الحركة السياسية في كوردستان سوريا وأزمتها البنيوية

قهرمان مرعان آغا
لم تكن مطالبة وجهاء وأعيان الجزيرة بدولة خاصة بهم في الجزء الكوردستاني الملحق بدول سوريا تحت الانتداب الفرنسي , منذ ثلاثينيات القرن الماضي , تنم بغير وعي وإدراك للمتغيرات التي عصفت بالمنطقة إثر انهيار السلطنة العثمانية ونشوء الاستعمار الغربي وتشكُّل الدول القومية في الشرق الأوسط , حيث امتزجت إرادات النخب بعد ثورة الشيخ سعيد بيران مع الوجهاء المحليين في تشكيل تنظيم سياسي عام ( خويبون ) يهدف إلى تحرير وتوحيد كوردستان , وما نتج بعد ظروف الحرب العالمية الثانية الكارثية من صعود قطبين متصارعين تمثلت في انقسام أوروبا بين معسكريهما وما تلا ذلك من انحسار الاستعمار واستقلال الدول وفق الخرائط الجيوسياسية التي قسمتها المستعمر سابقاً دون رغبة الشعوب وسكان تلك الأقاليم 
وإثر تخلي السوفييت وبالتآمر مع الإنكليز والأمريكان عن جمهورية كوردستان الفتية في مهاباد , برز شعور الغبن بين أبناء الشعب الكوردي من جديد , وكان لتشكيل نواة أول تنظيم سياسي عام 1957 في كوردستان سوريا أثره البالغ في دفع الشعور القومي نحو الخلاص , إلا إن ظروف الوحدة بين سوريا ومصر وحل الأحزاب ومنع النشاط السياسي والتوجه القومي خارج إطار القومية العربية كبح الفعل السياسي العام في البلد , وبالمقابل كان لثورة الزعيم عبد الكريم قاسم و سقوط الملكية في العراق خلال عام 1958 أحياءاً للشعور القومي الحر في توجهات الشعب الكوردي والعربي في العراق لبناء دولة متعددة القوميات وفق دستور جديد يضمن حقوق الجميع , وبعد جنوح قاسم نحو حكم الفرد و الدكتاتورية وإثر انطلاقة ثورة أيلول والكفاح المسلح 1961  بزعامة قائدها السروك ملا مصطفى البارزاني ,وبعد فشل الوحدة المصرية السورية وعودة الانقلابات إلى سوريا وعدم الاستقرار السياسي , برزت الصراعات المختلفة والولاءات تظهر بين قيادة الحزب الديمقراطي الكوردي ( الكوردستاني) في سوريا , لأسباب وتأثيرات مباشرة أو غير مباشرة وفقاً لإدعاءات كل طرف , منها أيديولوجية ملتزمة , حيث سطوة الأيديولوجيا الوافدة والصراع الطبقي المزعوم والتغني بالأفكار الاشتراكية والمساواة والعدالة الاجتماعية الكاذبة , مع تصدر حزب البعث العربي الاشتراكي المشهد السياسي  وتبنيه الشعاراتي لتلك الأفكار , إثر انقلابه المشؤوم في 8 آذار 1963 ومع تصاعد الخلاف بين المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني – العراق  متمثلاً بسكرتيره إبراهيم أحمد وقائد الثورة , بسبب العلاقة المصيرية مع شاه إيران بعدما لجأ الأول إلى إيران ورتب لتلك العلاقة , في حين كان قائد الثورة محكوماً عليه بالإعدام من قبل الشاه باعتباره كان قائد الجيش في جمهورية مهاباد , انقسم الحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا على نفسه بين تيارين أفضيا بالنتيجة إلى اليسار واليمين وبرزت مفاهيم الاتهامات بالرجعية والتقدمية بين الطرفين والخط القومي والمساوم وفق ولاءآتهم للأطراف في كوردستان العراق , حيث تكلل جهود السروك ملا مصطفى البارزاني في مؤتمر التوحيد بين الشخصيات المتصارعة في (ناوبردان) بكوردستان العراق في صيف 1970 توحيد التيارين  بتنظيم واحد سمي ب (الحياد) إلا إنه لم يلتزم الطرفان المتصارعان مما نتج بالمحصلة حزب ثالث .
