ابراهيم محمود
3- عن طريق السليمانية لا عن السليمانية
ربما بات من البداهة القول: إن وجود شبكة طرق حديثة في بلد ما هو أول الدخول إلى المدنية، والخطوة الأولى لبناء مدينة عصرية. ولا أخفي شعوري إزاء طرق إقليم كردستان، واعتبارها دون المستوى المطلوب إلى حد كبير. وربما كان سلوك طريق أربيل- السليمانية خير شاهد على ذلك. إن حديثي عن الطريق لا يقصيني عن جوهر الموضوع. فقطْع الطريق المذكور في عدة ساعات متعِب وينذِر بالمخاطر أيضاً، خاصة لحظة هطول الأمطار. وهذا ما عشناه .
أشير هنا إلى واقعة مرئية عشنا ثوانيها، يوم الأربعاء بعد الظهر ” 9-5/ 2018 “، عندما ينحصر الطريق بين مطرقتي جبلين، أو في منبسط أو منخفض أرضي وفي جهة له يشرف الجبل عليه وهو يتهدده بمياهه الجارفة للأحجار والوحول والحصى مندفعاً نحوه، ليخفي مساحات معتبرة منه، لا بد أن يلزِم السائق بتحويل مساره لأن الطريق الرئيس ينغمر بالماء وهو مع الزمن يبتلع الطريق هذا، وقد يقطعه، ويبعث على التخوف من لحظة مباغتة حين ينقذف سيل مائي جارفاً السيارة ذاتها ومهدداً ركابها بالموت أحياناً.
ذلك ما حدث معنا قبل نقطة سد ” دوكَان “. حيث صوت المسيلات المائية في الجوار، وتوحيل الطريق، وتلبد الجو بالغيوم، مصحوباً بقصف الرعد ووميض البرق، وفي ذلك الحوض الأرضي المهيأ لكل الاحتمالات، بدوْنا كما لو أننا في مسرح تراجيدي إغريقي ” يوريبيدسي” كأني بالطبيعة ذاتها تتكلم، مع اكفهرار المناخ، ليكون من في المكان في مواجهة ما لا يتمناه، وكل ذلك عرَّض العائلة لذعر لا يخفى وقد انخطف لون وجهها، وهي تضع يدها على قلبها المتسرّع أصلاً، حيث لم يهدىء من روعها كل الكلام المطمئن الذي أسمعته إياها، ودون أن أخفي أنا نفسي تخوفي من هذا الطريق الذي أصابنا بالغثيان.
هذا الخوف نادمَنا حتى مشارف السليمانية التي ما أن بانت في معالمها حتى استرددْنا أنفاسنا واستشعرنا أماناً، وعلي أن أثبت عدة نقاط أرى في إيرادها ما لا ليس منه بد:
لقد تداعتْ إلى ذهني في اللحظات الثقيلة والمقلقة التي كنا نسلك فيها الطريق والسيارة تتمايل بنا كما لو أنها تتمرجح، تداعت تلك ” الوفرة ” من صور الذين رشَّحوا أسماءهم لانتخابات البرلمان المحلي والعراقي، والكِلَف الهائلة التي أنفقوها في الدعاية الشخصية، بلغت عشرات الألوف من الدولارات بالنسبة لكل منهم ” فقد كانوا كثراً “، حيث إن المجموع يشكل أكثر من ميزانية أكبر مدينة في الإقليم لعام كامل. وتجلت المفارقة الكبرى بين هذا السخاء في الإنفاق على ما هو شخصي ” ولست مقتنعاً البتة بأن وراء عملية الإنفاق سعياً إلى تخديم الإقليم وأهليه “، وما يعيشه الإقليم من ضائقة مالية منذ عدة سنوات ” منذ عام 2014 “، واحتجاجات الموظفين ” وفي الواجهة ينبري المعلمون “، والأحاديث المتلفزة من ساسة الإقليم بتنوع مراتبهم عما يجري وكيف يتم البحث عن الأسباب والمسببات والوضع يتأزم. تُرى، لو أن نسبة ضئيلة من هذه الكلف أنفِقت في مشاريع إنمائية، أو لتحسين الوضع الاقتصادي للإقليم أما كان ذلك تعبيراً عن الوعي الراقي لهؤلاء المتنافسين على مقاعد محدودة وبوازع محسوبياتي ؟
تُرى، لو أن كلاً منهم، خصص عشراً من نفقات دعايته في تحسين الطريق” بناء جسر صغير في كل نقطة تحتاجه “، مع تثبيت اسمه عليه “، أما كان ذلك يمثّل تجسيداً لوعي قومي ومدني كردي بامتياز ؟
لو أن عدداً من هؤلاء المرشحين، تضامنوا، ونظروا في أمر شبكة الطرق هذه، كما في النقاط التي مررنا بها، أما كانت أسماؤهم تخلَّد، أو يجري مدحها من الجميع ودون استثناء ؟
كيف يمكن نسيان الوضع باعتباره بائساً وينطوي على قدر كبير من المفارقات، من خلال رؤية طرق تمتد من جهات شتى، وكأن هناك من يتعمد في إبقائها على هذه الصورة: حفراً وسوء تعبيد وتعرجات بالمقابل، في الوقت الذي يُتركَّز على ما هو وطني وقومي؟
هل حقاً، أن هؤلاء الذين يرشحون أنفسهم للبرلمان، ومن وراءهم، على وعي قاعدي بمفهوم الترشيح، ومتطلبات الترشيح، ومسئوليات الترشيح، والمرئي يمثّل شاهداً على مأساة الحالة؟
أيمكن الحديث في وضع كهذا، عن غد معدٍّ له، وما في ذلك من تنمية للنفوس والأذهان، أو الموارد البشرية، أم المزيد من الإخلال حتى بما هو قائم والمزيد من التراجع إلى الوراء؟
مشهد من الطريق السليماني التقطتُه، اعتبرته أقرب إلى اللوحة الفنية منها إلى الصورة الفوتوغرافية
مشهد آخر حيث المطر يكاد يحجب الرؤية