في الطريق المتعرج إلى السليمانية 4- أن تدخل إلى مدينة السليمانية

ابراهيم محمود
يمكن لمدينة ما أن تعرّفك بنفسها من جغرافيتها، والسليمانية، وهي تجمع بين احتضانها الجبلي واتصالها بسهل شهروز، حيث تتفاوت إحداثياتها، يمكنها أن تصلُك بما يبقيك شديد التنبه إلى مفارقاتها، ومنذ لحظة الدخول الأولى، ثمة ما يشمخ إلى السماء، وثمة ما ينبسط ويمتد ويتحول. تلك هي المدينة المستمرة، والغريبة الأطوار والتي تجمع بين الحد الأقصى مما بعد الحداثة، والحد الأقصى مما هو ديني وتقليدي، مدينة عاصية وسامية، ومدينة مقدامة، مدينة السهل، ومدينة الجبل، ومدينة توائم بين النقيضين. يا لبدعتها، وهي تستمر بمثل هذه التجليات !
ولا بد من القول أننا حين أصبحنا على تخومها، ثم بانت معالمها العمرانية، وأصبح الطريق الذي أشرَكنا في لعبته غير المحببة لبعض الوقت، تنفسنا الصعداء، لا بد من القول أن الشعور النفسي لحظة دخول المدينة بالصورة هذه، إنما هو استعادة للتوازن النفسي، وبدت السليمانية كما لو أنها تسمُعنا ضحكة مرنانة تصادت على جانبي الطريق المتعرج، حيث مشهديات عشرات الصور الانتخابية البرلمانية والكتابات اللافتة تحول بين ناظريك والكثير مما يجب التوقف عنده، وهي سمة أخرى من سمات المدن في الشرق الأوسط الغريب الأطوار، في وضعية كهذه من جهة، وعلامة فارقة للمدينة التي تعرّف بكرديتها في زحام تنافسات كردية مخصخصة، تحفّز المنقّب في بنية كل إطلالة ضحكة مجابهة، أو هيئة وجهية على تبيّن المقصد الدعائي ومغزاه من جهة أخرى، ولسليماني، أو السليمانية باع طويل وطويل مجدداً في هذا الجمع الاستئثاري بين ما كان وما سيكون، بين وجه انتخابي حليق بالكامل، ووجه مدفون في أكمة شعر أسود أو مهجَّن سواداً وبياضاً، أو رأس يكاد محرَّراً من كل حضور شَعري، حيث سرعان ما يستعيد المتابع لكل صورة ملتقطة من وضع تقييم سريع لها وربطها بسواها، إنما ما لا ينبغي تجاهله، حيث عائلتي كانت تحاول استعادة وضعيتها النفسية السابقة، هو أن من أقام علاقة ما: زيارة سابقة، أو قراءة، أو مشاهدة عبر قنوات تلفزيونية أو سواها، أن يستشعر إكباراً وصفاء ذات بأكثر من معنى، لأنه يلحّ على عدّاد الزمن للتقدم إلى داخلها، ومتابعة ما هو مستجد فيها، ومن ثم التعرف على ما هو مختلف في كل متابعة بصرية وبحثية كذلك .
في العودة إلى المدينة وما تكون عليه مكانة، أستعيد تلك التوصيفات المدهشة للإيطالي إيتالو كالفينو في فذاذته الروائية ” مدن لامرئية ” وبلاغة التسمية طبعاً، وقد وضع لها قائمة طويلة نسبياً، وأعتقد أنني تلمست حضوراً لسليماني ذات الجبل والسهل، ذات الإقدام التاريخي والحضور الكرديين، في الكثير مما عنون به الإيطالي روايته” مدن وذاكرة- مدن ورغبة- مدن وعلامات- مدن تجارية- مدن وعيون- مدن والسماء- مدن وأسماء…الخ “.
السليمانية : المدينة التاريخية المخضرمة، جديرة بأن تكون أهلاً لذاكرة ثرية بأعصر تتسلسل وعلى مدى آلاف السنين، جديرة بأن تقترن برغبات تترى، وهي في بنيتها ذات علاقة بالمدفون في حدودها، وداخلها، وبالتالي، لا بد أن تكون معززة بتلك العلامات التي تهدي السائرين إليها وهي ناطقة بالكردية الصحيحة والرصينة، لا بد أن تصل هذه العلامات بخطوط التحركات التجارية وحيويتها، أن تكون قائمة على نقاط ارتكاز حياة، حيث تنعشها عيون من الباطن وتمنحها عمقاً، ويكون لها شأن في الارتقاء إلى السماء بتنوع ثقافاتها، ومن ثم تزهو بأسمائها ذات الدلالة على ثراء الهوية، أي حيث يصح الحديث عنها بأن لها مآرب شتى في السياسة ومنها، ولها مقالات شتى في الثقافة ومنها وعنها، وهي تربط ما بين الشعر والنثر، إذ يصعب أن يكون أحدهم كردستانياً دون أن يكون سليمانياً في بعض منه، أدباً أو سياسة أو فناً….
ولأننا بلغنا نقطة النهاية، استعددنا للنزول، ولملاقاة أقربائنا الجدد، وفي الطرف الآخر، كنت أستدعي المأهولين بالثقافة ووجع الثقافة الميمون، وقد اتفقنا معاً، على إلقاء محاضرة لي في أحد المراكز الثقافية ذات الصيت، ولو في اليوم التالي ” الخميس، 10-5/2018 “.
المدينة التي تقدّم لك من تعرّفهم لو بتفاوت، تشعر كما لو أنها هي ذاتها تستحيل أحضاناً وأذرعاً للعناق، وكلمات للترحيب، وأعيناً تشع ابتسامة وطرب لقاء !

