الكردُ بين البداوة والثورة

صبري رسول
الانهيارُ الذي أصاب المجتمع الكردي على كلّ الصعد (سياسياً وعسكرياً) يبقى أقلّ خطورة مقارنة مع التدمير المُبرمج لبنية المجتمع وقواه الكامنة في الاستمرارية، وثم إمحاء ذاكرته الثقافية، والقضاء على القوى الشابة الكردية في سوريا كإحدى أهم حوامل وجوده. 
ما حصل لم يأتِ هكذا في لحظةٍ ومصادفة زمنية عابرة، بل جاء نتيجة طبيعية لتنفيذ خططٍ مرسومة في دوائر استخباراتية للنظام السوري بالتفاهم مع الدول الغاصبة لكردستان، استهدفت المجتمع الكردي وكينونة وجوده في غفلة من القوى السياسية الفاعلة.
منذ بداية العاصفة السورية، شاركت القوى الشبابية الكردية الثائرة في الحراك الثوري ضد بطش الاستبداد المُزمِن في ذهنية الفرد قبل تحرّكه ضد قوى الاستبداد العسكرية. لكن النّظام المخابراتي تمكّن من جرِّ حلفائه السابق (القوى المرتبطة بالحزب العمال الكردستاني «PKK») إلى صفّه وتسليمها المناطق الكردية مقابل صدّها للقوى الكردية الثائرة.
انقسم الكرد بين المجلس الوطني الكردي ومنظومة (PKK) تحت اسم حزب الاتحاد الديمقراطي الذي وطّد علاقاته بالنظام بعد تصفية عدة شخصيات سياسية وشبابية، وساعدته في الأمر كتلة من الأحزاب الكردية المرتبطة أمنياً مع النظام داخل المجلس الوطني الكردي، وتعطيله عن أداء مهامه، وتسخير الوضع لخدمة عسكرة المجتمع من خلال مسلحي (ب ي د). لم يكتفِ بذلك فقط، بل زجَّ بعشرات السياسيين والكوادر المتقدمة في سجونه، في محاولة للقضاء على الحياة السياسية بطريقةٍ عجز عنها النظام لعقود. أما الشباب فلم يكن أمامهم إلا: الالتحاق بميليشياته العسكرية، أو دفع ما لديهم من مال وممتلكات لشراء فرصة الهروب إلى خارج الحدود. فمن التحق بعسكره قضى نحبه، ومن فرّ بجلده وقع في فخّ مافيات الحدود، ليبدأ رحلةَ العذاب إلى الفردوس المفقود. فخسر المجتمعُ الكرديُّ شبابَه، وأمواله، ومستقبله. والآن بدأ يخسر أرضه. إنّه المنهوب في كلّ أمره. 
استفرد ب ي د بالمجتمع الكردي الأعزل ومارس سياسة البطش والقتل والتجنيد والنهب المنظّم وقيّده بمافياتٍ استحكمت بكل تفاصيل الحياة. هذه الظروف كانت مقدماتٍ طبيعية للانهيار الاجتماعي والعسكري. فمن الطبيعي أن ينسحب مسلحو ب ي د من عفرين بعد إن دمّر مقومات المجتمع العفريني بشكلٍ منظم، ومن الطبيعي أن يحتفلَ بالنّصر الساحق بعد إن استكمل جيش الاحتلال التركي  تدمير مقومات الحياة في عروس جبال كرداغ . 
قد يكون ثمّة أملٍ على قوى «خامدة» تنهض كردّ فعلٍ على الوضع المأساوي، وتستنهض معها قوى أخرى تغيّرُ مجرى الأحداث، وهذا يبقى على عاتق شرفاء القوم. أما التغيير الديمغرافي سيستمرّ كاستمرار النزيف الكردي إلى أنْ تلبس جبال «كرداغي» عباءة البداوة أو يثور الكردُ حتى الاهتداء بالاتجاه الصحيح.  

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

نظام مير محمدي*   بعد الذي حدث في لبنان وسوريا، تتسارع وتيرة الاحداث في المنطقة بصورة ملفتة للنظر ويبدو واضحا وتبعا لذلك إن تغييرا قد طرأ على معادلات القوة في المنطقة وبحسب معطياتها فقد تأثر النظام الإيراني بذلك كثيرا ولاسيما وإنه كان يراهن دوما على قوة دوره وتأثيره في الساحتين اللبنانية والسورية. التغيير الذي حدث في المنطقة، والذي كانت…

عنايت ديكو سوريا وطن محكوم بالشروط لا بالأحلام. سوريا لن تبقى كما يريدها العرب في الوحدة والحرية والاشتراكية وحتى هذا النموذج من الإسلاموية، ولن تصبح دولة كما يحلم بها الكورد، من تحريرٍ وتوحيد للكورد وكوردستان. هذا ليس موقفاً عدمياً، بل قراءة موضوعية في ميزان القوى، ومصارحة مؤلمة للذات الجماعية السورية. فمنذ اندلاع شرارة النزاع السوري، دخلت البلاد في مرحلة إعادة…

محمود برو حين يتحدث البعض عن كوردستان على أنها أربعة أجزاء، ثم يغضون الطرف عن وجود كوردستان الغربية، ويحاولون النقص من حقوق شعبها تحت ذرائع مبرمجة ومرضية للمحتلين ،فهم لا ينكرون الجغرافيا فقط، بل يقصون نضالاً حقيقياً ووجوداً تاريخيا و سياسياً للكورد على أرضهم. إنهم يناقضون انفسهم ويدفعون شعبهم إلى متاهات صعبة الخروج كل ذلك بسبب سيطرة الادلجة السياسية…

حوران حم واقع يصرخ بالفوضى في مشهد يعكس عمق الأزمة البنيوية التي تعيشها الحركة الكوردية في سوريا، تتوالى المبادرات التي تُعلن عن تشكيل وفود تفاوضية موسعة، تضم عشرات الأحزاب والتنظيمات، تحت مسمى التمثيل القومي. غير أن هذا التضخم في عدد المكونات لا يعكس بالضرورة تعددية سياسية صحية، بل يكشف عن حالة من التشتت والعجز عن إنتاج رؤية موحدة وفاعلة….