الكورد بعد استفتاء جنوب كوردستان

جان كورد
كان لاتفاقية آذار عام 1970 التي حصل بموجبها شعبنا في إقليم جنوب كوردستان على الحكم الذاتي، ولو نظرياً أكبر الأثر في إعادة صياغة الكفاح التحرري للأمة الكوردية بشكل عام، إذ لأوّل مرة، وبعد سنين طويلة من القتال والهزائم المريرة التي أعقبتها المجازر وحملات التهجير القسري، بزغ فجر أملٍ جديد  في سماء كوردستان، ونتذكّر جميعاً كيف أثارت هذه الاتفاقية جماهير شعبنا في غرب كوردستان وشرقها على الأخص، وعلى الرغم من ضعف تأثيرها في حراك شعبنا في شمال كوردستان، إلاّ أنّ الاتفاقية حرّكت شرائح مثقفة ومناضلة أيضاً في مختلف المدن الخاضعة للاستبداد العنصري الطوراني آنذاك. 
ثم جاءت نكسة 1975، لا لتحطّم آمال أمتنا في الحرية والاستقلال، وإنما لتؤجّل تحقيق انتصاراتٍ والقيام بإنجازات، ولتلقي بظلالها الكثيفة على معسكرات اللجوء في شرق وشمال كوردستان، ولكن الأمة الكوردية كانت قد استفاقت من نومها ويأسها وترددها، على الرغم من استمرار نظام البعث الفاشي تحت زعامة صدام حسين في سياسة التعريب والتهجير والتقتيل والتضليل الإعلامي ومحاولة القضاء على الروح الثورية في صدر الحركة التحررية الكوردية في جنوب كوردستان، وعندما تستفيق أمة من سباتها وتتحمّل آلام جراحها، فإنها تصبح أقوى مما كانت عليه أثناء النكسة،  وإذا بنا نرى بصبص أملٍ أكبر باندلاع الثورة من جديد في عام 1976 ضد نظام الطاغية العراقي، وتلقى صداها في أجزاء كوردستان الأخرى أيضاً. 
في عام 1991 بدأت انتفاضة شعبنا ثانيةً في جنوب كوردستانً، فلم يحرّك الأمريكان “أعداء صدام حسين” أيديهم ضد هجماته الوحشية على شعبنا الذي كان قد خرج قبل 3 سنواتٍ فقط من مأساة حلبجة التي تم قصفها بالسلاح الكيميائي وراح ضحيتها أكثر من 5000 مواطن وكان يتوقع هجماتٍ كيميائية شاملة من جديد، بل أفسح الأمريكان المجال للطاغية لأن ينقل مروحياته العسكرية من جنوب العراق تحت أنظار قوات التحالف الدولي آنذاك لقصف مواقع البيشمركة والمدن الكوردية، إلاّ أن الأحداث التي تلت مثل الهجرة المليونية لشعبنا في ظروف جويةٍ قاسية، مما عرّض آلاف الأطفال للموت من شدة البرد وجوعاً، قد فرضت على المجتمع الدولي التعامل مع الموضوع بجدبة، فجرت الأحداث على غير ما كان يأمله أعداء الكورد وكوردستان، بإقرار خط الحظر الجوي فوق جزء من الإقليم ودخل شعبنا في مرحلةٍ جديدة، يمكن تسميتها ب”مرحلة الثبات والانجاز”، واستمر ذلك إلى أن اتضحت القضية الكوردية أمام أنظار العالم، وتحوّل جنوب كوردستان إلى محط أنظار القوى  والشركات العالمية التي راحت تراقب عن كثب، كيف نزل الكورد من جبالهم إلى السهول لبناء بلادهم وتطوير إنجازاتها لتصبح كوردستان، رغم أنف الكائدين والحاقدين والخونة والمتربصين، إلى أحسن أجزاء العراق تطوراً عمرانياً وسلوكاً ديموقراطياً وقدرة على احتضان أكثر من مليونين من اللاجئين، بعد أن كان شعبنا بأسره لاجئاً في مراحل سابقة. وأصبح الكورد مكوناً أساسياً في إعادة بناء العراق وكتابة دستور البلاد والحكم في بغداد، بعد أن كان تغيير مختار قريةٍ في كوردستان لا يتّم إلا بأمر أو موافقةٍ من مسؤولٍ عراقي. 
