الرعب من الكتابة مرض…و الكلام صحة و عافية!

فوزي الاتروشي

   اجزم ان البعض من الكتاب و الاعلاميين في كوردستان العراق مصاب برعب من الكتابة لايقلُّ عن الرعب الكيمياوي الذي أصبنا به ابان النظام السابق، فكان مجرد التلويح بالاستخدام يجعل المدن الكوردية خالية و ترى الكل يتناثر في الطرقات الجبلية محمولاً برعشة الموت القادم!، وهذا ما حصل في شباط 2003 و كنت حينها في اربيل التي تحولت فجأةً الى مدينة اشباح.

و الفارق هنا ان الوضع في كوردستان مازال بخير و اذا كانت انتهاكات قد حصلت، وانا ضدها طبعاً، فان القاعدة باقية و هي ان لنا حرية الكلام و نتطلع القانون الجديد للصحافة الذي يتحتَّم ان يكون حاضنة دافئة لحرية التعبير و ضمانة لاعلام متميز و ناضج و قادر على لعب دور السلطة الرابعة بجدارة.
   حتى ذلك الحين نقول لكل مقامٍ مقال، و طقس هذه الايام يشير ان الخوف من الكتابة المعمَّقة و الناقدة و الداخلية الى احشاء المجتمع كمبضع الجراح، قد تحول لدى البعض الى عارض مرضي، و اذا تحرَّينا السبب نجد الكثيرين حملة الاقلام الهشَّة اما يضحكون او يصمتون او يزعمون ان السلطة او الحزب هو الذي اجبرهم على الاقامة في غرف بدون تهوية و بنوافذ مغلقة و فرض عليهم الكتابة وفق محرار مقيد بدرجة حرارة محددة لايجوز تجاوزها، وان الخطوط الحمراء ألغت “الاخضر” لون المرور الآمن عبر الشوارع.
   ولكن دعونا نتوقَّف قليلاً لنناقش الذرائع، فالصمت لايعني سوى العجز عن الكلام او الايضاح المبهم او انطلاقاً من مقولة اذا كان الكلام من فضَّة فالسكوت من ذهب و السكوت هو سكون و جماد و موت للغة على لسان اعلاميين يفترض ان الكلام سلاحهم الأمضى في الحياة.

و نترك هذه الاقلام الصامتة تكتب بدون طعم او نكهة او رائحة يومياً مقالات طافية على سطح الماء و تفرز تحليلات مناسباتية خطابية مناقبية مزركشة بألوان و تخطيطات تفوق في أناقتها حزمة ألوان الزي النسائي الكوردي التقليدي.

ولا اكتم سراً ان في الاقليم ثمة من يكتب في العام مقالاً او مقالين رغم انه لا يملك موهبة الكتابة و يعجز حتى عن كتابة رسالة الى زوجته، و حيلته هو اللجوء الى كاتب معين لتجير مقالة له وفق قياساته لنشرها في احدى صحف الاقليم، ومن ثم يخفت صوته و يذوب لحين قدوم مناسبة جديدة.

اما الذين يلومون السلطة و الحزب فانني اذ اعترف ان بيئة الاقليم هي جزء من البيئة الفكرية و الابداعية للعالم الثالث الذي مازال يضع للحرية اشتراطات سياسية او اجتماعية، الا ان السلطة الكوردية و الاحزاب السياسية لم تصبح بعد جداراً سميكاً امامنا يمنع الجهر بالكلام و الرأي و التعبير.

و لا ادري هل هي صدفة سعيدة ام نهج عملي موجود ولو بشكل نسبي لدينا، وهي انني امارس منذ اكثر من 30 سنة عملي السياسي مقروناً بالعمل الاعلامي الذي دشنته بالعمل في صحيفة “التآخي” في بغداد عام 1972 و كان عمري (19) عاماً على يدي المناضل الراحل دارا توفيق، و لغاية اليوم لم أتعرَّض لمضايقة من الحزب او فرض شروط مسبقة و قوالب جاهزة للكتابة.

اقول هذا الكلام ليس دفاعاً عن الجسم السياسي الكوردستاني حكومة و احزاباً، و لكن لكي اسجل حقيقة تتعلَّق بي، و يمكن تعميمها بشرط ان يكون الكاتب ذا رؤية ثاقبة و خبرة في المعالجة و تاريخ نضالي يعطيه الحق لاختيار الاسلوب ووجهة النظر و للانتقاد بشكل ايجابي صحي بعيداً عن الفوضوية و التجريح و قلب الحقائق رأساً على عقب.


