هدية العبادي

د. ولات ح محمد
    يوم الثلاثاء 13 آذار الماضي أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي رفع الحظر عن مطاري أربيل والسليمانية ودفع رواتب قسم من موظفي الإقليم. وقد جاء ذلك الإعلان في كلمة ألقاها أمام مجموعة من الضباط العراقيين العاملين في مطارات الإقليم وبحضور وزير الداخلية الاتحادي ووزير داخلية الإقليم. ومما جاء في تلك الكلمة قول العبادي: “واجبنا تسهيل الأمور على المواطنين(…). آمل أن يكون فتح المطارات هدية لشعبنا في إقليم كوردستان قبل نوروز. وهناك هدية ثانية وهي إصدار قرار بصرف الرواتب (…). ونحن غير متفضلين على الناس بالقيام بمسؤولياتنا. خلال يومين يستطيع مواطنونا في إقليم كوردستان الحركة بحرية، وهذا حقهم وليس تفضلاً. راح زمن القمع مع النظام البائد”. 
    إجراءات العبادي من قطع الرواتب وإغلاق المطارات دون أي مسوغ حقيقي تسببت خلال ستة شهور الماضية بأضرار مادية ومعيشية ونفسية لحقت بالكورد. وبدلاً من الاعتذار لأولئك المواطنين عن كل ذلك اعتبر العبادي إعادة فتح المطارات ودفع الرواتب لقسم من الموظفين “هدية” للمواطنين الكورد بمناسبة أعياد النوروز. وهي صيغة تذكرنا بما كان يسميه صدام وغيره من الديكتاتوريين بـ”هبات” و”عطاءات” القائد، علماً أن تلك العطاءات كانت جزءاً بسيطاً من صميم حقوق الناس التي كانت في حوزة الحاكم. أضف إلى ذلك أن العبادي قال إن المطارات ستعود إلى السلطة الاتحادية بموجب الدستور، ولكنه لا يرى في حصول “المواطنين” على رواتبهم وفتح مطاراتهم حقاً دستورياً لهم، بل يراها “هدية” منه ومنّة. 
    من جهة ثانية قال العبادي إن سبب الحصار على مطارات الإقليم لم يكن إيذاء مواطني الإقليم بل من أجل عودة السلطة الاتحادية إلى تلك المطارات. وما دامت حكومة الإقليم قد وافقت – حسب قوله – على ذلك لم تعد هناك مشكلة. يبدو أن السيد العبادي لا يثق كثيراً بذاكرة الناس أو ربما يظن أنه الوحيد القادر على التذكر. فحكومة الإقليم تقول بأعلى صوتها منذ ستة شهور وأسمعت كل العالم بأنها مستعدة للحوار مع بغداد وحل كل الخلافات تحت سقف الدستور، بينما كان العبادي وحكومته يجعلان أذناً من طين وأخرى من عجين وكانا مشغولين بإصدار قوانين وقرارات وعقوبات على شعب الإقليم تزيد من الشرخ والخلاف بدلاً من العمل على إزالتهما.
    لقد تبين أن كل ما فعله السيد العبادي منذ قراره الحرب على كركوك وأهلها في 16 أكتوبر تشرين الأول الماضي (في مخالفة واضحة للدستور) مروراً بكل ما تم اتخاذه ضد الإقليم وصولاً إلى إعادة فتح المطارات ودفع جزء من رواتب الموظفين لم يكن سوى دعاية انتخابية؛ فلو اكتفى العبادي منذ ستة شهور بشرط وجود موظفين اتحاديين في مطارات الإقليم وتبعيتهم لوزارة الداخلية وغيرها من النقاط التي جاءت في بيانه لما اعترضت حكومة الإقليم على ذلك مادامت مسألة دستورية، فلماذا كل هذه المماطلة والتسويف والتأجيل كل هذه المدة؟. ما يؤكد ذلك أن وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي قال في مؤتمر صحفي عقب التقائه مسؤولين في الإقليم بعد قرار العبادي : “لا توجد خلافات عميقة (بين أربيل وبغداد) بل وجهات نظر مختلفة”. وإذا كانت هذه هي حقيقة الأمر فهل كان ذلك يحتاج إلى كل هذه الشهور من العقوبات والحصار حتى يكتشف شعب الإقليم إن المشكلة فقط اختلاف في وجهات النظر؟.
    من الواضح أن العبادي أرجأ حل المسألة إلى هذا الوقت كي يوظفه في دعايته الانتخابية؛ فمن جهة أراد أن يظهر نفسه قائداً قوياً قادراً على معاقبة جزء من شعبه على عكس ما كان خصومه يروجون عنه من ضعف. ومن جهة ثانية قدم نفسه للكورد على أنه الرجل العطوف الحنون الذي لا يرضى أن يعانوا من الحصار والفقر وفقدان الرواتب. وهو بذلك يشبه من سلب شخصاً غرضاً له بالقوة، ثم بعد معاناة صاحب الغرض قام بإعادته إليه وهو يقول له: انظر كم أنا متعاطف معك، وكيف أعدت إليك حقك؟!.
    من جهة يقول العبادي إن فتح المطارات ودفع رواتب الموظفين ليس تفضلاً على شعب الإقليم، بل هو جزء من مسؤولياته وجزء من حقوق الناس الطبيعية. ومن جهة ثانية يقول إن فتح المطارات ودفع الرواتب هديتان لشعب الإقليم قبل نوروز. السبب أن حاكم العراق كغيره من حكام الشرق لا يستطيع التخلص من ذهنية “مالك الدولة” في الحكم؛ فهو يرى أن من حقه معاقبة شعبه (أو جزء منه) معاقبة جماعية لأسباب سياسية، ولا يستطيع أن يرى حقوق الناس كما هي بوصفها حقوقاً لهم منصوصاً عليها في الدستور والقانون، بل بوصفها أفضالاً منه يوزعها عليهم على شكل هدايا وأعطيات. 
    الهدية ملك لصاحبها يتفضل بها على الآخر، وهي ليست حقاً مكتسباً لمن يتلقاها. السيد العبادي يعلم أن فتح المطارات ودفع الرواتب حق “متأخر” للناس، وليس تفضلاً منه، وقد كرر ذلك. المشكلة أنه لا يستطيع أن ينظر إلى ذلك الإجراء بوصفه حقاً للناس يكفله القانون والدستور. ولذلك بدلاً من أن يقدم اعتذاره على تأخير إعادة حقوق الناس القانونية إليهم وما سببه من أذى لمواطني إقليم كوردستان جعلها “هدية” لهم وكأنها ملك له يعطيه من يشاء ويمنعه عمن يشاء، فهل حقاً “راح زمن النظام البائد”؟!.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين   في السنوات الأخيرة، يتصاعد خطاب في أوساط بعض المثقفين والنشطاء الكرد في سوريا يدعو إلى تجاوز الأحزاب الكردية التقليدية، بل والمطالبة بإنهاء دورها نهائياً، وفسح المجال لمنظمات المجتمع المدني لإدارة المجتمع وتمثيله. قد تبدو هذه الدعوات جذابة في ظاهرها، خاصة في ظل التراجع الواضح في أداء معظم الأحزاب، والانقسامات التي أنهكت الحركة الكردية، لكنها في عمقها…

