كمال أحمد
إنّ ما أظهرته الإنتخابات التركية ، من خلال التحالفات الإنتخابية للقوى السياسية ، على الساحة التركية ، ومن ثم من خلال البرامج الإنتخابية ، والبروباغندا الترويجية المرافقة والمواكبة لها ، وتجنب معظم هذه القوى التحالف ، أو حتى التقرب من حزب الشعوب الديموقراطية الكردي ، وظاهرة التعصب القومي الطوراني ، الذي سيطر على معظم الخطاب البرامجي والدعائي ، لمعظم هذه الأحزاب والقوى ، وإلتقائهم جميعاً ( ولكن بألوان وأطياف متباينة ) حول ثوابت ومقولات ” أتاتورك ” علم واحد ، شعب واحد، ولا مكان للآخر ، اي آخر وخاصة الكرد منهم ( جميع القوميات التي تعيش ضمن الجغرافيا التركية ، هم أتراك بالضرورة ، فإن لم يكن بالقرآن كما يقال ، فبالسلطان ) كما هو حال المنطلقات النظرية لحزب البعث ( كل من عاش على أرض عربية فهو عربي ) كل هذا كان بمثابة ” نفخة في الرماد ، لتظهر للعيان ، جذوة ثقافة إقصاء وتهميش الآخر ،وربما إزالته وإلغائه إن أمكن ، ، وأماطت اللثام عن محطات تاريخية ، في صيرورة وثقافة التعصب الطوراني تجاه الآخر المختلف ، وخاصة تجاه الكردستانيين
بداية لا بد من التأكيد على إيماننا بأنّ الحقائق نسبية ، ولكن الوقائع التاريخية ، وعلى ضوء الرؤية الواقعية لمساراتها وتداعياتها السياسية لها ، تدلل على أنّ البعض من هذه الحقائق ، تشذّ عن هذه القاعدة ، و تبدو وكأنها ترتقي وتصبح مطلقة ، ومن بعض هذه الثوابت والمطلقات ، التي أصبحت سارية منذ الأزل ، هي نظريات ” التصارع والتنازع والغلبة لدى الجنس البشري ” ثم ” البقاء والغلبة للأقوى ” ثم ” قول فيلسوف القوة فريدريك نيتشة ” حفنة من القوة خير من قنطار من الحق ” ” ثم ” الحكم لمن غلب ” وثم ” القوة تكمن في توحد الجماعة وشد أواصر العصبوية القومية لديها ” وثم ” وأنّ مصادر قوة الجماعة متعددة منها سياسية وإقتصادية وثقافية وغيرها ، ولكن جوهر هذه القوة لدى الجماعة ، تكمن في الشد العصبوي القومي لديها “، ولكن الغطاء، أو المظلة ، أو الإيديولوجيا التي تعمل في ظلها ، العصبوية القومية ، تأخذ أشكالاً وألواناً وأطيافاً متباينة ، تبعاً ووفقاً وتوافقاً مع ، مسيرة ومسار الحركة والنشاط ، ومصالح ” ذوي العصبة ” نحو الإستحواذ والهيمنة على السلطة والثروة ، ومن ثم المحافظة على استدامتها وإستمرارها ، وهذه الأغطية والمظلات التي تتلون وتتطيف ، مثل المظلة الدينية ، والأممية ، والإنسانية ، ما هي إلآ أساليب لجر وإستغلال القوى القومية غير المنظمة ، والساذجة ، لتعمل لدى العصبوية القومية المنظمة ، وتصبح بيادق وجنودا في حروبها مع الآخرين ، وأحطابا في أوار نيرانها وصراعاتها ، بغية تحقيق مشروعها ، الهيلماني ، التسلطي .
