د. محمود عباس
فجأة وبدون مقدمات، ولربما على خلفية مقتل الجنديين، الأمريكي والبريطاني، بلغم وإصابة خمسة أخرين بجروح قرب مدينة منبج في منطقة عفرين، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب يوم الخميس بتاريخ 29-3-2018م أمام حشد من الناس في ولاية أوهايو “أن القوات الأمريكية ستنسحب قريباً جداً جداً من سوريا” أتبعها في اليوم الأخر بتجميد المساعدات المالية المقدرة بـ 200 مليون دولار والمخصصة لإعادة إعمار المنطقة المحررة من داعش.
فتح بهذين التصريحين أبواب عديدة على كل الجهات، وخلق فوضى في وجهات نظر المحللين والمراقبين السياسيين، حول أسباب ظهورهما غير المتوقع وخلفياتهما، خاصة تأكيده على سحب جنوده من سوريا، والتي قد لا تعني التخلي عنها في البعد التكتيكي العسكري وبالتالي عن مصالحها هناك اقتصاديا، وهو قرار يخالف بل ويعارض جميع التصريحات السابقة لوزارتي الدفاع والخارجية، اللذان وضحا مراراَ وتكراراً أن أمريكا لن تخرج من سوريا حتى بعد الانتهاء من داعش، كما وأنه في حال المعني بها الانسحاب الاستراتيجي من سوريا، سيكون قد ناقض مع ما يقال حول صرامة وزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي الجديدين، واستراتيجيتهما المعارضة لتوسعات النفوذ الإيراني وتصاعد الهيمنة الروسية في الشرق الأوسط.
رغم السوداوية الملقاة بهذا التصريح على طموح شريحة واسعة من المجتمع السوري ومن بينهم الشعب الكردي، بإقامة سلطة سورية فيدرالية لامركزية، المشروع المدعوم أمريكياً، تبقى احتمالية أن يكون المعلن صادراً نتيجة لتكتيك جديد، ربما تم وضعه بمشاركة مايك بومبيو وجان بولتن، وتدرج ضمن الخطط المرسومة لاستنزاف إيران وروسيا، ولا يستبعد أن يكون تهديدا غير مباشر لتركيا في حال استمرت في ميلانها نحو روسيا، بدفعها للتعامل مع قوى أخرى أكثر حزما بتعاملها مع القضية السورية من أمريكا المحافظة على وحدة الناتو، وبنودها.
في الواقع جاء التصريح مفاجئاً بالنسبة للمحللين السياسيين ولبعض شبكات الإعلام، ولبعض المؤسسات الأميركية الرسمية كوزارة الخارجية وذلك على لسان المتحدثة باسمها، هيذر نويرت، إنه “لم يكن لديها علم بأي خطة جديدة لانسحاب القوات الأميركية من سوريا”. ولكن على الأغلب لم يكن مفاجئاً للقوى الدولية المعنية بالأمر، فهم يرجحون أنه تم مناقشته والبحث فيه وأقر ضمن أروقة البيت الأبيض، قبل أن يكشف عنه الرئيس، وهذا ما صرح به مؤخراً بعض الإداريين المقربين من الرئيس ذاته، مباشرة بعد التصريح، علماً أن البعض الأخر من الإدارات المعنية بالأمر ذكروا أنه قرار فردي ولا يعني أنه سيدخل حيز التنفيذ، وأفغانستان خير شاهد على مثل هذه التصريحات الفردية المفاجئة والمتناقضة مع الواقع العملي.
للعلم ومن حيث الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة وخاصة في سوريا، يتوافق المقال مع شعارات حملته الانتخابية، فهو المعترض على حرب العراق وإرسال القوات الأمريكية إلى المناطق الساخنة، وقد ذكر مراراً في تلك الفترة أنها من مهمات الأطراف المحلية، متناسيا أو متخليا عن الهيبة الأمريكية كإمبراطورية، مركزاً على الهيمنة الاقتصادية العالمية، وهذا ما تناولناه في مقالات سابقة، وعليه يقال إن ترمب كثيرا ما ينحاز في قراراته لمصالحه الشخصية حيث استثماراته العديدة في تركيا وبعض الدول العربية، ولا يستبعد أن تكون الصفقة السورية، الاقتصادية خاصة، من ضمن العقود المتفقة عليها مع الأمير السعودي في زيارته الأخيرة إلى أمريكا.
بغض النظر عن تأثير التغيرات الحديثة في الإدارة على استراتيجية البيت الأبيض، لا نستبعد أن تكون هناك إشكاليات داخلية تؤثر سلباً على قرارات ترمب شخصياً وعلى الحزب الجمهوري بشكل عام، لا تقل ثقلاً عن القضايا الاستراتيجية الخارجية، لذلك ربما يحاول ترمب إرضاء الشارع الأمريكي المحرض ضده من قبل أغلبية الإعلام الامريكي، على خلفية التهجمات الواسعة عليه شخصيا، والواقفة خلفها الحزب الديمقراطي، خاصة بعد إعادة فتح بعض من ملفات تهم التحرش الجنسي لترمب، كالتي يتهمه بها ممثلة البلي بوي، ونقلها كقضايا قانونية إلى المحاكم، إلى جانب تصاعد قضية علاقته بالهكر الروسي على مسيرة الانتخابات الرئاسية السابقة، وعلاقة البعض من أفراد عائلته بمافيات روسية، وغيرها من القضايا التي جعلت القنوات التلفزيونية الأمريكية ك (سي ن ن) تفرز معظم وقتها النبش فيها كملفات تهم الوطن قبل أن تكون مسائل شخصية.