وبعد انتكاسة ثورة أيلول ذات المآثر البطولية الخالدة , إثر اتفاقية الجزائر الخيانية 6 آذار1975 , ومع تصاعد حدة الصراع بين البعث العفلقي الصدامي العنصري  والبعث الأسدي الطائفي في كل من سوريا والعراق وبروز مصطلح اليسار واليمين بين طرفي حزب البعث المشؤوم على شعوب المنطقة  , تم تشكيل الإتحاد الوطني الكوردستاني في دمشق 1975 لمواجهة نظام صدام ومنافسة التيار القومي الأصيل في الحركة التحررية الكوردية متمثلاً بالحزب الديمقراطي الكوردستاني ( القيادة المؤقتة) هنا بدأ يتمظهر أطراف الصراع في كوردستان سوريا بمظهر الحليف الكوردستاني المُتنَفذ في الساحة وينطلق توجهه من توجهاته وعلاقاته الإقليمية , سواء ما يتعلق بالموقف من قضية الشعب الكوردي وتهميشها  في سوريا  أو الموقف من النظام و استبداده فيما يتعلق بالحريات العامة , وبقيت ماكينة التشرذم والانشقاق تفعل فعلها حتى وصل بنا الحال إلى تسمية الحزب الحامل للاسم الواحد مرادفا مع شخصها الأول .
 بالرغم من الشرخ السياسي إلا إنه لم تخلو فترة الثمانينات من تحالفات شكلية للأحزاب المتناقضة في الأصل من حيث التوجه دون فعل نضالي يذكر على الأرض , وظلت التبعية محصورة في محورالحزبين الكبيرين في كوردستان العراق مع وجود الخطاب السياسي لفصيل بقي ملتزماً في خطه القومي الديمقراطي , يدعوا لحق تقرير المصير وفق الخصوصية الثقافية للشعب الكوردي في سوريا مع بقاء بعض أحزاب (اسمية) هامشية تدور حول شخوصها الشبهات بسبب ارتباطها بالنظام من خلال الإبقاء عليها كرقم يعتمد عليها لتسويف القضية وعند اللزوم  لضرب المعادلة السياسية  .  إلا إنه لم يحدث أي صراع عنفي ولم يتعدى التأييد اللفظي داخل الحركة السياسية الكوردية في سوريا البيانات والجرائد  و بالرغم من حدة الصراع والاقتتال الداخلي بين الحزبيين الكوردستانيين , فلم يحاولا جر أو تجنيد القواعد الشعبية لأنصارهم من الأحزاب إلى مناصرتهم سواء في صراعهم مع غاصبي كوردستان أو في الصراع البيني .
منذ صيف عام 1984 وإعلان حزب العمال الكوردستاني (ب.ك.ك) الكفاح المسلح من أجل استقلال كوردستان الشمالية (باكور)انطلاقاً من سوريا الأسد وتجنيد أبناء وبنات كوردستان سوريا من خلال نشر الأفكار الثورية , بخلطة تلقينية من  (فلسفة) زعيم الحزب عبد الله أوجلان في مواجهة أصحاب مشروع الحكم الذاتي  و الأفكار الإصلاحية التقليدية لحل القضايا القومية في كوردستان والشرق الأوسط حسب إدعاءاتهم الـ ما فوق الثورية , كانت بداية التصدع في جدار المناعة التي أكتسبها الحركة السياسية الكوردية , من خلال نضالها السلمي الديمقراطي بعيداً عن العنف الثوري والسطوة العقائدية التي فرضها الحزب المذكور وبتسهيل مباشر من أجهزة النظام الأمنية الهدف منه إحداث شرخ مجتمعي بين أبناء الشعب الكوردي تنفيذاً لسياسات التآمر لنظام حافظ أسد على القضية القومية العادلة للشعب الكوردي في عموم أجزاء كوردستان , تبين ذلك بشكل واضح وجلي عندما دفع بهذا الحزب إلى ضرب تجربة الفيدرالية لإقليم كوردستان العراق بعد انتفاضة 1991 والدخول في الاقتتال الداخلي لمصلحة أحد أطراف الصراع مع بروز المحاور الإقليمية لغاصبي كوردستان .
مع توسيع الفعل النضالي وكسر جدار الخوف , ضد النظام في سنوات التسعينات وموت الدكتاتور الأب وتوريث الإبن وخاصة بعد انتفاضة 12 آذار 2004 تبين مجدداً تبعية الحركة السياسية الكوردية لمحاورها الكوردستانية التقليدية , حيث بقيت الحركة بأغلبية أحزابها أسيرة الحل الأمني لقضاياها دون الانتقال لفرض الحل السياسي بالرغم من تضحيات جماهير الشعب وبروز آفاق حل القضية القومية الكوردستانية في عموم المنطقة والعالم بعد سقوط بغداد 2003 .