ويبدو أنّ الكردستانيين لم يتعظوا، ولم يستعبروا ، من وقائع التاريخ وسيرها وصيرورتها ، ويغلب عليهم طابع الغفلة والسذاجة ، ويتشيثون بالغطاء والمظلة ، ويتجاهلون ويتغافلون عن العصبوية القومية التي تعمل تحتها ، ويصبحون ، سلفيين ، أكثر من الصحابة المسلمين ، ( خالد النقشبندي ، بديع الزمان النورسي ، والبوطي و كفتارو ، و غيرهم ، ) و يصبحوا أمميين وماركسيين أكثر من ماركس ولينين، ( خالد بكداش )
وما الإنتخابات التركية ، وقبلها إستفتاء إقليم كردستان العراق ، إلآ دليل جديد ، ليؤكد المؤكد ، ويظهر البداهات والمسلّمات ، ويبرهن على صحة ما نرمي إليه ..ولكن قبل تناول الإنتخابات التركية ، والإستفتاء العراقي ، لا بأس من ‘إستحضار بعض الوقائع التاريخية ، لعلها ، تجد من الكردستانيين من يتعظ منها ، وتنتابهم عصفاً ذهنياً ، وتستيقظ في ذاكرتهم ، إلهام الحكمة التي تقول ” ماحكّ جلدك مثل ظفرك ” وأن هذا الظفر يكمن في وحدة الصف ، وتراص الجماعة ، وإلتحامهم حول وحدة الهدف ، وهذا حال معظم العباد ، ويستعبر من حكمةهذا التاريخ !!!!!
لدى العودة إلى تاريخ الإمبراطوريات ، التي حكمت بقاع واسعة من هذا العالم ، وفي فترات مختلفة ، وتحت أسماء وإيديولوجيات مختلفة أيضاً، سواء أكانت دينية كما كان حال الامبراطورية البابوية الكاثوليكية ، أو الامبراطورية الإسلامية ، بمراحلها المتتالية ،( الخلافة الراشدة ، ثم الأموية ، فالعباسية ، فالفاطمية ، فالأيوبية ، والمملوكية ، والعثمانية ، )أو إمبراطوريات ملكية ، وإستعمارية تحت مسميات مختلفة ، يتبين لنا ، أنه كان هناك ، قوى قومية معينة بعينها ، تسيطر على الثروة والسلطة ، وعلى مركز القرار ، في قلب نظام الحكم لهذه الإمبراطوريات ،وإستطاعت تحت سقف وإيديولوجيات هذه الإمبراطوريات ، وبواسطتها ، وبدافع قومي ، أن تحقق ، ليس التحكم السياسي ،و الإستعماري ، فحسب ، بل إستطاعت أن تستعمر الشعوب المنضوية ضمنها ثقافيا ولغويا ، حيث فرضت الإمبراطورية الرومانية ، اللغة اللاتينية القومية على مجمل أنحائها واصقاعها ،وكذلك فعلت الإمبراطورية الإسلامية ، حيث فرضت اللغة العربية القومية ، على مجمل الشعوب التابعة لها ، وأيضا الإمبراطورية الإستعمارية البريطانية ، حيث فرضت لغتها الإنكليزية على مجمل شعوب المستعمرات ، ونرى أنّه من المفيد إيراد بعض الأمثلة للدلالة والبرهان على ما نرمي إليه :
(a – الإمبراطورية الرومانية : كانت القبائل الإيطاليقية ، التي كانت تسكن في إقليم ” لاتيوم” – وعلى ضفاف نهر” التيبر “وهو الجزء الأوسط من شبه الجزيرة الإيطالية – وفي مدينة روما القديمة، هي كانت نواة تشكيل “الإمبراطورية الرومانية ” والتي سيطرت على الثروة والسلطة فيها ، وفرضت لغتها اللاتينية ، كلغة رسمية على كافة مؤسسات الإمبراطورية ، التي إنتشرت عبر المتوسط ،وإلى جزء كبير من أوروبا، بفعل الفتوحات الرومانية. وأصبحت اللاتينية ، لغة السلطة البابوية الكاثوليكية فيما بعد ، بعدأن أصدر الامبراطور الروماني قسطنطين بعد إعتناقه وتبنيه المسيحية ( وبتأثير كبير من والدته هيلانه ،التي كانت قد إعتنقت المسيحية قبله )، فيما سمي ب ( مرسوم ميلانو عام 313 م ) بإضفاء الشرعية ، على العبادة والشعائر المسيحية في معظم أنحاء جغرافية الإمبراطورية الرومانية .
