ماجد ع محمد
يُنسب إلى نبي الإسلام أحد الإرشادات القيّمة بخصوص الهدايا ومدى فعاليتها وتأثيرها الإيجابي على المواطنين بقوله:”تَهَادُوا تَحَابُّوا” وهو ما يدل على أهمية ومشروعية الهدية في الإسلام، والحضّ على تعميم ثقافة االتهادي، كما حثّ النبي على قبول الهدية، وهو ما يدل على مدى ارتباط الهدية بالمحبة، باعتبارها من أدوات التقارب وإشاعة المودة بين البشر، وحسب العرف الاسلامي الهدية هي مفتاح من مفاتيح القلوب، والهدية وفق الثقافة الإسلامية تذهب بالغِلّ وتزيل آثار الضغائن من صدور الناس.
ولكن بالرغم من أهمية ما أشار إليه النبي، وبالرغم من الجوانب الإيجابية للهدية كما ذُكر أعلاه، ولئلا تكون الهدية فخاً أو وسيلة من وسائل الإيقاع بمن قُدّمت له أو لهم الأُعطية، يطيب لنا أن نذكّر القراء بمثالٍ ساطع عن خطورة الهدية تاريخياً لدى باقي الأقوام، عدا عن المخاطر التي قد تنجم عنها في مجتمعاتنا، وذلك ليس طعناً بفلسفة التهادي إطلاقاً، إنما تحسباً من أن تغدو المكرمة أداةً قوية من أدوات الاستغلال المستخدمة بين الناس، باعتبار أن الهدية كثيراً ما تكون شركاً للمهدى إليهم، أو تصبح آلية ما من ميكانيزمات الابتزاز لدى مقدّم الهدية، ومعلوم أن الهدية ياما كانت وسيلة من وسائل الإيقاع بالآخر، وهي الآلية التي عادةً ما يتم العمل بها بشكل اندساسي مدروس، وواقعياً كان يلجأ إلى هذا الأسلوب الشنيع أغلب أفرع الأمن في نظام البعث السوري، إذ ياما كانت الهدية عبارة عن صنارة تعلّق بحنجرة الموظف أو الضابط أو المرأة العاملة، وبالتالي تكون من أقسى كلاليب الضغط والابتزاز .
ولعل أغلب قراء الأساطير وبالأخص حروب الإغريق يعرفون قصة حصان طروادة، والطرواديين الذين انخدعوا بالحصان الخشبي الذي قُدّم لهم كهدية حسب ما أبلغ الطرواديون به الجاسوس سينون، عن أن الحصان الخشبي الضخم الذي كان يُخفي المقاتلين في جوفه هو عبارة عن هدية، ولكنها بقيت من أفظع الهدايا عبر التاريخ، حيث تحض القصة تلك المتلقي إلى التنبه لخطورة التسرع في قبول الهدية من العدو الحقيقي أو المفترض، ولأن الهدية كانت بمثابة الرشوة التي تسببت بدمار طروادة كلها، وأدت بالتالي إلى قتل كل رجالها ونسائها وأطفالها، فمن هول المصيبة التي حلّت بالطرواديين وفق المسرودات التاريخية.
وعلى وقع قصة طروادة وتأثيرها على أي قارئ قادر على أن يميز نوعاً ما بين الحقيقة الملموسة والخيال الاسطوري، وبناءً على ما رُكن في الذاكرة الشخصية لي، فلم أستهجن كباقي معارفي الموقف الصارم من الهدايا لأحد قضاة مدينة حلب، والذي أتى المدينة من قرية صغيرة بمنطقة عفرين تدعى كوردان، حيث كان القاضي عارف ريحاني معروفاً بين جميع المحامين والقضاة الذين عاصروه في المدينة، ومعروفاً كان من جهة صرامته مع موضوع الرشاوي، وموقفه الرافض حيال أية هدية تُقدم إليه من الغرباء، حتى أن مواقفه الحازمة تلك كانت محط استهجان لدى الكثير ممن سمع عنه أو عرفه عن قرب، ومن أحد تصرفاته مع المهدي والهدية، يذكر المسنون في القرية بأن أحدهم أخذ يوماً سطلاً من اللبن إلى بيت القاضي ريحاني وأعطى السطل كهدية لزوجته، وعندما سأل الزوج أي القاضي ريحاني عمن أتى باللبن، قالت زوجته جاء به رجلٌ لا يزال على الباب، وما كان عليه إلا أن يقول لزوجته فلينتظرني صاحب الهدية، ولم تمر ثوانٍ حتى عاد القاضي بسطل اللبن إلى من أتى به وأفرغه فوق رأس الرجل، ليُفهمه بأنه ليس ممن تُشترى ذممهم بالهدايا كما هي عادة الناس في البلاد التي يكون فيها الفساد عرفاً عاماً وثقافة إدارية واجتماعية!.
