الطائرة الروسية .. وعفرين

د. ولات ح محمد
    ما كان لأنقرة أن تحقق حلمها بشن حرب على عفرين وعلى وحدات حماية الشعب والتهديد باجتياح كل المناطق الكوردية إلا بعد موافقة روسية لم تضع في اعتبارها أنها ستلحق ضرراً كبيراً بطرف كان يعد حليفاً حتى لحظة اتخاذ ذلك القرار. وهكذا بسهولة ضحت روسيا بسنوات من التعاون والتنسيق مع وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية في سوق البازارات التي صارت تخوض فيها عمليات البيع والشراء مع تركيا منذ “نجاح” مقايضة حلب بجرابلس التي أدت فيما بعد إلى كل التفاهمات التي حصلت بين الطرفين في كل من آستانا وسوتشي بعيداً عن مصلحة سوريا والسوريين ما دام أطراف البازار راضين عن مكتسباتهم.
    ولكن في المقابل أيضاً ما كان لذلك الهجوم أن يتم إلا بسكوت أمريكي سوغته البنتاغون بأن عفرين ليست ضمن مناطق عملها، مع علم واشنطن أن إضعاف حليفها في أية بقعة سورية هو إضعاف لوجودها ولأوراقها على الطاولة فيما بعد، وأن سقوط عفرين بيد تركيا ستقوي أوراقها على الأرض وستشجعها على التمدد نحو منبج وغيرها حيث الوجود الأمريكي ذاته. 
    الفرق بين موافقة موسكو وصمت واشنطن أن موقف الأولى جاء ضمن مساع تبذلها مع شريكتيها أنقرة وطهران لإضعاف النفوذ الأمريكي في سوريا أو لتقليصه على أقل تقدير من خلال إضعاف حليفتها قوات سوريا الديمقراطية التي باتت الدول الثلاث تشعر بأن إنهاءها مصلحة مشتركة لها بعد أن صارت الحليف الرئيس لواشنطن في سوريا. الرغبة في إضعاف الدور الأمريكي عبّر عنها أردوغان بقوله إن الوجود الأمريكي في سوريا بات يهدد مصالح الدول الثلاث. وهذا ما دفع تلك الدول إلى التداعي لاجتماع عاجل سيعقد في أنقرة قريباً. أما الأمريكي فقد كان مضطراً على سكوته ذاك وتسويغه الأمر بتلك الطريقة ومسايرته لغضب أنقرة لأنه غير قادر على مقاومة رغبة “حليفه” التركي حتى النهاية، ولكنه يعلم في الوقت ذاته أن ذلك السكوت لن يكون بلا حدود زمنياً وجغرافياً في مرحلة معينة من العملية التركية. 
    وهكذا، إذا كانت مثل هذه البازارات بين موسكو وأنقرة ومعهما طهران من خلف الستار قد حققت مصالح جيو- سياسية ثنائية متبادلة للطرفين أو ثلاثية (مع وجود إدلب في المقايضة طبعاً) فإن تلك المصالح ما كان لها أن تتحقق على حساب دولة عظمى تعتبر نفسها لاعباً أساسياً في مباراة كهذه، وبالتالي لن ترضى بأن تكون بعيدة عن تلك المقايضات، أو على الأقل لن تقبل بأن تكون تلك البازارات على حساب مصالحها السياسية والجغرافية على الأرض السورية. 
    يبدو أن نشوة النجاح قد أنست كلاً من أنقرة وموسكو أنهما ليستا الوحيدتين في الملعب السوري. ويبدو كذلك أن السكوت الأمريكي على خطوة تركيا الأخيرة المتمثلة في قرارها شن الحرب على عفرين لم يكن حقيقياً وإن لم تعبر واشنطن صراحة عن امتعاضها، خصوصاً أن ذلك القرار يستهدف القضاء على حليفها الوحيد تقريباً على الأرض السورية، وفي النتيجة إضعاف الوجود الأمريكي في المنطقة الذي بات عامل قلق يجمع بين كل من تركيا وروسيا وإيران وحلفائها الصغار والكبار على حد سواء كما سبق القول.