(b – الإمبراطورية الإسلامية : كانت قبيلة قريش العربية ، نواة تأسيس هذه الإمبراطورية ، وبقي القريشيون العرب ، هم عصبها الأساس ، وهم المهيمنين والمسيطرين على الثروة والسلطة فيها ، على مدى حقبتي ، الخلافة الراشدة ، وحقبة الملك العضوض الأموي ، وحقبة قصيرة من العصر العباسي ، ثم إنتقل مركز القوى ، في العصر العباسي الوسيط إلى القومية الفارسية ، بعد إستيلاء البويهيين على مقاليد الأمور ، لينتقل بعدها إلى العنصر التركي ، بعد إستيلاء السلاجقة الترك ، على زمام الأمور ، لينتقل مركز القوى بعد ذلك ، في العصر المملوكي إلى العنصر التركي ، بعد إستيلاء المماليك البحرية على السلطة ، ثم إلى العنصر الشركسي ، بعد إستيلاء المماليك البرجية على مقاليد الحكم في الدولة الإسلامية المملوكية
(c – الإمبراطورية الإستعمارية البريطانية ، : التي لم تغب عنها الشمس ، بدءاً من نيوزيلانده في الشرق ، وصولا إلى كندا في الغرب ، لا شك أنّ الهيمنة والسيطرة فيها كانت للعنصر الإنكليزي ، وهناك الكثير من الأمثلة ( سواء التاريخية ، كسيطرة العنصر التركي في ظل الإمبراطورية العثمانية ، أو الحديثة ، كسيطرة العنصر الروسي في ظل الإمبراطورية السوفيتية )ولايتسع المقام لإيرادها جميعاً
(d – وأيضاً يجدر بنا الإشارة إلى معاهدة ” ويستفاليا ” الشهيرة عام 1648 م التي قضت على سلطة الكنيسة الكاثوليكية ، ووضعت ورسمت الحدود بين السلطتين الدينية والدنيوية ، وفصلت بينهما ( واعطت ما لقيصر .لقيصر .واعطت ما لله .لله ) وأرست أسس وبنية الدولة القومية في أوربا ، حيث قام فيما بعد ” أوتو فون بسمارك ” الزعيم البروسي بتوحيد الأمة الألمانية ، بضم الدوقات والامارات الألمانية ، وذلك بشد العصب القومي الألماني ، وكذلك فعل الزعيم الإيطالي ” جوزيبي غاريبالدي ” بتوحيد الكيانات الإيطالية ، والشيئ ذاته ينسحب على غيرها من القوميات الأوربية ، التي مازالت قائمة ومستمرة على أسس قومية ، والتي تدلل وتبرهن على متانة الوشائج والأواصر القومية ، ودور الشد العصبوي القومي ، للوصول إلى السلطة، والمحافظة عليها فيما بعد ، كما هو الآن في القارة الأوربية ، وحتى في مختلف دول العالم .
وهنا نعود إلى توصيف الوقائع والظواهر ، التي رافقت الإنتخابات التركية ، وقبلها الإستفتاء على حق تقرير المصير ، وإعلان إستقلال إقليم كردستان العراق ، للدلالة على ما نرمي اليه ، والتأكيد على ضرورة العصبوية القومية للكردستانيين ، وأنّه الشرط اللازم والضروري ، ولكن لا ندعي أنّه الكافي ولكنه الشرط الأساس ، والضروري … وذلك من خلال التجليات التالية :
1 )- تحالفات الأحزاب التركية …والعنزة الجرباء : من خلال متابعة مجريات ، الإنتخابات التركية ، ومواقف الأحزاب التركية المشاركة فيها ، وشكل ومكونات التحالفات الإنتخابية ، يتضح الدور الأساسي لظاهرة العداء الدفين للحقوق الكردستانية ، في مجمل العملية الإنتخابية ، وتجنبت مختلف القوى السياسية التركية بإيديولوجياتها اليمينية منها ،وحتى اليسارية أيضاً ، التقرب من حزب الشعوب الديموقراطية ، أو التنسيق معه ويتضح ذلك، من خلال التجليات التالية :
