حلبجة، قامشلي، نصيبين، كركوك وعفرين.. هل الكورد حقاً مواطنون؟

د. ولات ح محمد
    عندما يواجه الكورد أياً من الأنظمة الغاصبة لحقوقهم مطالبين بصيغة حكم تعبر عن شيء من خصوصيتهم القومية (إدارة ذاتية، حكم ذاتي، فيدرالية) تستنفر تلك الأنظمة كل حواسها (الوطنية في ظاهرها الشوفينية في جوهرها) لتقول لهم متصنعة الابتسامة والهدوء والتعقل والحكمة: إنكم “مواطنون” في هذه الدولة كغيركم ولكم كامل حقوق المواطنة، فماذا تريدون أكثر من هذا؟. وعليه من يطالب منهم بغير حق المواطنة يكون مخرباً ومتطرفاً وعميلاً يعمل لأجندات غير وطنية. هذا ما قالته وتقوله الأنظمة المتعاقبة في كل تلك الدول باستمرار. فهل الكورد مواطنون حقاً في نظر تلك الأنظمة وحتى في نظر معارضاتها “الديمقراطية”؟ وما صورة الكورد الحقيقية في مرايا شركائهم في تلك الأوطان؟.
    اليوم تمرّ ذكرى جريمة حلبجة وقبل أيام كانت ذكرى مأساة  قامشلي في وقت ما زال الغزاة يستكملون فصول اقترافاتهم بحق عفرين وأبنائها. في كل تلك المحطات وما جرى بينها وقبلها وبعدها بما فيها وأبرزها ما حدث لنصيبين قبل نحو عامين وما حدث لكركوك قبل نحو ستة شهور يرمي سؤالاً في وجوه تلك الأنظمة حول طبيعة المواطنة التي تحدث ويتحدث عنها أولئك الحكام الذين ارتكبوا ويرتكبون كل تلك الآثام بحق “مواطنيهم” الكورد.
    قبل ثلاثين عاماً أرسل صدام حسين طائراته إلى حلبجة الكوردية لتقوم بقصف أهلها من الأطفال والنساء والشيوخ بالأسلحة الكيماوية المُحرَّم استخدامها حتى مع ألدّ الأعداء. خلال دقائق فَقدَ أكثر من خمسة آلاف من “مواطني” الحاكم المجرم حيواتهم، وكأن زبانيته كانوا في صيد للعصافير وليس في عملية قتل لمواطنين ينتمون إلى الأرض التي يحكمها ويحملون هوية الوطن الذي يديره، ودون أن ينتاب أولئك المجرمين أي شعور بأنهم يقتلون أبناء بلدهم.
    في قامشلي بغرب كوردستان قامت عناصر الأمن قبل ثمانية عشر عاماً بإطلاق الرصاص الحي على أبناء المدينة وقتلت أكثر من ثلاثين كوردياً لم يرتكب واحد منهم إثماً سوى كونه كوردياً. ذنبهم الوحيد أن جمهور الفريق الزائر قام قبل المباراة بالتظاهر في شوارع المدينة مردداً شعارات وشتائم بحق الكورد وقادتهم وأنه استمر في ذلك داخل الملعب. وبدلاً من لجم المشاغب ومحاسبته أطلق عناصر الأمن الرصاص على “المواطنين” الكورد وقتلوا عدداً منهم. وفي اليوم التالي قاموا بمنع الناس من تشييع شهدائهم فأطلقوا النار عليهم وقتلوا عدداً آخر منهم. فهل كان للأمر أن يجري بهذه الصورة في الحالتين السابقتين لو لم يكن الطرف الآخر كوردياً، أو لو كان الكورد مواطنين من الدرجة الأولى في موازين تلك الأنظمة؟. 
    في هذا السياق يمكننا التذكير بالحصار الجائر الذي تفرضه الحكومة العراقية على إقليم كوردستان و”مواطنيه” منذ ستة شهور بعد قيامها بحملة عسكرية ضد البيشمركة للسيطرة على كركوك بعد أن نسقت لهذا الغرض مع دولتين جارتين كبيرتين. وقد شرّعتْ لذلك مجموعة من الإجراءات والقوانين بغية إضعاف الكورد وحكومتهم وإقليمهم، وكان آخرها فرض الموازنة التي قال عنها نجيرفان بارزاني رئيس حكومة إقليم كوردستان الأربعاء: “إن ظلماً كبيراً قد ارتكب بحق إقليم كوردستان في مسألة الموازنة، فإذا كان مواطنو الإقليم جزءاً من العراق فلا يجوز التعامل معهم بهذه الطريقة”. كل ذلك يشير إلى أن هؤلاء لا يتعاملون مع الكورد بوصفهم مواطنين كغيرهم كما يدّعون؛ إذ ليست هناك حكومة في العالم المتحضر أو المتخلف تتآمر على جزء من مواطني دولتها وتتحالف مع دول لتحاصرهم بغية إضعافهم أو إهانتهم أو خلق الحجج لملاحقتهم وإيداعهم السجون أو فصلهم من الوظائف أو تهجيرهم وتشتيت شملهم ودفعهم للاستسلام لها وتقديم فروض الطاعة.   
