات التي يسود فيها الفكر الاستبدادي بحيث ترى الناس خافية تماماً مستبطناتها، ومن فرط النفاق الذي يعيشونه يخال للمرء بأنهم في وئام تام قائمون، ولكن إذا ما خف الضغط عليهم وصار بإمكان كل واحد منهم التعبير عن مكامنه وفق مصالحه وأهوائه، ترى وقتها العجب العجاب في البشر الذين كنت تنظر إليهم وكأنهم في مقدمة الأوادم، والتجارب الحية عاشها أهل الموصل وعاشها أهالي شنكال، حيث أن أكثر من نكل بهم، وأهانهم، وارتكب الفظائع بحقهم، هو ليس الداعشي المهاجر القادم من وراء البحار، إنما كان ذلك الذي حتى الأمس كان جاراً لهم، وممن يأكل على موائدهم، ولكنه كان يخفي أحقاده وكراهيته وتوقه للانقاض عليهم إلى أن سمحت له الظروف بأن يُخرج كل حقده وحقارته التاريخية في لحظة واحدة.
كما أن السوريين الذين عاشوا النفاق بحذافيرة لعقودٍ من الزمان، تحوّل بعضهم الى وحوش ضارية عندما أزيلت الحواجز أمامهم، وغابت السلطة، انفلت الأمن وذهب العدل، فالسني الذي كان يمدح جاره العلوي ليل نهار ويتملقه ويبحث عن رضاه هو أول من انقض عليه، والعكس كذلك حصل وقد جرت الوقائع الفظيعة بحق السني من قبل جاره العلوي الذي كان يضمر له الكراهية ولكنه لم يستطع التعبير عنها إلا عندما رفع الغطاء عن مثالب ومكنونات الجميع، وهذه الآلية العدائية غدت ثقافة عامة في سورية على مر سنوات الثورة، إذ بدلاً من أن تنظّف الثورة أمراض المجتمع وتطهر رواسبه، صار العكس في سورية، وغدت الكثير من بؤر الضغائن المتفجرة في المجتمع السوري، أشبه بمزبلة كانت ساكنة لسنوات وقد غطتها الأتربة والحشاش وغاب وانطمر قبحها مع روائحها النتنة، وهب جاء مَن نبشها وفجّرها فخرجت مع التفجير كل الروائح الكريهة ولم يعد بمقدور المرء الاقتراب منها من كثرة نتانتها.
وبخصوص الأسراب العسكرية في بلدنا سورية، فقد آمنا بأن أغلب المقاتلين فيها وصلوا إلى حالة  مَن لا هدف معين لديهم، ولم تعد لدى أغلبهم غاية نبيلة يناضلون من أجلها، إنما صار الكثير منهم مجرد أدوات لدى الدول والمحاور المتحكمة بالملف السوري؛ وهؤلاء لا يُلامون على ممارساتهم باعبتار أنهم لم يقدموا أنفسهم كأهل للاصلاح أو حمامات سلام، إنما تبقى المحنة الكبرى هي في بعض النشطاء والكتاب الذين انساق بعضهم كأي رأس من القطيع مع مزامير المتقاتلين، إذ بعد سبع سنوات لم يأخذ الكثير منهم عبرة واحدة من كل ما جرى ويجري في البلد، بل انساقوا مع الدهماء في كل شيء، فأية أحقادٍ كانت تسكن رؤوس من يرون أنفسهم من أهل العلم والمعرفة والقيم يا ترى؟ أم أن العقائد والأيديولوجيات قادرة على أن تعيدهم كالعوام إلى نقطة الصفر؟ كما هو الحال لدى المواطن رشمور كوجلان مدّعي الكوسمبولوتية في قصة الكاتب الأمريكي أو. هنري، حيث أن كوجلان الذي لتوِه كان يثب من قارة لقارة، ويسخر من الحدود والأقاليم والجغرافية والأوطان، ويرى نفسه فوق الأديان والقوميات والجنسيات، ويعتبر نفسه ابن الإنسانية والعالم بأسره، إلا أنه سرعان ما قام  بلكم أحدهم في المقهى، لآن الآخر تحدث عن قذارة شارع كوجلان، فلم يتحمل الرجل الكوني من أحد وصف شارعه بالسوء، واعتبرها المنتمي للعالم إهانة كبيرة له، ضارباً بذلك عرض الحائط بالمثل والشعارات والقيم الإنسانية واليافطات التقدمية التي كان يتبجح بها قبيل حدوث الاشتباك بلحظات. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…