د. ولات ح محمد
على الرغم مما شابها من تشكيك فإن النتائج التي أعلنتها المفوضية العليا للانتخابات العراقية التي جرت في 12 مايو أيار الجاري رسمت كثيراً من علامات الاستفهام وقدمت قوى وأخرت أخرى ووضعت الكثير من الأمور في نصابها الصحيح وكشفت عن كثير من الأحجام والأوزان الحقيقة لأصحابها الذين كانوا يظنون أو يدعون أنهم أكبر من ذلك بكثير، سواء أكان ذلك على مستوى العراق عموماً أم على مستوى إقليم كوردستان على نحو خاص.
ما ميز انتخابات هذه الدورة أنها جاءت بعد أحداث عصفت بالعراق وبكوردستان خلال السنوات الأربع الماضية، ابتداء بسيطرة تنظيم داعش على الموصل صيف 2014 ثم سيطرته على ثلث مساحة العراق وما تبعها من محاربة البيشمركة والقوات العراقية لذلك التنظيم، مروراً بإجراء إقليم كوردستان لعملية الاستفتاء وما تلاها من عملية عسكرية قامت بها حكومة بغداد للاستيلاء على كركوك ومناطق أخرى من المتنازع عليها بالقوة، ثم فرض إجراءات عقابية بحق الإقليم وانتهاء بالقضاء على داعش. من الطبيعي أن المتنافسين في الحملات الانتخابية سيوظفون تلك الأحداث للترويج لسياساتهم ورؤاهم “الناجحة” عند الجمهور الناخب ولإسقاط خصومهم وسياساتهم “الفاشلة” في المقابل. وبناء عليه كان من المتوقع حدوث تغييرات دراماتيكية في المشهد السياسي عراقياً وكوردستانياً نتيجة لمعاقبة الجمهور المتوقعة لمن كان له دور سلبي في تلك الأحداث ومكافأته لمن لعب دوراً إيجابياً في إيجاد الحلول لتلك الأزمات.
عراقياً
كان أول الأرقام وأبرزها هو نسبة المشاركة المقدرة بـ 44.5% والتي تراجعت عن نسبة الانتخابات الماضية بنحو 20%، وكان ذلك مؤشراً واضحاً على أن الجمهور العراقي قد ملّ هذه الطبقة الحاكمة ووعودها الكاذبة التي أضاعت المئات من المليارات منذ خمسة عشر عاماً ومازال العراق يتصدر سنوياً الدول الأكثر فقراً وتخلفاً وبطالة وفساداً. نسبة المشاركة تلك (ويقال إنها أقل من ذلك بكثير) تشير إلى ثورة عراقية بيضاء على أولئك الفاسدين المفسدين، وهي في الوقت نفسه رسالة إلى من سيحكم بغداد من الآن فصاعداً.
على مستوى القوائم الانتخابية كان حصول قائمة (سائرون) المدعومة من السيد مقتدى الصدر على المرتبة الأولى بـ 54 مقعداً المظهر الآخر لتلك الثورة البيضاء، وهو ذو دلالتين: الأولى هي أنه ليس كل من تدعمه قوة خارجية إقليمية أو دولية هو من سيختاره العراقيون؛ فالقائمة المتصدرة على خلاف مع القوتين الكبريين في العراق: أمريكا وإيران. وحلولها أولاً مؤشر على توق العراقيين لمن يحقق لهم إحساسهم بقرارهم المستقل وبسيادتهم الوطنية بعيداً عن أجندات الآخرين وحساباتهم ورهاناتهم على أرض العراق. الدلالة الثانية هي أن العراقيين صاروا يميلون إلى الاعتدال وينبذون الخطاب الطائفي الذي لم يجلب لهم سوى الخراب والفقر والتناحر وداعش. صحيح أن قائمة الفتح (الحشد الشعبي) المدعومة إيرانياً حلت في المرتبة الثانية، إلا أن تصدر (سائرون) ذات التوجه المعتدل والخطاب الوطني يشير إلى بداية تحول مهم في مزاج الناخب العراقي.
في هذا السياق يمكن أن نشير إلى مثالين: الأول تراجع قائمة دولة القانون التي كانت تتصدر بسهولة الانتخابات الماضية، فقد خسرت أكثر من 70% من مقاعدها السابقة (من 89 مقعداً إلى 26)، وخسر زعيمها نوري المالكي على المستوى الشخصي 85% من أصوات ناخبيه المعتادين (من 700 ألف صوت إلى 100 ألف). الثاني خسارة المدعوة حنان فتلاوي التي لم تستطع الحصول على بضعة آلاف من الأصوات توصلها إلى قاعة البرلمان، وهي التي كانت تظن مثل كثيرين وكثيرات سقطوا أن مجرد التهجم على الآخرين والصراخ والشتم وشيء من الخطاب الطائفي الذي يحرك مشاعر الناس البسطاء سيضعهم تحت قبة البرلمان بسهولة كما حصل في مرات سابقة. إن سقوط هؤلاء دليل على تغير مهم في ميول الناخب العراقي وأولوياته.