   ان الاحزاب الكوردية و الحكومة بامس الحاجة الى اقلام ترفض المصالحة مع الواقع الكريه، و تأبى التجانس مع التقاسم التي حفرتها التجاعيد و الندوب و قيح الجراح المهملة.

و الاحزاب مجبرة على قبول ما تخطُّه اقلام مثقفين و كتاب لا مصلحة لهم الا تطوير الواقع و تجديد الحياة و رفد الثورة الكوردية بالمزيد من شموع الامل، فازمة المثقف انه مثقف ولا يعني ذلك سوى ان المجتمع مادام مأزوماً فان المثقف الحقيقي يظلُّ مأزوماً لان قدره ان يكون جسراً يعبر عليه الآخرون نحو ضفاف الحرية الخضراء.
   ملخص الكلام ان الكتاب الاكراد في الاقليم عليهم كما قلتُ عام 2002 في صحيفة “المؤتمر” اللندنية، هجرة الكتابة النمطية الاستهلاكية التي تجترُّ نفس المعاني و تعوِّل على نفس المباني و الكلمات التي عفا عليها الزمن و أكل الدهر و شرب منها حتى شبع.

يقيناً كما قلت ان ثمة قصوراً لدينا في فهم وظيفة الكتابة وان ثمة مسؤولين يجد النقد عدوَّاً لدوداً ولا يعشق الا الاطراء و لا يطرب الا لقصائد المديح، كما ان اقلاماً تعرضت لبعض اللوم و الادانة و التضييق وذلك امر ينبغي مراجعته في ظل آفاق تجربة نريدها ديمقراطية بكل معاني الكلمة، ولكن الاقلام المتمرِّسة المقترنة بالماضي الوطني العريق و القدرة على التغيير عليها ان لا تتوانى و تهادن لان البيت اذا سقط فانه يسقط على كل ساكنيه، وبين عشرات الاقلام الصامته او الخائفة او المناسباتية فاننا حشد المثقفين المناضلين لايجوز ان نصمت فالصمت للجثث و القبور و بما اننا لسنا جثة هامدة، بل كتلة مشتعلة من الحركة و التفكير و الوعي و استشراف المستقبل فان اجمل عطاء نقدمه لاحزابنا و لحكومتنا الاقليمية هو ان نمارس الكلام و نقتحم “المحرَّمات” و نغسل جسمنا من الصدأ و التآكل و نمنع اعراض الشيخوخة التي قد تهاجم على وجه التجربة الكوردية في العمل و البناء و التنمية، و نقوِّي جسد الاحزاب الكوردستانية بالكلمة الصادقة القوية الواقفة على قدميها والتي لاتموت وحتى اذا ماتت تموت كما الاشجار واقفة.
   ان جمهور المثقفين المناضلين هو الذي نعوِّل على كتاباته التي تدافع بحق عن التجربة الكوردية في الوسط العالمي او التي تنتقد بحق بعض ظواهر المرض و الوعكات الصحية التي تصيب الجسم الكوردي، و لهم اقول ان الدنيا مازالت بخير و القيادة السياسية في الاقليم تقبل المكاشفة و المصارحة و المناقشة و الحوار الحضاري، و قدرنا و قدر اقلامنا هو البقاء مع الثورة الكوردية، ثورة فقراء و بسطاء الشعب الكوردي.

عام 1986 كتبنا فب صحيفة “وه لات” التي كان يصدرها الفرع الاوروبي للحزب الديمقراطي الكوردستاني مقالاً بعنوان “لماذا و لمن نكتب”، وكما قبل (21) عاماً اجدد اليوم ما قلته اننا نكتب لنغيِّر و نعشق الجميل و نعالج بسنِّ القلم التقاسيم القبيحة، و نحن لا نكتب كلمات تتبعثر في الهواء، بل نكتب لقراء يستوعبون آليات التجديد في العمل و المواصلة و حرق الذات للآخرين.
ألم يقل الشاعر التركي العظيم ناظم حكمت:
ان لم احترق انا..
ان لم تحترق انت..فمن ينير الطريق للآخرين.
لاحزابنا السلام و لحكومتنا نتمنى اعلى مقام..

اما نحن فلن نبرح خندق الكتابة و التعبير و الكلام

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…