تساؤلات حول اخلاق الثورة السورية !

افتتاحية تيار مواطنة
يقول ايمانويل كانت في كتابه “مشروع سلام دائم ” الحروب تندلع فقط عند عجز البشر عن اقامة مجتمع مدني قائم على الاهداف الاخلاقية ، وان وظيفة الحرب اقناع الناس بضرورة اقامة هذا المجتمع لتجنب تكرارها ” وهكذا اندلعت الثورة السورية في مواجهة السقوط الاخلاقي للسلطة من خلال الجرائم التي ارتكبتها بحق الانسان السوري قتلاً وتعذيباً وهدراً لكرامته وحريته ، وسحقاً لإنسانيته واحتجاجاً على سياسة البطش والنهب وكم الافواه واحتقار الانسان من قبل الاجهزة الامنية المختلفة ، حيث رفضت معها كل أخلاق السلطة وممارساتها من أنانية ومحسوبية ووصولية وانتهازية رخيصة وفساد .
لقد حلم الناس في بداية الثورة بالتغيير ودعوا الى بناء دولة وطنية حديثة ، وسادت اخلاقيات جديدة حيث تضامنت كل المدن مع درعا الثائرة ، وهب الشعب لإغاثة المناطق المنكوبة، وإيواء النازحين، والتبرع حتى بمجوهرات النساء ، وتقديم الكثير من التضحيات . لكن مع السقوط الاخلاقي للمجتمع الدولي وتحول الثورة إلى العسكرة ، وحاجتها إلى المال والسلاح والاعلام ، وتغلغل المال السياسي، ثم الجهادية الاسلامية ، وتحكم الدول الاقليمية والدولية بالملف السوري خرج الأمر من يد السوريين فسقطت الثورة وسقطت اخلاقياتها معها ، وبدانا نشهد عودة لأخلاقيات السلطة التي انتفض في وجهها السوريون.
اذا كانت الثورة قطيعة مادية ومعنوية كلية مع عالم السلطة المستبدة . فان الثورة عبر اخلاقياتها وممارستها يجب ان تمثل النقيض القيمي والاخلاقي الايجابي للسلطة من خلال تجاوز الواقع الشمولي بما يعنيه ذلك من عذاب وحرمان للجماهير.
فالأهداف الثورية كالحرية والكرامة والمساواة الاجتماعية والسياسية وقيام دولة المواطنة المتساوية المستندة على عقد اجتماعي جديد يصون حقوق الافراد والمكونات يجب ان تخضع من الزاوية الاخلاقية لقيم ومضامين جديدة مختلفة عن عالم السلطة وممارساتها والمتمثلة بالفساد والاستبداد والقمع والهيمنة وهي التي دفعت السوريين للقيام بالثورة وبذل دمائهم في سبيلها
لكن من الطبيعي ان تسود بعض من هذه الاخلاقيات السلطوية داخل صفوف الثوار سواء على الصعيد الفردي أو على الصعيد الجماعي وخاصة بين القيادات والتنظيمات العسكرية لان سنوات الانحطاط والاستبداد لا يمكن التخلص منها دفعة واحدة ، ومع ذلك يجب ان يترفع الثوار عن المصالح المادية والمعنوية بما فيها ممارسة السلطة وامراضها العفنة لان مصلحة الثورة وضروراتها ينبغي ان تكون الاساس الذي يجب ان يسترشد به الثوار ويعملوا من اجلها فغاية كل ثورة هو انتاج عالم جديد ومختلف عن القيم التي عممتها السلطة لان ممارسة اخلاق السلطة واستبدادها يخدم السلطة ويفرغ الثورة من مضمونها ومن دلالتها الثورية ويحولها الى مجرد تمرد مسلح مضاد للقيم الاخلاقية ومعاد لتصورات الثورة ومضامينها باستبدال سلطة بسلطة اخرى بوسائل لا اخلاقية ، فالتسامح وحرية الرأي والتعبير والاعتراف بحق الاختلاف والمشاركة والمساواة واحترام حقوق الانسان هي اخلاق يجب ان لا تغييب عن كل ثورة لان الاقصاء والانتقام هما من اخلاق الاستبداد.
اهداف الثورة وشعاراتها لا يمكن ان تصنع من خلال وسائل لا اخلاقية لأنها ستنتج مسوخاً مهما كانت هذه الاهداف عادلة ومشروعة فالحرية كمثال لا يمكن ان تصنع من خلال وسائل غير مشروعة كالإرهاب والتفخيخ والقتل الجماعي .. الخ
الانهيار الاخلاقي للثورة السورية بدأ مع عسكرة الثورة ودخول المسلحين الى المدن وانتهاك الحريات والاعتداء على الممتلكات وسرقتها وعدم الالتزام بقوانين الحرب وشرعنة كل الممارسات وسيادة نزعة سادية اجرامية لم تمارسها الا بلطجية النظام وشبيحته من خلال قطعان الرعاع التي انضمت الى الثورة لغايات متنوعة و مارست القتل والاعدام والتنكيل.
في النهاية لا بد من التأكيد على انه لا يمكن ان تعلو اية قيمة فوق حق الانسان في الحياة والحرية وللأسف فأخلاق الثورة واحترام ادمية الانسان هي من اكثر العناصر الغائبة عن الثورة السورية وهي التي اوصلت الثورة الى ما هي عليه الان ، وعليه فان اعادة الثورة الى مسارها الصحيح يبدأ من تصحيح المسار الثوري ، واحترام انسانية الانسان ، وبناء دولة المواطنة المتساوية بغض النظر عن العرق او الجنس او الدين !

