فرمان بونجق
مما لاشك فيه أن الأحداث الجِسام تلقي بظلالها هنا وهناك ، سيّما إذا كان الحدث بحجم كارثة عفرين ، وهي كارثة بكافة المقاييس ، ولا أجد توصيفاً أدق من هذا التوصيف لتسمية الأوضاع في عفرين ، وأعتقد أن الكثيرين يوافقونني في ذلك . وخاصة أبناء منطقة عفرين نفسها ، أولئك الذين يعيشون الحدث ، والذين لايزالون متمسكين بقراهم وبلداتهم ومدنهم ، وهم على أية حال لايزالون يدفعون ضريبة ما يحدث ، وما سيحدث لاحقاً ، ناهيك عن أهل عفرين المقيمين خارجها اضطراريا ، ولكن قلوبهم لازالت متعلقة بما يجري هناك ، وأعينهم ترقب الأحداث على مدار الساعة ، بكثير من القلق والألم .
لن أخوض في الشأن السياسي عميقاً ، باستثناء ما تستوجبه الضرورة في سياق صياغة هذه المقالة ، ولكنني سأبحث وبمنطقِ تقييم المقولات الفكرية ، والتي أسس حزب العمال الكوردستاني سلطته ـ ومن خلالها ـ في الإقليم الكوردستاني ، أو كوردستان سوريا إن شئت ، هذه المقولات التي بات معظمها معلوما لدى الناس ، والتي وكما يروّج لها بأنها فلسفة القائد آپـو ، أي فلسفة عبد الله أوجلان ، وأعني هنا مفهوم الأمة الديمقراطية ، وسواها من المفاهيم الأخرى التي تمت ترجمتها سياسيا على الأرض خلال السنوات السبع الأخيرة ، وأدّت إلى جملة من الكوارث وأؤكد هنا على ـ جملة من الكوارث ـ التي ألمّت بأهلنا وبلدنا ، ومنها وآخرها كارثة عفرين . ناهيك عن بعض المفاهيم الأخرى والتي لم تطفُ على السطح بشكل نافر، كونها تتعلق أساسا بعملية التغيير المجتمعي ، والتي ستؤدي تاليا إلى تغييرات أخرى مصاحبة للتغيير الذي سبق ، والذي مفاده استراتيجية ” قلب الهرم رأسا على عقب “، ويُقصد هنا بالهرم ، التركيبة الهرمية الاجتماعية للمجتمع الكوردي ، وسواه من المجتمعات في مراحل لاحقة . هذه المقولة الاستراتيجية التي نظّرَ لها عبدالله أوجلان ، وتم إسقاطها بقسوة وبعنف على المجتمع الكوردي في سوريا ، والتي تم تفسيرها على أنها عملية استدعاء شرائح من قاع المجتمع ، وتصعيدها ثم دفعها باتجاه مراكز القيادة ، أيّا كانت مستويات هذه القيادة وأشكالها ، وفي ذات الوقت ، يتم العمل على إزاحة النخب الثقافية والاقتصادية والسياسية عن الواجهة ، مالم تكن هذه النخب منسجمة مع المشروع ، بل ما لم تكن جزءا من ماكينتها . وتأسيسا على هذا المفهوم ” الثوري ” ، ستنطلق ثورة روﭺ آفا في الإقليم الكوردي في سوريا ، وتاليا في أقاليم أخرى ، وهنا يكمن المَبحث عبر هذه المقالة . وارتكازا على التحليل الدقيق لمجتمع عفرين ثقافيا وسياسيا ، كحالة نموذجية للمجتمع الكوردستاني في سوريا ، وخاصة وأن عفرين لاتزال تعيش الكارثة ، ولاتزال تدفع أثمانا باهظة ، من دماء أبنائها .
يعلم الجميع ، أن القاعدة التعليمية في منطقة عفرين هي قاعدة واسعة ، وقد جرت فيها تحولات عميقة منذ ما يقارب أربعة عقود أو أكثر ، وهذه القاعدة ، وهذه التحولات أفرزت كما هائلا من النخب الثقافية والعلمية والسياسية وفي وقت مبكر نسبيا ، أو قياسا لمناطق كوردية أخرى ، وسرّع هذه الحالة قرب عفرين من المراكز الحضارية وتأثرها بالنهضة الاقتصادية في هذه المراكز ، أولا ، وتاليا ، تغيير نمط الحياة الاقتصادية التي دفعته وبقوة إلى التكيّف مع ظاهرة مكننة المجتمع الزراعي أيضا ، وبناء المنشآت التكميلية لهذا القطاع ، كمعاصر الزيتون ، وصناعة الزيوت ومشتقاتها ، كالصابون وغيرها ، ناهيك عن المشاريع المحلية الصغيرة ، والاستثمارات في قطاعات صناعية أخرى ، كل هذا دفع المجتمع العفريني لتحقيق قفزة إلى الأمام ، وحقق تقدما لا يُستهان به ، مما سهّل ومهّد لظهور شرائح مجتمعية متنورة ، ذات مستويات تعليمية مرموقة ، كالمهندسين والأطباء والمحامين والمدرسين والكتاب والشعراء وسواهم . وهؤلاء ما قصدتهم في سلسلة مقالاتي الموسومة ( بالعقل الجمعي الكوردي ) ، منذ أعوام خلت .