ولا يستبعد أن يكون التصريح هروبا من مواجهة روسيا في المنطقة، ليس مخافة من قواتها العسكرية، بل لربما لعامل شخصي يحتمل أن تكون بيد إدارة بوتين معلومات وأسرار شخصية عن ترمب قبل الانتخابات، وأثناءها.
ويبقى التصريح دارجاً ضمن إشكالية الصراع على الشرق الأوسط والخدع الدبلوماسية بينها وبين روسيا والصين، والدول الأوربية، قبل أن يكون قلقاً على سلامة الجنود الأمريكيين والمتبجح بها ترمب أمام المجتمع الأمريكي المحافظ. وعلى رأس قائمة الاحتمالات، تأتي مخطط إدراج إيران وروسيا إلى مستنقع الصراع مع نوعية جديدة من الدواعش المتبقي أو المحافظ عليه في المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق، والخلايا النائمة في المدن العراقية، كما وتدرج ضمنها الصفقات على مصير شعوب المنطقة وفي مقدمتهم الكرد من أجل مصالحها. ففي هذه القضية، وعلى خلفية هذا التصريح، في حال تم تفعيلها، قد تغير البنتاغون مواقفها من الكرد، ومثلها وزارة الخارجية مع تركيا، ولا يمكن الأن ترجيح كفة الموازيين السلبية والإيجابية بينهما، وقد تتوضح بعد تبيان الموقف النهائي لأمريكا من مدينة منبج وتهديدات أردوغان الأخيرة بالهجوم عليها في حال لم تبين القوة الأمريكية هناك موقفها من الكرد.
كما وأن المطلب التشكيكي من قبل ترمب بإتمام العملية، الانتهاء من داعش، وحل العقدة السورية، ترجح أنها مبنية على تحريض الروس والإيرانيين، للتعمق في محاربة السنة، وبالتالي توسيع حلقة الصراع المذهبي أو ديمومتها على الأقل، والتي ستؤدي إلى احتمالية صدام ما بينهم وبين تركيا المرجحة أن تقف إلى جانب الحلف السني في النهاية. إلى جانب أن هناك توقعات أن تحل فرنسا عسكرياً محل أمريكا وبدعم من دول التحالف وعلى رأسهم أمريكا، أو من الناتو، ولربما على هذه الاتفاقية أستند الرئيس الفرنسي مكرون عندما قدم عرضه بان تقوم فرنسا بالوساطة بين الكرد وتركيا، والتي وصفها أردوغان بالاقتراح المحزن.
ويبقى الكرد، وقواتهم في مقدمة الأطراف المعنية المباشرة أو المتأثرة بهذا التصريح، وترجح هنا الاحتماليات السلبية، فيما إذا كان المعنى من التصريح الأول التخلي عن المنطقة المحررة من داعش والممتدة من شمال ديرالزور وحتى الحدود التركية، أي المعروفة دوليا بالمحمية الأمريكية، مع الكرد، أو باستخدامهم، والتي ستؤدي إلى تكالب القوى الإقليمية عليها وعلى رأسهما تركيا وإيران، وهنا سيضطر الكرد إلى الالتجاء ولنقل الانحياز إلى الطرفين، وليس أحد الجهتين، مثلما هي الأن بشكل غير مباشر، وبالتالي سنكون أمام مصير قاتم قد يدفع بنا الأعداء إلى الاقتتال الداخلي، فيما إذا بقيت للكرد قوات عسكرية، ولم يتم إذابتها أو تحجيمها وإضعافها بحيث لا تستطيع الخروج من تحت أوامر المهيمنين القادمين على مصير جنوب غربي كردستان، واستخدامنا كأدوات.
والغاية من التصريح الثاني، التراجع عن الوعود الاقتصادية، وإيقاف المساعدات عن الكرد، وهو إنذار بالتخلي عن مشاريع التنمية، وإعادة إعمار البنية التحتية للمنطقة ومدنها المدمرة، التي وعد بها كل من وزيري الدفاع ماتيوس والخارجية ريكس تيلرسون قبل شهور، كما وتعني الاستغناء عن الموارد النفطية والغازية في المنطقة المحررة من سيطرة داعش، وهنا يرجح احتمالية أن تكون هذه من ضمن الصفقات المدرجة بين السعودية وأمريكا، كما ذكرناها سابقاً.
أما إذا كانت العملية الترامبية منسقة مع فرنسا أو بعض دول التحالف فالكفة الكردية سترجح الإيجابيات، وسنكون أمام قادم يبشر بإشراقة على جنوب غربي كردستان، أول فصوله ندم تركي على احتلال عفرين، وهذا ما يتبين من خلال تصريحي ماكرون، الوساطة السياسية، وإرسال قوات عسكرية إلى المنطقة، قد تحل محل القوات الأمريكية، موضحاً بعد هجوم أردوغان، أنه يرسل قواته لمحاربة داعش فقط.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
31-3-2018م