من جهته كان حيدر العبادي يمني النفس بأن تحصل قائمته على أكثر من ستين مقعداً، أو أن تكون في المرتبة الأولى على الأقل، وهكذا توقع الكثير من المراقبين. ومعظم ما فعله العبادي بحق الإقليم وشعبه من الهجوم على كركوك وغيرها وفرض للحصار على مطارات الإقليم وخفض حصته من الميزانية كان يأمل منها أن تساعده على تحقيق تلك النتيجة، ولكن الناس لم يعطوه ما أراد بل وضعوه في المرتبة الثالثة فقط، وأعطوا أصواتهم لقائمة مدعومة من تيار ينبذ الطائفية ويدعو إلى محاربة الفساد والفاسدين بجدية تامة. وهذا يدل على أن الناس يميزون جيداً بين المتاجرة الانتخابية والبطولات الوهمية وبين الفعل الحقيقي على الأرض؛ فالعبادي وخلال أربع سنوات لم يجرؤ على الاقتراب من ملف الفساد إلا بالكلام والكلمات، ولهذا لم يكافئه الناس على الشعارات فقط.
كوردستانياً
تصدرت قائمة الحزب الديمقراطي الكوردستاني المشهد الانتخابي في إقليم كوردستان بواقع 25 قعداً، الأمر الذي كان صادماً لمن كان يتوقع أنه ستتراجع قاعدته الشعبية بشكل كبير بعد حدثي الاستفتاء وكركوك. أصحاب هذه الرؤية هم أنفسهم أرادوا استغلال الحدثين لدعاية انتخابية مضادة مبكرة منذ احتلال كركوك لتحميل الديمقراطي مسؤولية إجراءات بغداد وعقوباتها. وبدلاً من رفض موقف بغداد وإجراءاتها راحوا يطالبون حكومة الإقليم بالاستقالة (وكأنها ارتكبت جريمة) ثم أتبعوها بانسحابهم من تلك الحكومة.
الرقم الآخر المهم كوردستانياً هو حصول الديمقراطي على المرتبة الثانية (بعد أن كان أولاً في النتائج الأولية) في محافظة نينوى على الرغم من التضييق الذي مورس على جمهور الحزب ومؤيديه، وعلى الرغم من إضاعة المفوضية 80% من أصوات الكورد الإيزيديين في مخيمات النزوح كما قالت أمس النائبة فيان دخيل. ولذلك ثلاث دلالات: الأولى أن جمهور المناطق المتنازع عليها بمن فيهم الإخوة العرب والمسيحيون الذين صوتوا لصالح الاستفتاء مازالوا يصوتون للديمقراطي ويريدون العيش تحت إدارة إقليم كوردستان لأنها دافعت عنهم ولهم ثقة بتلك بالإدارة، وهو بمثابة استفتاء آخر يؤكد الأول. الثانية أن جمهور الديمقراطي كبير في تلك المناطق لدرجة أن قائمة رئيس الوزراء التي حلت ثالثة على مستوى العراق لم تتقدم على قائمة الديمقراطي إلا بمقعد واحد في نينوى.
الدلالة الثالثة هي أن سكان المتنازع عليها لا تحمّل الديمقراطي والرئيس البارزاني مسؤولية هجوم الجيش العراقي والحشد الشعبي عليهم في 16 أكتوبر الماضي كما أرادت بعض الأحزاب الكوردية أن تروج له، وأن الرأي السائد في المتنازع عليها في نينوى هو رأي الديمقراطي الكوردستاني وجمهوره من الكورد والعرب والمسيحيين، وأن من أراد تسوية في تلك المناطق فلن يجد إلى ذلك سبيلاً إلا عن طريق الديمقراطي الكوردستاني، وهذا ما ستدركه بغداد جيداً بدلالة أرقام هذه الانتخابات.