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف يبدو التدوين، في زمن باتت الضوضاء تتكاثر فيه، وتتراكم الأقنعة فوق الوجوه- لا كحرفة أو هواية- بل كحالة أخلاقية، كصرخة كائن حرّ قرّر أن يكون شاهداً لا شريكاً في المذبحة. التدوين هنا ليس مجرد حبرٍ يسيل، بل ضمير يوجّه نفسه ضد القبح، حتى وإن كان القبح قريباً، حميماً، أو نابعاً من ذات يُفترض أنها شقيقة. لقد كنتُ- وما…

عبد الجابر حبيب ـ ذاكرة التهميش ومسار التغيير بعد عقدين من اندلاع الأزمة السورية، وتحوّلها من انتفاضة مطلبية إلى صراع إقليمي ودولي، ما زال السوريون يتأرجحون بين الحلم بوطن حر تعددي عادل، وبين واقع تمزقه الانقسامات، وتثقله التدخلات الأجنبية والمصالح المتضاربة. سوريا اليوم لم تعد كما كانت، لكن السؤال يبقى: إلى أين تسير؟ وهل ثمة أمل في التحول نحو…

حوران حم في زوايا الحديث السوري اليومي، في المنشورات السريعة على مواقع التواصل، في تصريحات بعض “القيادات” ومواقف فصائل تدّعي تمثيل الثورة أو الدولة، يتسلل الخطاب الطائفي كسمّ بطيء، يتغلغل في الروح قبل أن يظهر في العلن. لم تعد العبارات الجارحة التي تطال الطوائف والأقليات، والمناطق، والمذاهب، تُقال همساً أو تُلقى في لحظة غضب، بل باتت تُصرّح جهاراً، وتُرفع على…

إبراهيم اليوسف لم يكن، في لحظة وطنية بلغت ذروة الانسداد، وتحت وطأة أفق سياسي وأخلاقي مغلق، أمام الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء، كما يبدو الأمر، سوى أن يطلق مكرهاً صرخة تهديد أو يدق طبول حرب، حين ألمح- بمسؤوليته التاريخية والدينية- إلى احتمال طلب الحماية الدولية. بل كان يعبّر عن واحدة من أكثر المعضلات إلحاحاً في واقعنا…