ابراهيم محمود
لحظة وصولي ، ومعي عائلتي، إلى السليمانية خابرتُ الدكتور نوزاد أحمد أسود” رئيس مركز كلاويج الثقافي ” أنني وصلت – للتو- إلى السليمانية، رد علي مرحباً سائلاً عن مكان إقامتي، ومن باب الاطمئنان علي، وكان وعدنا أن نلتقي غداً، وقد التقينا صباح الخميس ” 10-5/ 2018 ” بالفعل، إذ جاء إلي الشاعر والمترجم والكاتب الصديق عبدالله برزنجي، مصطحباً إياي إلى السليمانية التي تعنيني، مقدراً بفطنته أن معرفة المدينة تكون بمدى صلتها بالكتاب، قبل كل شيء، أو بمكتباتها، ومن هنا انطلقنا، ويا لها من انطلاقة ليس في الوسع توصيفها في سردية مقال عابر أو حتى كتاب موجز !
لا يحتاج صديق الشعر والنثر وتعددية اللغات برزنجي للتعريف به، فالذين يؤمّون مهرجان كلاويج كرداً وعرباً وحتى أجانب- طبعاً- ممن تتم دعوتهم سنوياً لا بد أنهم يحملون صورة حية عن السليمانية وموقعها الاعتباري ثقافياً، وعن شاعرها هذا: برزنجي، وحسب المتابع النظر في إطار البحث الغوغلي عنه ليتوقف عند هذه الحقيقة، أي مدى صداقته لما ذكرت، ومقصد القول أن السير معه، وهو في هدوئه العميق وإلفته لكل ما يشغل السليمانية من أمكنة شتى، من باب معرفتها، ثراء حقاً.
ويهمني هنا، أن أشير إلى موقع الكتاب الذي جمعنا معاً، وقد انطلق بي إلى مكتبات لها شهرتها، ولا بد أنه على بيّنة من أن سؤال الكتاب هو سؤال المدينة، وأن المدينة التي تؤكد جدارتها بالحياة هي التي تعزز موقعها الكتابي، وحيث إن السليمانية لا تخفي هويتها الاعتبارية في هذا المجال: أي ما هو قائم من وشائج قربى بينها وبين الكتاب، تأكيداً منها أن الانفتاح على العالم، أن تأكيد الهوية الثقافية، أن تأكيد الحضور الإبداعي للشخصية الجغرافية هذه المرة، إنما يتمثل في الكتاب، فالكتاب من خلال حضوره النوعي وهو يتكلم لغات شتى، يكون خير مفصح عن المدينة التي يتحرى أمرها، أو المدينة التي تتضمنه. فالمدينة ذات خاصية كتابية، من خلال تعددية صفحاتها، وفصولها، وأبوابها، وطبيعة عنوانها، وعلى قدْر أهميتها يكون الكتاب في ثراء محتواه طالما أنه يتنفس داخل مدينة تلوح به، وتتكىء عليه في آن .
من خلال سير برزنجي وهو يحدثني بين الحين والآخر عن بعض مما يهم من مشاهدات، كما لو أن خطاه كانت تبصر الطريق، تعزيزاً لعلاقة قائمة بين وبين مدينته .
كان أول من التقيناه هو صديق الشعر الآخر طيب جبار في مكتبته المأهولة بعناوين لافتة: عربية وكردية، ولا بد أن مستطلع العناوين يزداد معرفة به في ذائقته الثقافية، وطبيعة علاقته مع الكتاب ونوعيته، وربما كان ذلك من البداهات لأهل الأدب والثقافة .
وما أُهديتُ من عناوين تخص تجربته في الكتابة الشعرية خاصة، كان مبعث غبطة حقاً:
هندسة الكلمة والصورة ” حول تجربة الشاعر طيب جبار ” لعبدالله برزنجي.
رائحة الالتفات ” في تجربة طيب جبّار الشعرية ” تحرير: حسن علاء الدين .
يوم أموت ” دراسة نقدية في قصيدة ” يوم أموت ” للشاعر طيب جبار، لحسين به فرين.
ذات زمان…الظلام كان أبيض، لطيب جبّار.
….الخ .
خرجت وبرزنجي من مكتبته وفي صحبتي شعور يخص جبار وهو مرارته من الحياة، أو تبرمه بها، كان ثمة نفَس إليوتي في تعابيره، كحال كتاباته الشعر، جرّاء اليأس من الجاري.
ولا بد أننا في دخولنا إلى مكتبة لها حضورها الاسمي وبعناوينها الصادمة جرّاء حداثتها للذين يتعاملون مع الثقافة من زاوية أخرى، أعني بها مكتبة ” نالي ” الشاعر الكردي المعروف.
صاحب المكتبة ريبوار متوسط العمر، وقد رحَّب بي كثيراً، بمجرد التعريف بيننا من قبل الصديق برزنجي، حيث ذكر طائفة من أسماء كتبي، أي كان يعبّر عن اهتمام بالكتب التي تثير تساؤلات، ويكون لها قرّاء خاصون، رغم غلاء أسعارها، مبرّراً ذلك بأن وصول الكتاب إليه من مصدره مكلف، وجرّاء الطلب الخاص يكون التعامل معه .
في مكتبة أخرى، مكتبة كبيرة حقاً، هي مكتبة ” غزل نوس: كاتب غزل “، لم أخف دهشتي وأنا أجدني في مساحة هائلة تتوزع فيها الكتب وبشكل مرتّب في نصف قبو، كتب بالكردية عموماً، وهو التأكيد الآخر على فعالية اللغة الكردية: اللهجة السورانية، كما لو أنها لغة قائمة بذاتها، على وقع هذا الاهتمام اللافت بالكتاب الجديد وفي مجالات مختلفة، ولعل في هذا التأكيد يأتي تأكيد آخر، وهو المتردد لدى البعض بأن أهل السليمانية متفاخرون بموقعهم، ولعله تفاخر لا يخفي هذا الانشغال بالكتاب، أي بوصفه ترجمة فعل يتجسد واقعاً بالذات، مقارنة مع المدن الأخرى، وما في ذلك من حساسية لا ينبغي تجاهلها وفي سياقات مختلفة.
وهو ما عاينته في مكتبة أعتقدها الأضخم في السليمانية، إلى جانب كونها دار نشر أيضاً كسابقتها، أي ” أنديشه Endîşe “، بلغات مختلفة، وفي الطابق الأول، وهي تعطي انطباعاً أعمق من ذي قبل بأن هذا الكم الهائل من الكتب وبعناوين ومن ثم لغات مختلفة، يرتكز إلى علاقة شديدة الخصوصية بالكتاب، ولولا هذه القيمة المعطاة للكتاب، أي للثقافة، لما كان هناك انتشار مكتبات على هذه الشاكلة، فتستحق السليمانية أن تكون متعددة اللغات .
وفي وسع المتابع التوقف عند طبيعة الكتاب المطبوع وتأثيره في الشارع، وما يكونه القارئ الفعلي للكتاب، أو ما تكون القيمة الفعلية للكتاب…إنها أسئلة قابلة للنظر فيها، إلا أنه مهما اختلفت الإجابات، فإن الشيء الذي لا يمكن غض النظر عنه، هو البعد الاستثنائي لأهمية الثقافة، أو الثقافة المكتوبة، وأن الكتاب الذي يقرّأ بأكثر من لغة دليل إثراء للمدينة عينها .
في مكتبة ” نالي ” الشهيرة صحبة الشاعر عبدالله برزنجي وريبوار صاحب المكتبة
في مكتبة غزل نوس “
في مكتبة أنديشه