منذ ظهور التنظيمات الإسلامية المتطرفة وإرهابيي القاعدة وداعش على أرض كلٍ من العراق وسوريا، استطاع الحكام المأجورون من قبل القوى المعادية للكورد في البلدين أن يستغلوا هذه التنظيمات ويدفعوا بها إلى الحرب على شعبنا،  إلاّ أن الصمود البطولي للمقاتلين الكورد في مدينة كوباني في غرب كوردستان وفي مختلف المدن والقصبات التي هاجمها الإرهابيون في جنوب كوردستان قد أفشل خطط الأعداء، وجعل العالم ينظر بعيونٍ أخرى إلى الشعب الكوردي، فبدأ العالم الحر الديموقراطي لأوّل مرّة في دعم البيشمركة ومن ثم مقاتلي (قسد) عسكرياً ومعنوياً، واعتقد الكورد أنهم سيحصلون على حقهم الحرية والاستقلال، بعد أن دافعوا عن هذا العالم بدماء شبابهم وقدموا الآلاف من خيرة رجالهم ونسائهم.  فقررت أحزاب جنوب كوردستان أن تسأل شعبها بأسلوبٍ ديموقراطي متحضّر فيما إذا كان يريد الاستقلال أمام البقاء تحت سلطة بغداد التي أثبت حكامها الفاسدون، الناهبون السارقون لأموال الشعب العراقي، منذ سقوط نظام صدام حسين، فشلهم في كل المجالات الإدارية والاقتصادية والمالية وقبل كل شيء في تطبيق مواد الدستور المتعلقة بكوردستان وكذلك في تعميق التضامن الوطني الضروري بين مكونات البلاد المختلفة. فقرر الشعب الكوردي في ظل رئيسه الشجاع السيد مسعود البارزاني والقيادات المتفقة معه ومع حزبه اختيار الاستقلال بنسبة 93% من مجموع الذين أقدموا على التصويت، وكانت نسبة الذين أدلوا بأصواتها تفوق ال 70% من سكان الإقليم الكوردي. 
ثارت ثائرة الأعداء كلهم، فاتفقوا جميعاً على نحر الشعب الكوردي لأنه فضّل حريته واستقلاله على الخنوع القسري لسلطاتٍ تافهةٍ وغير قادرة على تجاوز حقدها العنصري، وحدث ما حدث من هجومٍ مباغت، قاده قاسم سليماني الإيراني ورؤوس الحشد الشعبي المعروفين بولائهم لآيات الله في طهران وليس للحكومة العراقية، ووقف الأمريكان كما فعلوا في عام 1991 موقف المتفرّج، يرون كيف يقتحم أعداؤهم الإرهابيون بدبابات وأسلحة أمريكية حقول النفط الكوردية ومدينة كركوك الكوردستانية، وظهر أن رئيس الوزراء حيدر العبادي ليس إلاّ تابعاً لا حول ولا قوة له بالنسبة لسيده المالكي وأسياد سيده في طهران. 
إلاّ أن ما دفع بالأحداث في هذا الاتجاه، وسقطت مدينة كركوك الغنية بالنفط والمناطق المحتلة من كوردستان هو “الخيانة” التي جرت من قبل “أكراد!” في أخطر المراحل من تاريخ كفاح الكورد الحديث، والحديث عن هذا الموضوع الآن ليس مناسباً لأن أعداء الكورد وكوردستان الذين تنادوا بسرعة واتفقوا رغم خلافاتهم بسرعة وقاموا بالتهديد والوعيد وبإجراءات معادية بسرعة خططوا لحربٍ كورديةٍ – كورديةٍ تبدأ بسرعة، ولذا من الأفضل ترك موضوع “الخيانة” للبحث والدراسة والعمل على اجتثاث جذورها للمستقبل وليس الآن.
قامت القيادة الكوردية بخطوتين جديرتين باعتبارهما واقعيتين وضروريتين: 
-تأجيل تنفيذ نتيجة الاستفتاء التي كانت “نعم للاستقلال”، رغم أن ذلك إرادة الشعب الكوردي ومن واجب القيادات تنفيذ هذه الإرادة.
-الاستعداد للحوار الجاد مع الحكومة العراقية ولا أقول “المركزية” لأن بغداد لم تعد بهذا الاستفتاء مركزاً بالنسبة لكوردستان، بل سلطة احتلال، شاء أو أبى الآخرون، فليقولوا ما يريدون قوله. 