عدنان بدرالدين   بينما تتجه الأنظار اليوم نحو أنطاليا لمتابعة مجريات المنتدى الدبلوماسي السنوي الذي تنظمه تركيا، حيث يجتمع قادة دول ووزراء خارجية وخبراء وأكاديميون تحت شعار ” التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، يتبادر إلى الذهن تساؤل أساسي: ما الذي تسعى إليه أنقرة من تنظيم هذا اللقاء، وهي ذاتها طرف فاعل في العديد من التوترات الإقليمية والصراعات الجيوسياسية، خصوصًا…

جليل إبراهيم المندلاوي   في عالمنا المليء بالتحديات الجيوسياسية والأزمات التي تتسارع كالأمواج، هناك قضية كبرى قد تكون أكثر إلهاما من مسرحية هزلية، وهي “ضياع السيادة”، حيث يمكن تلخيص الأخبار اليومية لهذا العالم بجملة واحدة “حدث ما لم نتوقعه، ولكنه تكرّر”، ليقف مفهوم السيادة كضحية مدهوشة في مسرح جريمة لا أحد يريد التحقيق فيه، فهل نحن أمام قضية سياسية؟ أم…

أمجد عثمان   التقيت بالعديد من أبناء الطائفة العلوية خلال عملي السياسي، فعرفتهم عن قرب، اتفقت معهم كما اختلفت، وكان ما يجمع بينهم قناعة راسخة بوحدة سوريا، وحدة لا تقبل الفدرلة، في خيالهم السياسي، فكانت الفدرالية تبدو لبعضهم فكرة دخيلة، واللامركزية خيانة خفية، كان إيمانهم العميق بمركزية الدولة وتماهيها مع السيادة، وفاءً لما نتصوره وطنًا متماسكًا، مكتمل السيادة، لا يقبل…