كانت الثورة السورية بالنسبة للشعب الكوردي بمثابة الأمل الذي يتحقق من خلاله تطلعاته  ليس فقط في الحرية والكرامة , بل في حل قضيته القومية المشروعة في إطار وحدة البلاد , على اعتباره شعب أصيل يعيش على أرضه التاريخية , يسعى إلى الشراكة مع الشعب العربي في بناء سوريا حرة وديمقراطية يضمن عقدها الاجتماعي حقوق الجميع دون تعسف أو إجحاف , إلا إن تعاقد النظام مع حزب العمال الكوردستاني مجددا ومنذ منتصف 2012 وما تلاه من اتفاقات لم تنجز بين الطرفين الكورديين أحدهما يملك السلاح والقوة ويهيمن على المقدرات الاقتصادية بالتعاون مع النظام وبالمقدرات القتالية  بالتعاون مع التحالف الدولي , قد أخلّ بكل التوازنات مع المجلس الوطني الكوردي على الأرض , بعد إفراغ كوردستان من أهلها .
يتبين لنا من خلال هذا السرد التاريخي الملخَّص افتقاد الحركة السياسية الكوردية في سوريا لاستقلالية القرار , بسبب تبعية أغلب أحزابها للحركة الكوردستانية , وإن نشوء ب.ي.د كفرع للعمال الكوردستاني , كان يهدف بالأساس إلى الحفاظ على علاقته البنيوية مع النظام  لهذا سمّيَ وتأسس بالضد من المفاهيم القومية الكوردية وما حدث من شراكة مع النظام من استلام وتسليم وقمع الفعل الثوري السلمي الجماهيري واغتيال الُنُشطاء والتجنيد الإجباري والتسبب في التهجير القسري وصولاً إلى منع الحياة السياسية , دليل كافي على شطب إرادة شعب كوردستان سوريا للتعبير عن خياراته النضالية الحرة وفقاً لمصالح هذا الجزء الكوردستاني الذي أصبح بديلاً مربحاً عن ساحة نضاله الأساسية في شمال كوردستان , وواقع الحال  بدلالاته القاطعة يفيد بأنه لا حل في الأفق للسلم الأهلي الكوردي الداخلي  , بل نحن أقرب بما فيه الكفاية إلى الكارثة , على اعتبار الحزب الأم وأفرعه جاذب للإرهاب والاعتداء والتآمر من غاصبي كوردستان وتجارب الفشل تتكرر في معظم محطات صراعه العبثي واستفراده بمصير شعب كوردستان سوريا , دليل إضافي على افتقداده للوعي السياسي .
 والسؤال هنا : هل الحركة السياسية الكوردية منذ نشأتها لم تزل تعيش أزماتها البنيوية وارتدادات انكساراتها الكوردستانية , أم الشعب الكوردي في هذا الجزء الكوردستاني الصغير بمساحته والكبير بتضحياته لم يتعلم بعد كيف يمسك ببوصلة إتجاهاته الأربعة وبوعيه الذاتي , فيما البعد الخامس في الكون لا يلتفت إلى خيبات الضعفاء ولا يدون سوى مآثر الأقوياء .   (صفحة 4 من4)
في 15/1/2018 ….. نشر في جريدة يكــــيتي العدد (247) 31 يناير 2018

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…

نظام مير محمدي* في 26 نوفمبر/تشرين الثاني، نشرت صحيفة جمهوري إسلامي الحكومية مقالاً بعنوان “الخوف من ثورة الجماهير الجائعة”، محذرة قادة النظام: “كل يوم، تتعمق الأزمة الاقتصادية؛ يزداد الفقراء فقراً، والأغنياء ثراءً، ويصبح المستنقع غير المسبوق من النخبوية الذي يجتاح مجتمعنا أكثر انتشارًا”. وسلط المقال الضوء على أن الطبقة النخبوية الجديدة “تعيش في قصور أكثر إسرافًا من قصور الشاه…

إبراهيم اليوسف   لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، في وقتنا المعاصر، منصات عالمية تتيح لجميعنا التعبير عن آرائنا، مهما كانت هذه الآراء إيجابية أو سلبية. لكن هناك ظاهرة جديدة تتجسد في ما يمكن أن نسميه “إطلاق النار الاستباقي”، وهو الهجوم أو النقد في صورته المشوهة الذي يستهدف أي فكرة أو عمل قبل أن يرى النور. لا تقتصر هذه الظاهرة على…