(a – بداية كان تقديم موعد الإنتخابات ، التي كانت مقررة في عام 2019 م و الذي أقدم عليه السيد أردوغان ، والذي حدده في 24 / 06 / 2018 م ما هو إلآ رسالة تحريض ، وتجييش ، وتأجيج للذاكرة العدائية للكردستانيين لدى القومويين الطورانيين ، وذلك ليس بإعلانه الحرب المقدسة على الكرد على المستوى الوجودي لهم أينما كانوا ، بل الإدعاء والإعلان بالإنتصار فيها ، إبتداءاً من حشد جيوشه على حدود إقليم كردستان العراق ، إبان عملية الإستفتاء على الإستقلال ، وإغلاق المعابر والمنافذ البرية، و كذلك إغلاق المجال الجوي ، وممارسة الحصار الإقتصادي ، وتنفيذ العمليات العسكرية ، في سنجار ، والغارات الجوية على ، جبال قنديل في شمال الإقليم (و بالتوافق وبالتنسيق مع أعداء الأمس من العراقيين والإيرانيين طالما أن العداء للكرد يجمعهم ) ومن ثم عملية ” درع الفرات في جرابلس والراعي ومنطقة الشهباء، ليتوجها بعملية إحتلال عفرين ، وليقدم نفسه أنه من أبطال الحروب المقدسة : كالسلطان سليمان القانوني على أبواب وأسوار فيينا ، أو مثل مصطفى كمال أتاتورك ، وهويحارب الكفار من اليونانيين والطليان وغيرهم في إزمير وإنطاليا وإسبارطة ، و إعتبار المعركة على الكرد بجبهاتها المتعددة ، ما هي إلآ وجبة ساخنة وطازجة ، يتم تقديمها على مائدة القومويين الطورانيين ، لتأجيج العداء للكردستانيين لديهم ، وإلحاقهم جميعا بطوابيره الإنتخابية .
(b — من خلال إستعراض الأحزاب التركية ،التي شاركت في الإنتخابات الأخيرة ، يمكن حصرهم في الأحزاب التالية : ( حزب العدالة والتنمية ، ) و) ( حزب الشعب الجمهوري ) و ( حزب الحركة القومية ) و ( وحزب المجتمع الديموقراطي – تركيا ) و ( وحزب اليسار الديموقرطي) و ( حزب السعادة ) و ( وحزب الإتحاد الكبير أو الوحدة الكبرى ) و ( حزب الشعوب الديموقراطية ) و ( الحزب الجيد ) و ( حزب تركيا المستقلة ) و ( حزب الوطن ) و ( وحزب العمل التركي ) و( الحزب الشيوعي التركي ) و ( والدعوة الحرة )
(c – التحالفات الإنتخابية التركية : شهدت التركيبة السياسية التركية تقلبات غير مألوفة، إذ باتت التحالفات تتحرك وفق المصلحة السياسية، متجاوزة (ولو مرحلياً) إطارها الأيديولوجي، فبعد سنوات من الصراع السياسي تحالف الحزبان القوميان؛ حزب الحركة القومية وحزب الاتحاد الكبير، مع حزب العدالة والتنمية الحاكم، تحت إطار ما سمي بــ(تحالف الشعب)، في المقابل أعلنت أربعة من أحزاب المعارضة تشكيل تحالف انتخابي أسمته (تحالف الأمة)، ويضم حزب الشعب الجمهوري (العلماني)، وهو أكبر أحزاب المعارضة التركية، إلى جانب نقيضه الفكري حزب السعادة (الإسلامي)، وحزب الخير (القومي المنشق عن الحركة القومية)، وكذلك الحزب الديمقراطي (اليساري)، في حين يغيب عن التحالفات الانتخابية حزب الشعوب الديمقراطي
(d – بقراءة ورؤية تحليلية ، لطبيعة ومواقف الأحزاب التركية المشكلة للتحالفين الإنتخابيين ( التحالف الأردوغاني تحت إسم ” تحالف الشعب ” وتحالف أحزاب المعارضة تحت إسم ” تحالف الأمة ” يتبين ، ويطفو ، ويظهر العداء الدفين للحقوق الكردستانية ، لدى مختلف المكونات السياسية ، التركية ، الاسلامية منها ، واليسارية أيضاً ، وهذا الموقف العدائي للحقوق الكردستانية ، وثقافة نفي وإقصاء ، وتهميش الآخر ، تبين أنّه ديدن وموقف كلا التحالفين ، الموالاة الأردوغانية ، وكذلك المعارضة الكليج اوغلونية ، هذا العداء الذي يجمع ، اليسار مع اليمين ، والشمال مع الجنوب ، والشرق مع الغرب ، والدليل ، حيث آثر ، وفضل ، حزب السعادة الاسلامي، التحالف مع الحزب الجمهوري العلماني ، ومع الحزب الديموقراطي اليساري ، والملفت أنه حتى الأحزاب اليسارية ذات الوزن والحجم، تجنبت التحالف مع حزب الشعوب الديموقراطية المتهم دائما ، من قبلهم بأنه الذراع السياسي لحزب العمال الكردستاني pkk ومن المفيد الإشارة إلى أن هذا الحزب ،أي حزب الشعوب الديموقراطية ( هو من الأحزاب التي تدعو إلى أخوة وديموقراطية الشعوب المكونة للدولة التركية ، متجاوزا العرقيات و الأديان والمذاهب ، ويناضل في سبيل إيصال مختلف المكونات ، القومية منها ، وحتى الدينية والمذهبية ، التي يضمها الجغرافية التركية ، إلى حقوقها المشروعة .
