رستم محمود
في ما لو دخلت التصريحات الأخيرة للرئيس الأميركي دونالد ترامب حول الانسحاب من سوريا، حيز التنفيذ، فأنها ستكون بمثابة «ضربة قاصمة» لطموحات الأكراد السياسية في المنطقة، لا سيما الأكراد السوريين من تنظيمات سياسية ومُسلحة القريبة من «حزب العُمال الكُردستاني» تحديداً.
فتصريح ترامب قبل أيام عدة، بضرورة انسحاب القوات الأميركية من سوريا، سيعني بأن كامل منطقة شمال شرق سوريا، التي تُهيمن عليها «قوات سوريا الديموقراطية» وتخضع سياسياً لـ«حزب الاتحاد الديمُوقراطي» الكُردي، والتي تُشكل قُرابة ثُلث مساحة سوريا، ستفقد سمتها الاستثنائية، كمنطقة سورية وحيدة في ظلال حماية دولية – أميركية، استراتيجياً، وستعود منطقة تجاذبات نفوذ إقليمي بين دمشق وطهران وأنقرة على حِساب القوى الكُردية المُهيمنة، سياسياً وعسكرياً.
التوجه الأميركي الجديد، فيما لو تحول إلى سياسة عملانية ومباشرة، فأنه سيُعدُ مكملاً لانسحابين آخرين لواشنطن من المنطقة خلال السنوات الأخيرة، وكانا على حساب التطلعات الكُردية.
ففي أوائل عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2008، حوّلت وزارتا الدفاع والخارجية الأميركيتان برنامج أوباما الانتخابي إلى خطة استراتيجية، وانسحبت واشنطن من العراق عسكرياً وسياسياً. ووصف أحد قادة السُنة العراقيين في حينه، هذا التوجه الأميركي بأنه بمثابة تركٍ للعراق لـ«أنياب الذئاب»، وكان يقصد الإمكانية الحتمية لتمدد النفوذ الإيراني وهيمنته على العراق، وبالتالي الحؤول دون إمكانية توازن سياسي – طائفي بين السُنة والشيعة.
لكن الانسحاب الأميركي في حينه، حجّم من النفوذ الكُردي في «العراق الجديد» أولاً. فالقوى السياسية الكُردية في العراق كانت الوحيدة التي تعتمد على النفوذ الأميركي بشكلٍ شبه مُطلق، بينما كانت القوى السُنية والشيعية تعتمد على قوى إقليمية. وأحدث هذا الانسحاب الأميركي خللاً في القدرات الكُردية، أدى إلى تراكم لأن الخلافات بين حكومة إقليم كُردستان العراق والحكومة المركزية التي حجبت حصة الإقليم من الميزانية المركزية في ما بعد، وغدا الإقليم يُشكك بأي إمكانية للتعايش مع الدولة المركزية العراقية، ولجأ إلى استفتاء الاستقلال الأخير في أيلول الماضي، والذي أظهر «اهتراء» القوة الكُردية في ما لو توحدت الحكومة المركزية مع قوى إقليمية لمواجهته.
الانسحاب الأميركي الثاني كان في العام الأول من الربيع العربي، فعدم مُبالاة واشنطن الفعلية بتصاعد الأحداث في كُل من سوريا والعراق، عبر عدم تأمين مظلة حماية حقيقية لكُتلة الرافضين للنِظامين السياسيين في البلدين، سمح للنِظامين الحاكمين، وبتأييد واضح من القوى الإقليمية، بتحويل الأحداث إلى أشكالٍ مُركبة من الحروب الأهلية الطائفية، وأن تخرجها من سياقها كحركات احتجاج سياسي مدني، رافضة بالأساس توجهات للنِظامين السوري والعراقي الطائفية.
كان لذلك التحول في مسار الربيع العربي دورٌ بالغ في التأثير على المسألة الكُردية في كِلا البلدين. فلم تعد التطلعات الكُردية المُحقة والديموقراطية جزءاً حيوياً من ديناميكية تلك «الثورات»، بل غدت الحقوق الكُردية، والكُرد أنفسهم، كمُجتمع وكقوى سياسية وعسكرية، جزءاً من لوحة الفرز والانقسام الطائفي، وهم لم يكونوا يوماً، جزءاً منها، وكذلك غدوا جزءاً من الصراع الإقليمي العدمي، بمعنى أن الكُرد فقدوا سمتهم المُتمايزة كقوة مطالبة بحقوق «شرعية» واضحة من كِلا المحوريين الإقليميين.