ومن دون شك أن طريقة تعامل القاضي ريحاني مع المواطن كانت غليظة وخالية من الأتيكيت وأصول اللباقة ربما، إلا أننا لا نعرف إن كان الهدف من تصرفه ذاك هل ليغدو عبرة لغيره من خلال ذلك السلوك القاسي؟ أم أن القاضي كان قد ضاق ذرعاً بصاحب الهدية الذي لم يكن ليكف بلاه عن القاضي، ويكرر الزيارات إليه في البيت، وفي المكتب، ليعطيه شيء حتى ينصاع القاضي لطلبه بعد قبول الهدية؟ وهو عادة ما يحصل في مجتمعاتنا، وذلك بناءً على المثل الشعبي ” طعمي التم بتستحي العين” وعلى قاعدة طعمي التم كنا أثناء خدمة العلم نلاحظ ذلك جلياً، وكيف أن غر من الأغرار كان يشتري ذمم ضباط كبار ببعض الهدايا، بل ومنهم من كان يستهزئ بالضابط الذي أهداه شيء ما، حيث كان المشتري ذمة الضابط يتحدث حتى عن خصوصيات منزله، لأن الهدية جعلت من الغُر أشبه بمشترٍ لنفوس من قبلوا منه الهدية.
وعلى كل حال فإن الأعطيات لا تختصر على الماديات، إذ أن المديح الكتابي والتقريظ القولي أيضاً يدخلان في خانة الرشوة لمن أهديت لهم الخدمة أو الكلمات لأجل غايةٍ معينة، وتسمى هذه الرشوة بالرشوة المقنعة التي تأتي عبر تقديم الهدايا للمسؤولين أو للموظفين العموميين لتسهيل التعاملات، ومن يتحرى أرشيف المحاكم ودوائر الشرطة فى بلادنا سيقرأ عن شكاوى وبلاغات كثيرة قدمتها سيدات يشتكين في البلاغات من تعرضهن للابتزاز أو للتحرش الجنسى من قبل المسؤولين أو الأشخاص الذين يلجأون إليهم لإنهاء مصالحهم التى تكون مفاتيح حلولها أغلب الأحيان في جيوب المسؤولين الفاسدين.
كما أن للهدايا وسائل وأساليب عدة منها: ممكن أن يقوم طبيب ما بطلب رشوة جنسية من مريضته لتسريع دورها في التسجيل أو مقابل علاجها مجاناً، أو يأتي محامٍ ويطلب رشوة جنسية من موكلته مقابل التخلي عن أتعابه، أو لتأخذ الموكلة منه مهلة كافية لدفع المستحقات عليها، أو موظف في البنك يطلب رشوة جنسية من عميلة لزيادة المبلغ المالي الذي ستقترضه أو لتسهيل عملية الإقراض، أو ملحن يبتز مطربة مبتدئة، رسام محترف يبتز هاوية لقاء تعليمها أصول الرسم أو جعلها تشارك في المعارض بواسطة الفنان الذي يطيب له أخذ دور القوّاد، أو مخرج أفلام يطلب من ممثلة ناشئة رشوة جنسية للحصول على دور معين في فيلمه .. إلخ، ومن أحد الأساليب التي يلجأ إليها أهل الكتابة من خلال تقديم الهدايا أو الرشاوي المعنوية يقول الكاتب السوري ماهر شرف الدين: “بأن هناك عادة بشعة وذليلة يمارسها جزء لا يستهان به من الكتّاب السوريين، ألا وهي الاستشهاد بأقوال مسؤولي النشر في الصحافة كرشوة لهم لنشر المقالات!! هذه العادة كانت مستفحلة لدى السوريين الذين ينشرون في الصحافة اللبنانية، ويبدو أنها باقية وتتمدّد لدى الكتّاب السوريين الذين ينشرون في الصحافة التابعة للمفكر الفلسطيني عزمي بشارة، قائلاً: فقد قرأتُ في الفترة الماضية 3 مقالات على الأقل لكتّاب سوريين في مواقع وصحف تابعة لعزمي بشارة يستشهدون فيها بأقواله، وبعض تلك الأقوال شبه بديهية ولكن مع إضافة عبارة “كما يذهب المفكر العربي الكبير عزمي بشارة!”.