إذاً .. كان على حزب العمال الكوردستاني أن يعيَ هذه الحقائق ، ويدرك طبيعة المجتمع ، ويقدّر كنوزه ، ويتعاطى معها بعقلية منفتحة ، لا أن يعمل على إزاحتها ، واستبدالها بشرائح ، المهربين ، وتجار المخدرات ، والسرسرية ، وفصائل المخبرين والعملاء ، وسواهم ، بقصد الاستئثار بالسلطة المبنية على العقلية الشمولية التوتاليتارية المستمدة جذورها من فلسفات الستالينية والناصرية والعفلقية ، على أنها فلسفة القائد آپو ، وهي أم الفلسفات ، وإنها ستغيّر العالم عما قريب . وهي لم تستطع أن تغيّر قرية صغيرة في عفرين ، خلال سنوات سبع عِجاف ، استخدم فيها حزب العمال الكوردستاني كافة أشكال القمع والبطش والإرهاب والمجازر أيضا ، وعلى مدار الساعة . والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة : لماذا ؟. وهناك سؤال آخر ينافس السؤال الأول ألا وهو: كيف استطاعت جماهير عفرين نسف مقولة ذلك الهرم وقاعدته المزعومة ؟.
في سرديات كارثة عفرين اليومية أو الساعيّة أو اللحظية أحيانا ، وكما تابعناها ، استخدم حزب العمال الكوردستاني استراتيجية الخطابات المتحولة ، أو الزئبقية ، كما في بداية الكارثة ، كما في مجرياتها ، كما في نتائجها ، فأعادت إلى الأذهان ظاهرة وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحّاف ، إبان الغزو الأمريكي للعراق ، طبعا مع الحد الأدنى من الاحترافية ، بخلاف الصحّاف الذي كان يقود مؤسسة إعلامية كبرى على مستوى وزارة ذات خبرات تراكمية ، بينما اعتمد حزب العمال الكوردستاني ، ذات الخطاب المتكلس القديم المتجدد عبر قنواته ومواقعه وإعلاميّه ، والتي لم تكن قط دقيقة في توصيف مجريات المعارك ، ولم تكن أمينة أبدا في نقل ما يجري سياسيا خلف الكواليس ، وهذا ليس بمستغرب ، وأعتقد بأن الهدف هذه المرة كان محاولة السيطرة على الجماهير ، ودفعها إلى حيث المأزق الكبير ، ألا وهو تكديس أكثر من مليون مواطن في حيّز جغرافي ضيق ، لاستخدامه كورقة ضغط إنسانية على المجتمع الدولي بقصد وقف عدوان الدولة التركية والفصائل المتحالفة معها ، وهذا لم يحدث على الإطلاق ، ولم يكن من الممكن أن يحدث ، استنادا إلى الموقف الدولي من القضية السورية ، وأيضا التفاهمات أو الاتفاقات التي تم إبرامها بين تركيا وروسيا وإيران ، حول العمليات العسكرية سواء في عفرين أو في إدلب أو سواها من المناطق ، ولكن ما حدث أن هذه الحالة بدأت تثير قلق جهات دولية ومحلية ، مفادها أن حزب العمال الكوردستاني ينوي استخدام هذه الكتلة البشرية الضخمة كدروع بشرية ضمن مدينة عفرين الصغيرة نسبيا ، مما كان له مردوده العكسي على استراتيجية الحزب في الدفاع عن المنطقة .
الذي حدث ، أن جماهير عفرين لم تثق بهؤلاء المستقدمين من قاع الهرم ، والتي كانت لهم تجربة عمرها سبع سنوات مريرة ، بل استندت هذه الجماهير إلى حسها وبوصلتها في تقدير الموقف ، واستمعت إلى صوت العقل وصوت المنطق ، وكذلك إلى أصوات النخبتين الثقافية والسياسية ممن هم خارج ” الكانتون ” ، وتم تنظيم قوافل العودة العكسية من مدينة عفرين المركز ، باتجاه النواحي والبلدات والقرى التي نزحوا منها ، وذلك لتجنب محارق محتملة ، تم التخطيط لها بدقة ، حيث تجري أحاديث في أوساط حزب العمال الكوردستاني ، مفادها : بأننا وأبناء عفرين سنقاوم حتى آخر نقطة دم . في الوقت الذي تتناقل أوساط ووكالات إعلامية ، وأيضا مواقع التواصل الاجتماعي ، أن قوات الحماية الشعبية لا تسمح للمدنيين بمغادرة عفرين ، وفي حالات السماح ، فإن ذلك يتم مقابل مبالغ مالية ، مما يعني أن جملة من هذه الممارسات وسواها ، قد دفعت بجماهير عفرين إلى عدم الارتهان لقرارات وتوجيهات الحزب ومقاتليه وكوادره ، وإنما بدأت بالبحث عن حلول عملية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، عبر مبادرة تهدف إلى عدم ترك ممتلكاتها للغرباء ، هذا وقد استشعر أهل عفرين بأن لعاب هؤلاء الغرباء بدأ يسيل طمعا في تلك الممتلكات .
وبتقديري ، وتأسيسا على ما تقدم ، فقد بات من الضرورة بمكان ، أن تفكر قيادات العمال الكوردستاني بشكل جدّي وعاجل بمراجعة كافة سياساتها ، نظرا إلى أن العدوان التركي ستتسع رقعته إلى أبعد من عفرين ، وتجربة استجلاب القيادات من قاع الهرم لا تعدو كونها سوى أضحوكة أو مزحة سمجة ، ومطلوب إعادة الاعتبار للقوى السياسية الأخرى وإن كانت مواقفها تتسم بالاختلاف ، بل ينبغي منحها دورا فاعلا في هذه الظروف الكارثية ، وعلى عجل إن أمكن ، بدلا من محاولة صناعة ظاهرة التصحر السياسي في كوردستان سوريا ، بغية الاستئثار بالغث والسمين .