2 ) – ومن الجدير ذكره أيضاً ، أنّ مما نرمي اليه ، من خلال ما تم استعراضه في الفقرات السابقة ، ولا ندعي بأننا إكتشفنا ، أو عثرنا على شيئ جديد ، والذي مما قد يعتبرها البعض من القراء الكرام ، هو وصف وإجترار لواقع معاش ، وقد يبدو كذلك ،لكننا نرى برؤيتنا المتواضعة ، أن هناك حقائق قد تكون غائبة عن ملاحظة ومدارك البعض ، وهي ، أنّ هناك فارق وحيز يفصل بين ، ” ماهو كائن ومعاش ” وبين ” ما ينبغي ويجب أن يكون ” أي أنّ أنصار ومريدي نظريات ” ما ينبغي أن يكون ” سواء الدينية الماورائية ، والمستندين إلى الوحي الإلهي ، أو الوضعية الإنسانية المستلهمين من مفهوم العدالة الفطرية ، والإرادة الطيبة ، وإشاعة الخير والعدالة ، والذين يسعون نحو الكمال والمثالية في تحقيق العدالة الإجتماعية ، والمساواة بين المكونات الإنسانية ، في توفير وتكافؤ الفرص في أحقية وإمكانية الوصول إلى السلطة والثروة ،ولكن السؤال ، هل هذه الرؤية لديهم ، بالرغم من قيمها العالية والمثالية ، والتي يتمناها الجميع سائدة في التعاملات البشرية ، وتساهم في تنظيم العلاقات بينها، هل هذه الرؤية أي ” ماينبغي أن يكون ” قابلة للتطبيق؟؟؟ ، أو هل لو طبقت لفترة ما ، هل هي قابلة للإستمرار والديمومة ؟؟؟
ولدى تناول نظرية ” ما ينبغي أن يكون ” أي السعي للكمال والمثالية ، لا شك بأن هناك أديان ، و منظومات ، ونظريات ، وفلسفات ، ظهرت على مر ومسيرة التاريخ البشري ، وحملت الكثير من القيم الأخلاقية ، والإنسانية ، منها دينية ما ورائية ، مثل وصايا موسى العشرة ، إلى عظة الجبل لعيسى ،إلى التراث الإسلامي ، إلى الزرادشتية ، إلى البوذية ، والكونفوشية ، ومنها ما كانت وضعية ساهم فيها الكثير من المنظرين وعباقرة الفكر، والفلاسفة ، لوضع أسس وقواعد ، وضوابط ، لإدارة العلاقات والتعاملات بين المكونات الإجتماعية ، بما يحقق العدالة ، والمساواة ، وتكافؤ الفرص لجميع المكونات البشرية ، للحد ومنع طغيان فئة ، أو مجموعة على أخرى ، سواء من حيث تولي السلطة ، أو من حيث توزيع الموارد والثروة ، مثل قانون حمورابي البابلي ، وجمهورية ومدينة أفلاطون الفاضلة ، والقانون الروماني ، ومن ثم ظهر في العصور المتأخرة ، عباقرة مثل جان جاك روسو الفرنسي ، صاحب العقد الإجتماعي ، ورسم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، وكذلك توماس هوبز البريطاني ، وكارل ماركس الألماني ، صاحب النظرية الماركسية ،