الرقم المهم الآخر هو حصول الاتحاد الوطني على النسبة الأعلى في السليمانية وعلى نصف مقاعد كركوك، وهو يشير أولاً إلى أن السليمانية ما زالت منطقة الاتحاد الوطني الانتخابية على الرغم من الانشقاقات التي حصلت في السابق وتشتت أصوات الناخبين بين أطراف عدة. وثانياً يؤكد هذا أن الكورد هم الغالبية في كركوك، خصوصاً أن من نظم هذه الانتخابات وأشرف عليها هي الحكومة الاتحادية وحدها وأجهزتها الأمنية وميليشيات الحشد وليس حكومة الإقليم والبيشمركة والآسايس الكوردية. ولو شارك الديمقراطي الكوردستاني في تلك الانتخابات لكان حظ الكورد من مقاعد كركوك أكبر. وهي حقيقة ينبغي على الآخرين التعاطي معها بروح رياضية بدلاً من التشكيك وإثارة الناس في كل مرة.
طموح بالكلمات وسقوط بالأرقام
الأطراف الثلاثة (كوران، الجماعة الإسلامية، الاتحاد الإسلامي) التي انسحبت من حكومة الإقليم بعد احتلال كركوك وتخلت عن الناس في محنتهم محاولين تحميل الديمقراطي مسؤولية مآسي الناس لم تحصد كلها مجتمعة سوى 9 مقاعد.
الأطراف الثلاثة (كوران، الجماعة الإسلامية، تحالف برهم صالح) التي شكلت وفداً من وراء حكومة الإقليم وذهبت إلى بغداد لتقدم نفسها البديل “العاقل الحكيم الوطني” عن الحكومة “المتهورة” التي أجرت الاستفتاء لم تحصد مجتمعة غير 9 مقاعد، بينما حصد طرفا حكومة الإقليم 43 مقعداً.
قائمة الجيل الجديد برئاسة شاسوار عبد الواحد حصلت على 4 مقاعد من أصل 58 مقعداً كوردستانياً، أي بنسبة 7%، وهي النسبة ذاتها التي حققتها حملته التي خاضها ضد الاستفتاء في أيلول الماضي ودعا الناس فيها إلى التصويت بـ”لا” لاستقلال كوردستان.
الدكتور برهم صالح الذي طرح نفسه للشارع الكوردي بعد الاستفتاء على أنه مخلّص الكوردستانيين ممن سماهم “الفاسدين والقيادات الكلاسيكية غير الحكيمة” وقدم نفسه على أنه البديل الذي يمثل طموح الشباب والدماء الجديدة والحكمة والتعقل وتحدث عن مزاج الشارع الكوردي وعن جيل الشباب الذي “يحتاج إلى قيادة أخرى” وهاجم الاستفتاء (بعد أن أدلى بصوته) ومن قام بإجراء الاستفتاء واتهمهم بالتهور، وغازل بغداد في تلك الظروف وزارها مع غيره من وراء حكومة الإقليم… إلخ، كل تلك الدعاية والجمل الرنانة ومحاولة انتهاز الفرصة لم تمنح تحالفه الديمقراطي والعادل سوى مقعدين اثنين 2 لم يستطع بهما التقدم حتى على جاره الجديد شاسوار عبد الواحد الذي لا يملك رصيداً سياسياً وجماهيرياً وصيتاً كالذي لدى قرينه المثقف والمخضرم. هذه الأرقام مؤشر واضح على أن هؤلاء وأولئك بعيدون جداً عن طموحات الشارع الكوردي الذي لا يؤمن بالكلمات بل بالأفعال.
النتيجة
أثبتت الأرقام أن الديمقراطي ما يزال يمثل الرقم الأول على الساحة الكوردستانية ورقماً صعباً على الساحة العراقية وهو الذي احتل المركز الخامس على مستوى العراق (بفارق مقعد واحد عن ائتلاف دولة القانون الرابع) على الرغم من كل الظروف الصعبة التي مر بها وحملات التشويه التي تعرض لها من أطراف كثيرة. وهذا يدل على أن الشارع الكوردستاني لم يتأثر بتلك الدعاية بل أسقط أصحابها أنفسهم. وفي هذا أيضاً رسالة إلى حكومة بغداد الحالية والقادمة وإلى كل من ادّعى بأن البارزاني أجرى الاستفتاء لحسابه الخاص وأن بالضد من الإرادة الكوردية. التصويت لقائمة الاستفتاء والاستقلال هو التعبير عن رغبة الكوردي ومزاجه وميوله الاستقلالية بوضوح لا لبس فيه. إنه تعبير عن الوجدان الكوردي الذي ما زال يحلم بدولته مهما طُرحت من مشاريع خلبية وانتهازية هنا وهناك.