مُنذ منتصف العام 2014، عادت الولايات المُتحدة لتكون لاعباً فعالاً في كُل من سوريا والعراق، عبر مظلة التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب. واستقرت السياسة الأميركية حينها، على أن الكُرد هُم الشُركاء الإقليميون الأقرب إليها. فالقوى السياسية والعسكرية الكُردية في كِلا الدولتين كانت ايديولوجياً قريبة من التوجهات الأميركية، خصوصاً في مُناهضتها لتيارات التطرف الديني، السُنية والشيعية على حدٍ سواء.
وطوال أكثر من ثلاثة سنوات، سمح هذا الانخراط الأميركي للأطراف الكُردية بالتمدد سياسياً وعسكرياً بشكل استثنائي، حتى أنها تتجاوز في هيمنتها، المناطق ذات الأغلبية السُكانية الكُردية، وأن تقف في وجه التحالفات الإقليمية المُناهضة لها، وأن تُصعد من مستوى تطلعاتها، حتى وصلت في العراق إلى مرحلة إجراء استفتاء للاستقلال عن العراق، وأن تُعلن في سوريا فيدرالية من جهة واحدة.
وخلق ذلك التوجه الأميركي شيئاً من الثقة الكُردية بالنفس، وسمحت للقوى الكُردية بأن تتجاسر في مواجهة الخطوط الإقليمية الحمراء تجاه المسألة الكُردية في البُلدان الأربعة (سوريا وتركيا والعراق وإيران). وهي بهذا المعنى إنما قطعت الكثير من أواصر التواطؤ التي كانت قد نسجته كُل قوة سياسية كُردية في دولتها، حيث كانت التطلعات والمطالب والحركات الكُردية قبل ذلك، تتناسب مع طبيعة النِظام السياسي لكُل لبلد، وضمن لعبته الداخلية الخاصة.
لكن النفوذ والانخراط الأميركي مُنذ العام 2014 ذلك التوازن، والذي لم يكن عادلاً بكُل شكل. لكنه بالمقابل لم يُقدم أي شيء واضح وذو مضمون واستمرارية. فالاستراتيجية الأميركية كانت عسكرية فحسب، وذو بُعدٍ استراتيجي واحد «محاربة الإرهاب»، دون أن أية رؤية سياسية قط، بل مع الكثير من التردد وعدم الثقة والفوضى في ذلك الاتجاه. حتى في البُعد العسكري لم تُقدم شيئاً لـ«حلفاءها» الأكراد، فهي كانت «تُقدم أسلحة تكفي لمعركة واحدة فحسب»، حسبما صرح أحد قادة قوات البيشمركة الكُردية.
كان الموقف الأميركي الحازم في تأييده للقوى الإقليمية المناهضة لاستفتاء إقليم كُردستان العراق، أولى الخطوات العملية لمرحلة الانسحاب الأميركي الجديد، والذي أظهر الإقليم الكُردي بحالة ضُعفٍ شديدة تجاه الحكومة المركزية في بغداد.
وتعزز الانسحاب الأميركي بعدم تقديم أي غطاء لإقليم عفرين أثناء الهجوم التُركي الأخيرعليه، ليس عبر تقديم أسلحة نوعية تُعيق التقدم التُركي فحسب، بل أولاً عبر عدم إلزام تُركيا ببعض الخطوط الحُمر، كعدم ترك مُدن وبلدات إقليم عفرين لقمة سائغة لعصابات النهب العام التي رافقت الهجوم التُركي.
راهناً، يتعقّد المشهد في الشمال السوري ليصل إلى ذروته، فلا عفرين ولا منبج هما بؤرة الاهتمام التُركي الرئيسية، على الرُغم أهميتهما. فتُركيا متيقّنة بأن أي كيان كُردي يُمكن له ان ينبثق، سواء كان سياسياً أو جُغرافياً، فأنه سيكون في منطقة الجزيرة السورية، حيث يُسيطر الكُرد على قُرابة ثلث مساحة سوريا، وتنتشر فيها العشرات من القواعد العسكرية الأميركية.
وفي ما لو استقرت السياسة الأميركية في سوريا على الانسحاب «غير المسؤول»، فأنها منطقياً ستُعزز الفرصة أمام إمكانيتين هما: عودة النِظام السوري السريعة إلى حُكم تلك المنطقة لقطع الطريق أمام أي توجهات تُركية، وتصاعد فرص وقوع حربٍ أهلية عربية – كُردية محلية، بتهييجٍ من النِظام السوري والقوى الإقليمية.
جريدة المستقبل