أما أنصار ومريدي نظريات ” ما هو كائن ومعاش ” فلهم منحى وإتجاه آخر، مثل كارل فون كلاوزفيتز ، المفكر الألماني وآرائه حول علاقة الحرب بالسياسة ، وقوله الشهير : ” الحرب كونها امتداد للسياسة لكن بوسائل اخرى” ، كما يقول في الحرب ” ان الهدف من الحرب هو جعل العدو ينفذ ارادته”. وبينجامين دزرائيلي ، رئيس الوزراء البريطاني في القرن التاسع عشر ،وصاحب القول الشهير “(إن بريطانيا ليست لها صداقات دائمة أو عداوات دائمة، ولكن بريطانيا لها مصالح دائمة ) ويرى أصحاب هذه الرؤية ، بأن إدارة الشأن العام ، و طرق وأساليب الوصول إلى الحكم وممارسة السلطة، وسياسة ادارتها ، للمحافظة عليها ، هي ليست بالضرورة ، تتفق وتتطابق مع القيم الأخلاقية ، والمثل العليا ، ( التي تراها أصحاب رؤية ” ما ينبغي أن يكون ” )بل يحددها المصالح الاقتصادية والسياسية . أي يحددها ما هو كائن و الواقع المعاش
وعلى رأس هؤلاء هو “نيقولا ماكيافيللي ” الذي يرى بأنّ ” السياسة هى فن ممارسة الممكن ، وليس ما يجب أن يكون ، وله آراء وأقوال كثيرة في ذلك مثل .• تهدف السياسة بالأساس إلى الإستحواذ على السلطة والبقاء والاستمرار من خلالها،– وهى مجموعة الطرق والوسائل والآليات المستخدمة للإبقاء على السيطرة .
• إن سيطرة الممارسة تتجه بدورها إلى إخضاع الكل الاجتماعى (بما فيه الدينى والأخلاقي) • السياسة ممارسة واقعية تبحث فى الواقع، ولأجل الواقع، عما يمكّن السلطة من الاستمرارية، فأي محاولة لإخضاع السلطة للمثالية ، واليوتوبيا ،والأخلاقيات تؤدى إلى فقدانها
وهو صاحب المقوله الشهيرة أن” الغاية تبرر الوسيلة”، و أن” ماهو مفيد فهو ضروري” ، وهي” صورة مبكرة للنفعية والواقعية السياسية.”ويرى مكيافيلي أنّ هناك طريقتان للنضال. إحداهما بحسب القوانين ، والأخرى بإستخدام القوة، الأولى مناسبة للبشر والثانية للوحوش. و لكن بما أن الطريقة الأولى كثيراً ما تكون غير فعالة، فيقتضى الأمر الإلتجاء إلى الثانية. وعلى الأمير أن يفهم جيداً كيف يستعمل كلتا الطريقتين: طريقة البشر وطريقة الوحوش .. ولكن بما أنه يجب عليه أيضاً أن يعرف كيف يستخدم طريقة الوحوش فى حكمه، ينبغى له ألا يختار من بين الوحوش الأسد و الثعلب، فالأسد لا يستطيع أن يحمى نفسه من الشراك، و الثعلب لا يمكنه حماية نفسه من الذئاب .. وأن أكثر الأمراء حزماً، لا يمكنه ولا ينبغى له أن يحافظ على كلامه، عندما يكون فى المحافظة عليه ضرراً له ، عندما تزول الأسباب التى ألجأته إلى الوعد. ليست هذه مشورة طيبة عندما يكون جميع الناس من الأخيار .
و لكن بما أنهم خائنون ولا يثقون بك ، وجب عليك أنت بدورك ألا تثق بهم. وما من أمير حار فى التفكير فى أعذار مقبولة لتغطية عدم التمسك بوعده .. غير أن الناس يظلون ساذجين و محكومين بإحتياجاتهم الحالية، حتى أن من يرغب فى خداعهم لا يخفق فى العثور على (مغفلين) راغبين .. وهكذا من الخير التظاهر بالرحمة والثقة والإنسانية والتقوى والاستقامة ، وتكون هكذا أيضاً، ولكن يجب أن يبقى العقل متزناً ، حتى إذا اقتضى الأمر صار فى مقدورك ، وتعرف كيف تتحول إلى العكس بسرعة .. يرى كل شخص ما تظهر عليه!!!!، ويعرف القليلون ما أنت عليه !!!!!