    في الأسبوع الماضي قامت إحدى الفصائل المسلحة بإسقاط طائرة روسية من طراز سوخوي 25 في محافظة إدلب بوساطة قاذفة صواريخ أرض جو محمولة على الكتف. قبل أن توجه لها موسكو أصابع الاتهام سارعت واشنطن إلى نفي إمكانية تزويدها الفصائل المسلحة بتلك الصواريخ لأنها تعلم أن موسكو ستبادر إلى اتهامها تصريحاً أو تلميحاً بذلك. وهنا ينبغي التذكير بأن منطقة إسقاط الطائرة هي من مناطق خفض التصعيد تابعة للمراقبة التركية وأن الروس استلموا جثة طيارهم من السلطات التركية ذاتها، ما يؤكد تبعية الفصائل المسلحة هناك (التي أسقطت الطائرة) للأوامر التركية. وتبعاً لكل ذلك ينبغي طرح السؤال الآتي: من سمح لأولئك المسلحين أو أوحى لهم بإسقاط الطائرة الروسية؟.
    نتيجة الصفقات والاتفاقات والمنافع المتبادلة بين روسيا وأنقرة منذ سنتين ونتيجة مصلحتهما المشتركة بإضعاف الدور الأمريكي من المستبعد أن تكون أنقرة هي التي أوحت للفصائل التابعة لها في إدلب بإسقاط الطائرة الروسية، خصوصاً أنها ليست المرة الأولى التي يقصف فيها الطيران الروسي تلك المناطق وغيرها ويتسبب في قتل مدنيين. وكذلك من المستبعد أن تكون تلك الفصائل قد اتخذت هكذا قرار من تلقاء ذاتها متجاهلة مصالح سيدها التركي واتفاقاته مع الروسي. ومن المفيد هنا التذكير بأن بعض قادة تلك الفصائل وعدوا بمحاكمة العناصر التي أسقطت الطائرة.
    هل كان للأمريكي أن يسكت طويلاً عن محاولة العواصم الثلاث إضعاف نفوذه وأوراقه على الأرض السورية من خلال ضرب حليفها قوات سوريا الديمقراطية بأياد تركية في عفرين؟. الجواب لا طبعاً. إذن، هل يمكن القول إن إسقاط الطائرة الروسية في إدلب بصاروخ أرض جو عن طريق فصيل مسلح فيه رسالة أمريكية للثالوث الروسي التركي الإيراني مفادها أن الموافقة على ضرب حلفاء واشنطن لن تكون بلا ثمن، وأن من يفكر في ضرب مصالحها فإن مصالحه لن تكون في مأمن، وأن سوريا باتت ملعباً للجميع وأن من يريد الاستئثار بها فهو واهم وسيدفع الثمن؟. 
    من جهة ثانية هل كان في القصف الأمريكي لقوات قالت إنها موالية للنظام أرادت الهجوم على قوات سوريا الديمقراطية شرق دير الزور رسالة مكملة للرسالة الأولى؟. هل أرادت واشنطن أن تقول من خلالها للاعبين على الساحة السورية إن السكوت عن الهجوم على عفرين ليس حقيقياً وليس أنموذجاً لما قد يحصل في أماكن أخرى، وأن (منبج) لن تكون التالية كما تصور أردوغان وصرح وحلم غير مرة، وأن شرق الفرات لن يكون كغربه في كل الأحوال؟!. 
    أما كيف أتاحت واشنطن لذلك الفصيل الحصول على تلك الصواريخ وفي هذا التوقيت، أو كيف أوحت له بإمكانية إطلاقها؟، فذلك أسهل مما يمكن تصوره في ظل الفوضى التي تعم المنطقة. في كل الأحوال إسقاط الطائرة الروسية بهذه الطريقة وبهذه السهولة يشير إلى أن التبازر على عفرين لن يمر مرور النسيم. وربما كان إسقاط الطائرة التركية في إقليم هاتاي اليوم مؤشراً آخر يعزز هذه الرؤية. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…