والآن، معلومٌ أن الإدارة الأمريكية في عهد جورج بوش الأب كانت ضد تفتيت يوغسلافيا ومع وحدة أراضيها ثم كانت مع استقلال شعوب يوغسلافيا بعد مرور ثمانية شهور فقط، وذلك لأنها تتعامل مع الواقع الذي يفرض نفسه على الأرض.  وهي الآن مع وحدة الأراضي العراقية وعدم تفتيتها، وتتفق معها دول الاتحاد الأوربي لأسبابٍ عديدة نعلمها جميعاً، وبخاصة بريطانيا وفرنسا اللتين رسمتا خريطة المنطقة حسب مصالحهما الاستعمارية أثناء الحرب العالمية الأولى، وهي الخريطة المعروفة باسم سايكس – بيكو.  ولذا، من الأفضل لإجراء التوافق بين “إرادة الشعب الكوردي” و”التعامل مع الحكومة العراقية”، المضي قدماً في “تثبيت الأمن والاستقرار في الداخل الكوردستاني” وتوسيع دائرة العمل الدبلوماسي والضغط على حكومات العالم الحر الديموقراطي بكل الوسائل المتوفرة من الاحتجاجات والمظاهرات والعقود التجارية مع الإقليم، وبخاصة البترولية منها، وبشحن كافة الطاقات الكوردستانية، في أجزاء كوردستان الأخرى وبين الجاليات الكوردية في العالم، من أجل ممارسة الضغوط المتواصلة على الدول التي تقتسم أرض الكورد وترغمهم على الوقوف في حياد بشأن الصراع بين جنوب كوردستان والعراق.  ومن ناحيةٍ أخرى، يجب الإصرار على تطبيق الدستور العراقي وإسقاط كل حكومة قادمة أو إفشالها فيما إذا مارست سياسة إهمال المطالب الكوردستانية أو التملص من تطبيق كل مواد الدستور المتعلقة بالإقليم، وفي مقدمتها المادة (140) التي تنص على ((أولاً: تتولى السلطة التنفيذية اتخاذ الخطوات اللازمة لاستكمال تنفيذ متطلبات المادة (58) من قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية بكل فقراتها. 
ثانياً: المسؤولية الملقاة على السلطة التنفيذية في الحكومة الانتقالية والمنصوص عليها في المادة (58) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية تمتد وتستمر إلى السلطة التنفيذية المنتخبة بموجب هذا الدستور على ان تنجز كاملة (التطبيع، الاحصاء وتنتهي باستفتاء في كركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليها لتحديد إرادة مواطنيها) في مدة اقصاها الحادي والثلاثون من شهر كانون الاول سنة الفين وسبعة.)) والمادة (7) المتعلقة بأحزاب البلاد، والتي تنص على ((اولاً: يحظر كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الارهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه وتحت اي مسمى كان، ولا يجوز ان يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون. 
ثانياًـ تلتزم الدولة محاربة الارهاب بجميع اشكاله، وتعمل على حماية اراضيها من ان تكون مقراً أو ممراً أو ساحة لنشاطه.))
ويجب إعلان الاستقلال – رغم كل التحديات –  في حال رفض الحكومة العراقية تنفيذ المواد المتعلقة بإقليم كوردستان، وعدم دفع مستحقات الإقليم المالية خلال مهلة قصيرة محددة، فاعتراف المجتمع الدولي سيتم تدريجياً عندما يلاحظ المراقبون والساسة والإعلاميون أن السبب في إعلان الاستقلال الكوردي هو استمرار الحكومة العراقية في ممارسة ذات السياسات التي أدّت إلى الاستفتاء في 25/9/2017 في الإقليم.  لأن المجتمع الدولي يتصرّف وفق الواقع، فها هي علاقات معظم الدول مع إسرائيل غير المعترف بها عربياً جيدة، وها هو المجتمع الدولي يعمل مع الجمهوريات المسقلة في البلقان ويوغسلافيا، ويريد الاستمرار في العمل مع نظام الأسد رغم ككل ما حدث في سوريا من حربٍ وإرهابٍ ودمارٍ وتشريدٍ ومذابح، حتى بعد استخدام السلاح الكيميائي ضد الشعب السوري، وهاهم الأمريكان يتعاونون مع عدوهم الايدولوجي (حزب الاتحاد الديموقراطي) رغم رفض تركيا حليفهم الاستراتيجي في حلف النيتو، وذلك لأنهم يتعاملون مع ما على الأرض وحسب مصالحهم فقط. 
فتصرّفوا بصبرٍ وحكمةٍ وعنادٍ يا أولي الألباب من بني الكورد.
‏03‏ كانون الأول‏، 2017

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…