و يطرح مكيافيللي هذا السؤال : هل الأفضل أن يحب المرء أفضل مما يخاف؟ ، أو يخاف أفضل مما يحب؟ قد تكون الإجابة أننا نرغب فى كليهما، و لكن بما أن الحب والخوف قلما يجتمعان معاً، فماذا وجب علينا أن نختار بينهما؟
من الأكثر أمناً أن نخاف أكثر مما نحب. إذ، نؤكد عموماً أن الناس ناكرون للجميل ومتقلبون وخائنون ويعملون كل ما فى طاقتهم لتجنب الخطر، وجشعون يتكالبون على الربح، يقفون إلى جانبك طالما كان فى وسعك أن تغدق عليهم المنافع، و على استعداد للتضحية بدمائهم إذا كان الخطر بعيداً كما يضحون بممتلكاتهم وحياتهم وأولادهم .. حتى إذا جاء وقت الجد أداروا لك ظهورهم !!!!
3 – العبرة والخلاصة للكردستانيين : من خلال ما تم سرده وإستعراضه ، وخاصة بضرورة التفريق بين رؤية ” ماينبغي أن يكون ” وبين رؤية ” ما هو كائن ومعاش”
حيث نرى أن مريدي وأنصار رؤية ” ماينبغي ان يكون” ودعاة القيم الأخلاقية ، والمثل العليا ، سواء الدينية الماورائية ، أو الوضعية ، كنظريات الفلاسفة والمفكرين ، يشنون حروبا وبلا هوادة ، على أنصار التيار الآخر ( المكيافيللي ) ، ويلصقون بهم جميع التهم ، والموبقات ، ويصفونهم بالمارقين ، وعديمي الأخلاق والقيم وأنهم يمارسون السياسة وفق ذلك ، وعندما يريدون وصف أحدهم من السياسيين بالمروق والزندقة السياسية ، يلقون عليه ، ما تجود بها قريحتهم من عبارات الذم والقدح والشتم و يقولون ( انت مثل مكيافيللي ، صاحب مقولة ” الغاية تبرر الوسيلة ” البعيدة عن الأخلاقيات )ويدعون هم المثالية ، وأنهم أصحاب القلوب النظيفة الرحيمة ، والأيادي النزيهة والعفيفة، ودعاة الخير للجميع ، ، هذه هي الخيمة الإمبراطورية التي يعملون تحتها ، ولكنهم على الصعيد العملياتي ، والممارساتي ، عندما يصلون إلى السلطة ، ويتمكنون من زمام الأمور ، ومقاليد السلطة ، تجدهم يمارسون ما هو أدنى بل وأخس بكثير مما ينكرونه على مكيافيللي ، وإذا قارنت نظريات ورؤية مكيافيللي وتياره حول الإدارة السياسية ،بممارسات هؤلاء ، سواء أكانت المقارنة تاريخية ( عند مقارنة مكيافيللي بمعاوية بن ابي سفيان ، أمير المؤمنين وخليفة المسلمين ، الذي حول الخلافة الاسلامية من دولة دينية تحكم بالشريعة ،إلى ملك عضوض له ولأسرته ، وأرسى بذلك أسس الإستبداد والقمع في أنظمة الحكم التي تلته ، أي لو قارنت ميكيافيللي به ، لبدا ” ميكيافيللي ” كأنه تلميذ ساذج ، ومغفل ، في أكاديمية معاوية بن ابي سفيان ) !!!!!ولو كانت المقارنة عصرية ومع أصحاب وقواد النظرية الأممية العابرة للديانات والقوميات ، وهي النظرية الماركسية ، والامبراطورية التي حكمت بإسمها ، وبالإستناد والإستلهام من مبادئها ، وهي إمبراطورية الإتحاد السوفيتي ، وعلى رأسهم جوزيف ستالين ، أيضا ( وبمقارنته بستالين ، سيظهر ميكيافيللي وأنصار ومريدي نظرياته ورؤيته في ممارسة السياسة ، وإدارة الشأن العام ، بأنه تلميذ ليس غبيا، ومغفلاً فحسب ، في معهد وأكاديمية جوزيف ستالين ، بل أيضاً تلميذاً معاقاً ) !!!!!