أثبتت الأرقام أن الاتحاد الوطني من جهته ما يزال يمثل القوة الثانية على الساحة الكوردستانية على الرغم من الظروف التي مر بها والانشقاقات التي حدثت في صفوفه. في المقابل تراجعت تلك القوى التي تهربت من تحمل مسؤولياتها خلال الفترة الماضية واكتفت بالهجوم الإعلامي على الديمقراطي ورئيس الإقليم وانسحبت من الحكومة في أصعب ظروف الناس ظناً منها أنها بذلك ستكسب الشارع الكوردي. أثبتت الأرقام أن الحصول على أصوات الجمهور لا يكون بشن الدعاية السوداء ضد الآخر بل بتقديم برامج وخدمات للناس وبالحرص على حمايتهم وعلى حفظ حقوقهم وكراماتهم وأرواحهم.
وبهذا أكدت الأرقام أن الحزبين الكبيرين الرئيسين على الساحة الكوردستانية ما زالا هما الديمقراطي والاتحاد اللذان تعقد عليهما الجماهير آمالها لتحقيق طموحاتها المشروعة، ولذلك لا سبيل أمامهما إلا الاتفاق على تقديم أجندة واحدة بتلك الحقوق على طاولة التفاوض في بغداد إذا أرادا أن يحافظا على ثقة الناس بهما.
لقد دعا الحزب الديمقراطي الكوردستاني الأطراف الكوردستانية إلى خوض الانتخابات العراقية بقائمة واحدة، غير أنها جميعاً رفضت ذلك ربما ظناً من بعضها أن الحزب سيمنى بهزيمة نكراء بعد الاستفتاء وكركوك، وستكون فرصتها لقلب الطاولة وتصدر المشهد، وها قد تبين لها حجمها ووزنها وقيمتها في الشارع الكوردي. اليوم عاد الديمقراطي من جديد على الرغم من كل الدعاية السوداء التي مارسوها بحقه ليدعو كل الأطراف الكوردستانية إلى تشكيل وفد موحد والذهاب إلى بغداد ببرنامج موحد ليكون لحضورهم قيمة ولكلمتهم وزن. هذا الحرص على العمل الجماعي لتحقيق مصالح الناس هو أحد الأسباب التي دفعتهم لجعله الرقم الأول.
الخلاصة
“النجاح يكون دائماً من نصيب المؤمنين بحقوق شعبهم المشروعة”. هذا ما قاله الرئيس مسعود بارزاني قبل يومين أمام الفائزين في الانتخابات من حزبه. وهذا ما صوت عليه الكوردستانيون الذين أثبتوا أن الدعاية السوداء ضد الآخرين غير مجدية لكسب رضاهم وأنهم يمنحون ثقتهم فقط لمن يعمل لحفظ كرامتهم وحقوقهم ويحقق لهم الأمن والأمان على أرضهم، وليس للجالسين في بيوتهم والبائعين للشعارات والجمل الفارغة المنتظرين لهفوات من يعملون لكي يقولوا للناس: انظروا ما أفشلهم!!. لقد أبدى الكوردستانيون وكذلك العراقيون وعياً عالياً بما يريدون وبمن يعمل على تحقيق طموحاتهم وآمالهم ومنحوهم أصواتهم دون تردد.
تصدرت قائمة (سائرون) النتائج عراقياً لأن زعيمها وتياره عبرا عن وجدان الإنسان العراقي ويحاولان استعادة سيادة قراره وشخصيته المستقلة ومحاربة الفاسدين والمتاجرين بمشاعره دون أن يقدموا له شيئاً. وتصدرت قائمة الديمقراطي كوردستانياً لأنها عبرت بصدق عن وجدان الكورستانيين وحلمهم بدولة مستقلة وعملت على حفظ كرامتهم والدفاع عنهم وعن حقوقهم. التيار الصدري لم يكتف بالقول بل قرنه بالفعل عندما نزل مرات عدة إلى الشارع ضد الفساد والفاسدين، وكذلك فعل الديمقراطي عندما ذهب إلى إجراء الاستفتاء حقاً وليس قولاً فقط، وعندما تصدى لمن أراد احتلال أراضيه وإهانة شعبه، فكافأ الناس هذا وذاك بأصواتهم.
وأخيراً لو..
ـ لو خاض الكورد الانتخابات بقائمة واحدة لكانوا الكتلة الأكبر بأكثر من ستين مقعداً ولكانت أمور وموازين كثيرة قد تغيرت.
ـ لو اتفقت القوائم الكوردية على برنامج تفاوضي واحد لتمكنوا من تحقيق كل مطالب شعبهم ولحازوا احترامه وتقديره.
ـ لو تحالف الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني على برنامج تفاوضي واحد مع الكتل الفائزة في بغداد لشكّلا رقماً كبيراً مغرياً يصعب تجاوزه.
ـ لو عملت الأطراف الكوردية ببرنامج جماعي موحد وبروح الفريق الواحد لتحققت حتى مصالحها الحزبية أكثر مما هي متحققة الآن في تشتتها المؤسف.