ابراهيم محمود
ربما كان توقفي عند كتاب فرهاد عوني ” من حقيبتي – ط2، 2014، طبعة مزيدة ومنقحة “، وهو عبارة عن مقالات منشورة في مجلة ” الصحفي “، مفيداً جهة التركيز على الدور الكبير والخطير بالنسبة للصحفي عموماً والكردي منه خصوصاً، من خلال طبيعة الأوضاع التي يعيشها حيثما كان، بما أن الكلمات الفعلية لا تكف عن التلويح بخاصيتها القياماتية .
” من حقيبتي ” إشارة إلى بعض مما هو موجود فيها، أي تذكير بوجود أكثر من ذلك، ولا أظن أن أياً كان يمكنه أن يرغب، وبسهولة في أن تكون هذه الحقيبة حقيبته، أو تكون له حقيبة مثلها، ذلك مستحيل، لاختلاف التجربة والرؤية والموقف، ومن هنا يأتي التنوع ..
والحقيبة في مفهومها متعددة الأغراض، سوى أنها بالنسبة للصحافي تكون مختلفة، إذ ربما تكون قنبلة موقوتة، من خلال ودائعها، وما يضاف إليها، ولهذا تفتَّش باستمرار .
لا يظهر عوني سعيداً في كتاباته، أي جهة الشعور المرافق لما يكتب، ولا حزيناً بالمقابل، لأن ما يكتبه يتطلب ضبطاً للنفس، ورؤية مركَّزة على الهدف، وقدرة مطلوبة لاختيار الكلمات، إنما هو التوثب النفسي، والدفع بالنفس إلى مستوى يمكنه لأن يعاين ما هو مرصود من قبله .
ثمة كردستان، وما أصعبها من جغرافيا ساخنة، وتاريخ ملتهب، ومعايشات نزالية غالباً.
إنما، كيف يكون الوطيس الكردي الحامي حين يكون من داخل ” البيت ” الكردي نفسه ؟
من هنا تظهر عتبة المناورة والمناوشة وإقلاق من يستخفون بمسئولياتهم كردياً .
ما يقوله في التقديم يمثّل تعريفاً بما يخص مقالاته المنشورة في مجلته تلك، وقد اتخذت هيئة كتاب، والكتاب غير المجلة، حيث الزمان والمكان نفساهما يختلفان، ليبقى التاريخ والتجربة وهما يتجاوزان الاسم الواحد والمكان الواحد بالتأكيد، ودون ذلك لا يفهَم القول المذاع أو المنشور، واستناداً إلى هذه المقولة تكتسب الكلمة قيمتها” أوراق من حقيبتي كانت جرس إنذار للمسؤولين في كوردستان من مختلف المستويات والاتجاهات الذين نسوا أو تناسوا المهام الكبرى التي تشغل بال الشارع الكوردستاني . ص 8 ” .
هي ليست مقدمة، إنما إضاءة من نوع آخر لتاريخ سلف، يفيد الراهن بالذات جهة المقارنة .
في قراءة الكتاب بمجموع مقالاته يتلمس هذا التفجع بالفرص المهدورة، بالإمكانات القائمة دون الاهتمام الجدّي بها على الصعد كافة، ومن ذلك التعرف إلى خاصية الصحافة ” لماذا لا يتفق جميع الذين يهمهم تكريس يوم للصحافي الكوردستاني وهو اليوم الذي صدرت فيه أول صحيفة كوردية لتمجيد رواد الصحافة الكوردية من أسرة بدرخان المناضلة الذين عملوا وناضلوا وكافحوا وذاقوا الأمرين من أجل الكورد وكوردستان قبل أكثر من قرن…ص 19 “.
ذلك ما ينبّه إلى بؤس مقام الصحيفة، أو الكلمة الصحافية في مجتمع يفتقر إلى مقومات النهوض باسمه كمجتمع، وتحديداً حين تكون موصولة بكل مجالات الحياة.
إن ما تفوه به عوني في حينها قائلاً ” ..على أجهزة الدولة أن تعامل مثقفي وصحفيي بلادنا معاملة إنسانية وشفافة بقناعات ديمقراطية وأن لا تتعامل مع الصحفي بمنطق وعقليات الأجهزة القمعية السابقة .ص 46 ” .
ربما كان في ذلك مأساة المجتمع المنوَّه إليه، ذاك الذي يحارب السالف عليه، سوى أنه من حيث المسلك السلطوي يخفيه داخله في النقاط المشار إليها، أي حين يكون القمع سيد الأحكام .
وللناظر فيما يكتبه عوني يلاحظ هذا التركيز على ما هو سياسي لأن المفصل الحركي للمجتمع ووعي التاريخ والتقدم الثقافي يتحدد كثيراً من خلاله في مجتمعاتنا وعلى المستوى الكردي كذلك. لا شك أن صيغة المخاطبة في قول كهذا ” أيها الغيارى سواء كنتم مسؤولين أو مثقفين أو إعلاميين اهتموا بتاريخ وتراث شعبكم وجسدوها في كتاباتكم وقصائدكم وخواطركم..ص130″ تفضي إلى مزيد من المكاشفة لما هو سلبي، بمقدار ما تضعنا في مواجهة أولئك الذين يتحدثون باسم المجتمع، الشعب والتاريخ الكردي، ولكن دون حصول انعطافة تاريخ، وهذا هو بيت القصيد ناحية النوعية وليس الكمية، وأن الوضع المتردي هو الشاهد على كل ذلك .
وأجدني مستعيناً بهذا القول الخطير لعوني وهو ” في الجسد الطري لكوردستان الجديدة الجميلة تنخر مافيات كثيرة . ص 176 ” .
مسوّغ الاستعانة، هو أنه- من وجهة نظري- يمثّل الحد الأقصى من الحنق والسخط والتعرية لواقع مجتمع منجرح كثيراً، ويتطلب الاهتمام به من قبل أولي أمره بداية، لكن القول ذاك، لا يبدو أنه في وضعية التنفيذ، إنما أقرب إلى الهجاء للذين يخونون الأمانة: أمانة تمثيلهم لمجتمع وشعب كرديين، والرثاء لوطن لا يُعتقَد أنه قيد التشكل الفعلي ولو في الأفق المنظور.
ولا بد أن القيمة الاعتبارية لكتابة الصحفي تتأكد في بعدها الرؤيوي، أي حين تكون صلاحية النظر فيها والاستشهاد أكثر من كونها مقبولة، لأنها تشكّل بالمقابل إنذاراً مضاعفاً لمن يتجاهلون ما ينبغي عليهم فعله، ما يجب أن يكونوه بالذات، بصفتهم كرداً، ومقام الكردي غير مقام سواه، انطلاقاً إلى الوضع المتردي له.
هنا يجدر الحديث عن الطريق الذي يسلكه الصحفي الكردي ومشاق الطريق ومنحدراته، وهو يمتلىء بالوطن الموعود، والشعب الممزق، والجغرافيا المقسمة، على أنه في أتم توصيف له مقارنة بما جرى ويجري كردستانياً بالذات: درب الآلام الكبرى.
في ضوء ذلك، أرى أن هذا الدرب يتشعب ويستطيل ، لأن الوقائع هي التي تسمّيه بعمق !
يتبع …