وإذا كان مكيافيللي قد إعتمد ورأى ، أنّ هناك طريقتان للنضال. وتطبيق وتنفيذ السياسات ، في إدارة الشأن العام ، وتنظيم العلاقات بين أفراد المجتمعات ، 1 ) إحداهما بحسب القوانين ، والأخرى 2 ) بإستخدام القوة،– الأولى مناسبة للبشر — والثانية للوحوش. و لكن بما أن الطريقة الأولى كثيراً ما تكون غير فعالة، فيقتضى الأمر الإلتجاء إلى الثانية.
ولو إستعرضنا مسيرة الحكم من خلال السيرة الشخصية للحكام والسلاطين والخلفاء التاريخيين منهم ، وحتى المعاصرين منهم أيضاً ، أو من خلال مصادر توثيق جرائم الابادات الجماعية ، وتاريخ الغزوات ، والإرتكابات والخطايا التي جرت خلال فترات حكمهم ، والهمجية التي أتبعت خلالها ، البعيدة كل البعد ، عن القيم والأخلاقيات ، والتي لا يتسع المقام لسردها
تدلل كلها كبراهين وقرائن ، و تؤكد على أن القوانين والمبادئ المكيافيللية في إدارة شؤون الدول ، هي السائدة ، وخاصة في جغرافيات ” الإستبداد الشرقي ، وما دعوات مريدي وأنصار ” نظرية ورؤية ” ما يجب وينبغي أن يكون ، ماهذا إلآ ، ستاراً ومظلة ، مضللة ، يرتكبون في ظلها ، ممارسات بحوافز غير أخلاقية ، وإن لم تكون بكليتها ، فهي بمعظمها ، والدافع الأساسي للسياسة ، هي الإستحواذ على السلطة والثروة ، وفق نظرية مكيافيللي ” الغاية تبرر الوسيلة ” وهذا ما يمارسه ساسة جغرافية الإستبداد الشرقي ، على مختلف مشاربهم ، وإيديولوجياتهم ، ومنهم ، وقد يكون في مقدمتهم ، الساسة الأتراك ، وعلى رأسهم السيد ، رجب طيب أردوغان ، الذي يرى في نفسه ، والذي يرشحه الكثير من القوى الإسلاموية في منطقة الإستبداد الشرقي ك ( أمير للمؤمنين ، وخليفة للمؤمنين )
وعلى ضوء ما تقدم ، نرى برؤيتنا المتواضعة ، أن يقف الكردستانيون عموماً ، والكردستانيون في تركيا خاصة ، وقفة محاسبة وتأمل ، فيما جرى سابقاً ، وما يجري الآن ، وخاصة على ضوء التحالفات الإنتخابية التركية ، وعلى ضوء مواقف الأحزاب والقوى السياسية التركية ، الاسلامية منها ، وكذلك القومية ، وحتى اليسارية أيضاً ، أي أن يعيدوا النظر في حساباتهم ، والكف عن مراهناتهم على أي منها ، وخاصة الخطاب والدعوة موجهة بشكل خاص ،إلى الكردستانيين ، الذين مازالوا في صفوف حزب العدالة والتنمية الأردوغاني الإسلاموي …!!!!!!
وفي هذا المقام ، يتم تجديد الدعوة للكردستانيين ، إلى توحيد الصفوف ، من خلال تجاوز التباينات والخلافات التي تكون في مجملها ، غير مبررة ، وتعود إلى أسباب ، ومطامع وطموحات شخصية ، وذاتية ، ونكرر ليس من باب عظات التكايا والزوايا الدينية ، التي يغلب عليها طابع الإعادة والتكرار، ولكن من معايشة الواقع ، والحاجة الملحة ، إلى وحدة الصف , وشد العصبوية القومية الخلدونية ، الذي هو مكمن القوة المتاحة للكردستانيين ، ولا نأتي بنظريات جديدة ، ونرى ، ومن خلال ما أسلفنا ذكره ، بأن العصبوية القومية ، هو قانون عالمي ، يسري اقانيمه على جميع شعوب ومجتمعات العالم ، ومنها الكردستانيون .