    قبل نحو عامين قامت الحكومة التركية بقصف مدينة نصيبين وتدميرها وتهجير مئات الآلاف من “المواطنين” فيها بذريعة ملاحقة عناصر كوردية. هل كانت لتفعل ذلك بمواطنيها ومدينتهم لو أن عناصر أو مجموعات مشابهة تحصّنت في مدينة تركية؟. أما النظام الإيراني الذي ينفذ إعدامات شهرية بحق الشباب الكورد بذرائع متعددة فإنه مثال صارخ على رؤيته للآخر الكوردي بوصفه مواطناً من نوع آخر. صحيح أن أردوغان هو صاحب رباعيته الشهيرة (وطن واحد، دولة واحدة، علم واحد، شعب واحد)، غير أن الشعار هو لسان حال جميع الأنظمة والحكام ومعارضيهم ولكنهم فقط  يستخدمونه للمتاجرة به و”الضحك” على العالم وعلى الكورد، إذ يحرصون على الأركان الثلاثة الأولى لتثبيت سلطتهم وشوفينيتهم ويدوسون على الرابع لأنه يخص مساواة الكورد بغيرهم. 
    من المؤشرات على درجة “المواطن” الكوردي في سلّم الحكام والأنظمة الحاكمة مسألة السماح بارتكاب الجريمة بحق هذه الفئة من “المواطنين” وعدم محاسبة أحد عليها، وكأن لسان حالهم يقول: من أجرم بحق كوردي فهو آمن؛ فجرائم القتل التي ارتكبت بحق الشباب الكورد في آذار قامشلي وما بعده لم تتم محاسبة أي عنصر أو مساءلته عليها. أما في العراق فإن ميليشيات الحشد الشعبي التي احتلت كركوك قامت باغتيالات لمواطنين وحرق لبيوتهم ومصادرة ممتلكاتهم الشخصية دون أن يتم إلقاء القبض على مجرم واحد من هؤلاء أو محاكمته، وكأن الأمر يجري في غابة أو في غياب من السلطة عن الوعي أو كأن من قام بتلك الجرائم كائنات غير مرئية. أما السبب هنا وهناك فهو فقط لأن المعتدى عليه “مواطن” بدرجة كوردي.
    المؤلم أكثر في هذه المسألة أن الأنظمة الحاكمة ليست وحدها صاحبة هذه الذهنية العدائية والنظرة الدونية تجاه الكورد، بل هو كذلك موقف قسم كبير من معارضاتها التي تدعي أنها أكثر ديمقراطية وإنسانية منها. مثلاً ما تتعرض له عفرين (الكوردية) على يد الغزاة الجدد يتم بمساندة من فصائل سورية مسلحة؛ فالمعارضة “الديمقراطية” وقفت مع الغازي المحتل ومدّته بجنود من عندها لاحتلال المدينة وقتل أهلها وتهجيرهم من قراهم ومدنهم وتوطين سوريين لاجئين في تركيا مكانهم، فقط لأن أبناء المدينة “مواطنون” كورد. فهل كان لهم جميعاً أنظمةً ومعارضات ومحتلين أن يُجمعوا على جريمة كهذه لو كان الحدث يجري في مدينة سورية سكانها من غير الكورد؟!.
    إن أفعال أولئك جميعاً تدل على أنهم يعاملون الكورد بوصفهم غرباء وافدين لاجئين يحق لهم فقط الأكل والشرب والنوم والعمل بما يوفر لهم قوت يومهم ولا يحق لهم أن يتمتعوا كغيرهم من المواطنين بحقوق الحماية والرعاية والإنصاف والمساواة التي يتمتع بها غيرهم من المواطنين. أما إن تجرّأ أحدهم على المطالبة بإنصافهم فإن العقوبات الجماعية بانتظارهم، تلك العقوبات التي تفرضها الأنظمة ويفرح لها ويؤيدها قسم كبير من معارضتها دون أن ينتابهم جميعاً أي شعور بأن أولئك الكورد هم مواطنون مثلهم وشركاء لهم في تلك الأوطان وأن ما يتعرضون له ظلم يقع على أولئك الإخوة المواطنين. 
    ما تعرض له الكورد في كل من حلبجة وقامشلي ونصيبين وكركوك وعفرين والإجراءات والقوانين التي أصدرتها الحكومة العراقية وبرلمانها ضد الكورد في الإقليم وما ارتكبته ميليشياتها بحق الناس في كركوك، وما فعلته نظيرتها السورية بحق الكورد قبل ثمانية عشر عاماً وما تفعله معارضتها السياسية وفصائلها المسلحة اليوم ضد الكورد في عفرين وعدم محاسبة أحد على تلك الجرائم أدلة غير قابلة لتأويل آخر على أن الكوردي في نظرهم جميعاً عنصر غريب وافد لاجئ وليس مواطناً أصيلا يستحق الحماية والكرامة والمساواة والدفاع عنه وعن مدنه. وبذلك لا يحظى الكوردي حتى بحق المواطنة وصفتها التي يدعونها كذباً في كل مناسبة. 
    في النتيجة، لا هم يقبلون وجود الكورد بوصفهم مجموعة بشرية مغايرة لها حقوق المجموعة، ولا هم قادرون على معاملتهم على أقل تقدير بوصفهم أفراداً مواطنين متساوين مع غيرهم في الحقوق والواجبات دون تمييز وعلى كل الصعد. علماً أن هذه المواطنة المفترضة هي الكارت الوحيد الذي ترفعه كل تلك الأنظمة في وجه الكوردي عندما يسألها في أيٍّ من جغرافياته عن حقوقه وطبيعتها وحدودها، إذ يأتيه الجواب: أنت مواطن، وكفى بك ذاك.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…

نظام مير محمدي* عادةً ما تواجه الأنظمة الديكتاتورية في مراحلها الأخيرة سلسلةً من الأزمات المعقدة والمتنوعة. هذه الأزمات، الناجمة عن عقود من القمع والفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها. وكل قرارٍ يتخذ لحل مشكلة ما يؤدي إلى نشوء أزمات جديدة أو يزيد من حدة الأزمات القائمة. وهكذا يغرق النظام في دائرة…