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لم يكن، في لحظة وطنية بلغت ذروة الانسداد، وتحت وطأة أفق سياسي وأخلاقي مغلق، أمام الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء، كما يبدو الأمر، سوى أن يطلق مكرهاً صرخة تهديد أو يدق طبول حرب، حين ألمح- بمسؤوليته التاريخية والدينية- إلى احتمال طلب الحماية الدولية. بل كان يعبّر عن واحدة من أكثر المعضلات إلحاحاً في واقعنا…

د. محمود عباس صرخة في وجه التكفير والخراب والإرهاب. من يهاجم المكون الدرزي في السويداء؟ من يحاصر مدنها، ويهدد شيوخها، ويحرّض على أبنائها بذريعة كلمة قيلت أو لم تُقَل؟ من نصب نفسه حاميًا للرسول الكريم وكأن الإسلام ملكيته الخاصة، وكأن نبي الرحمة جاء لقوم دون قوم، ولدين دون آخر، متناسين أن محمدًا عليه السلام نبي الإنسانية كلها، لا نبي التنظيمات…

بوتان زيباري في رياح السياسة العاتية التي تعصف بأطلال الدولة السورية، يبدو أن الاتفاق الموقّع بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام (هتش) لم يكن سوى وميض برقٍ في سماءٍ ما لبثت أن اكتظت بالغيوم. فها هو مؤتمر قَامشلو الأخير، بلغة ملامحه المضمرة وتصريحاته الصامتة أكثر من الصاخبة، يكشف عن مكامن توتّرٍ خفيٍّ يوشك أن يطفو على سطح…

إبراهيم اليوسف لقد كان حلم السوريين أن يتوقف نهر الدم الذي فاض وارتفع عداده ومستواه، تدريجياً، طيلة العقود الأخيرة، أن يُفتح باب السجون لا ليُستبدل معتقل بآخر، بل ليُبيّض كل مظلوم مكانه، أن يتحول الوطن من ساحة للبطش إلى حضن للكرامة. لقد كان الأمل كبيراً في أن تؤول الأمور إلى دولة ديمقراطية، تُبنى على قواعد العدالة والحرية والكرامة، لكن هذا…