وفيما يتعلق بالعلاقة الشائكة بين الهدية والرشوة يذكر د. محمد الخالدي في مادةٍ له في موقع اليوم والمنشورة بتاريخ 1/2/2016 “أن ما يساهم في انتشار الرشوة هو الخلط بينها وبين الهدية، إذ أن هناك خيط رفيع يفصل بين ما يعتبر رشوة وما يعتبر هدية أو إكرامية (بقشيش)”ويستشهد الخالدي بقول الباحث تورفاسون وزملاؤه رابطا بين هذه السلوكيات في دراستهم التي ضمت 32 بلدا، عن أن “البلدان ذات المعدلات الأعلى في منح الهدايا والإكراميات، هي أيضا ذاتها الأعلى في معدلات الرشوة، فإذا وجدت بلدان تُعطى فيه الإكرامية للحلاق ونادل المطعم وموظف الفندق والمغني والراقص فإنه مرتبط بانتشار الرشوة”.
والهدية مهما صغر حجمها أو خفضت قيمتها فهي قد تكون بمثابة الرشوة، هذا طبعاً إذا ما كان يقصد بها أو يُتوقع من ورائها مردود أو منفعة أو غاية، وليست خالصةً لوجه الله أو مقدمة من باب التعبير عن المحبة، وتاريخياً ممن كان صارماً في موضوع الهدية من الخلفاء يقال بأن الخليفة عمر بن الخطاب كتب إلى عماله قائلاً: “إياكم والهدايا، فإنها من الرشا”، ووفق المرويات صادر عمر ثروة كبيرة من عماله، ولم يقبل دفاعهم واحتجاجهم بأنهم كانوا قد استثمروا أموالهم فى التجارة قائلا لهم: “إنما جئت بكم ولاة لا تجارا”.
وفي الختام نقول إذا كانت الغاية النبيلة من الهدية إزالة آثار السخائم بين الناس، وإشاعة الود والألفة بينهم، ولكي يعبّر المهدي بصدق وأريحية عن نبل مقصده مع المهدى إليه، فمن المهم جداً أن تكون الهدية علنية، مكشوفة وغير سرية، لأن الهدية طالما كانت سرية فهي على الأغلب تخفي غاية مبطنة أو غرض ما غير معروف، وإلاّ لما جاء بها المهدي بطريقة التسلل إلى الشخص وباسلوبٍ خفي، ولكن في الوقت نفسه على مقدم الهدية أن لا يصل في التصريح بالهدية المقدمة إلى مجال المفاخرة بها، أو إلى مستوى الدعاية والتبجح بالأعطية أمام الناس، لئن حينها تكون العملية أشبه بحالة من يأكل في مطعمٍ ومن باب إذلال النادل أو التفاخر بما يملك يصيح بأعلى صوته أمام الملأ ليُسمع الجموع بما يُقدم عليه، أو يُفهم الحضور بأنه ثري عبر عطائه لذلك النادل بضع ليراتٍ كبقشيش، وإذا كانت الهدية فعلاً من أجل المساعدة الإنسانية الصرفة، فالمساعدات الإنسانية ينبغي لها أن تخلو تماماً من هواجس الربح أو الاستثمار المابعدي، كما عليها أن تخلو تماماً من كل أساليب الإحراج السابق أو اللاحق؛ وكذلك عليها أن تخلو من كل الأغراض أو النوايا المبطنة مثل: شراء الذمم أو الإذلال أو الابتزاز.