محكمة دستورية أَم سياسية؟

دارا محمد حصري
 
المحكمة الدستورية، وتسمى أحياناً المحكمة الدستورية العليا، وهي أعلى سلطة قضائية في الجمهورية العراقية الاتحادية، تتحدد طريقة اختيار قضاتها وصلاحياتها ضمن الدستور، قد تختلف من دولة إلى أخرى، ولكن بشكل عام فإن المحكمة الدستورية هي صاحبة القول الفصل بتوافق أي قرار أو مرسوم أو قانون أو حكم قضائي مع الدستور الذي هو التشريع الأعلى في البلاد ولا يجوز مخالفته.
يتم إحالة الدعوى إلى المحكمة الدستورية عادة من خلال طريقين، الأول، وهو شك المحكمة بعدم دستورية قانون معين، وبالتالي تقوم هي بتحريك الدعوى لدراسة دستوريته أو عدمها، أو يمكن للحكومة أو البرلمان (أو أي جهة أخرى حسب دستور كل بلد) الطعن بدستورية تشريع أو حكم قضائي ما، فتقوم المحكمة الدستورية العليا بالنظر في دستورية الموضوع المطعون فيه.
كما تختص المحكمة الدستورية بتفسير مواد الدستور بناءً على طلبات تقدم إليها للاسترشاد أثناء وضع المراسيم والتشريعات، وقد يضاف إلى صلاحياتها محاكمة كبار المسؤولين في الدولة، مثل رئيس الجمهورية، وأيضاً حسب دستور كل دولة. إن الأحكام الصادرة عن المحكمة الدستورية قطعية وغير قابلة للطعن، باعتبارها أعلى سلطة قضائية في البلاد.
أصدرت المحكمة الدستورية في العراق مطلع الشهر الجاري نوفمبر توضيحاً جاء فيه، أنه لا توجد أية بنود في الدستور العراقي تجيز استقلال مجموعة عرقية في البلاد، فيما حكومة كوردستان هنا أبدت احترامها لذلك التوضيح السالف، لتقوم تلك المحكمة نفسها اليوم 20 / 11 / 2017 بإصدار قرار ينص على إلغاء الاستفتاء الذي جرى في يوم 25 / 9 / 2017، وهذا لا يدلّ إلا على هذه الخطوة الأخيرة جاءت في قرار سياسي واضح، وانتهاك لأبسط وأولى مبادئ حقوق الإنسان وهو بتعريف الأمم المتحدة واضح كالتالي:  
 
 عرفت حقوق الإنسان بأنها (ضمانات قانونية عالمية لحماية الأفراد والجماعات من إجراءات الحكومات التي تمس الحريات الأساسية والكرامة الإنسانية، ويلزم قانون حقوق الإنسان الحكومات ببعض الأشياء ويمنعها من القيام بأشياء أخرى). فيما جاء في ميثاق حقوق الإنسان التي تبنتها الأمم المتحدة عام 1948 في باريس ما يلي:
المادة (1)
يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء.
المادة (2)
لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسياً وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ علي أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاً أو موضوعاً تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعاً لأيِّ قيد آخر.
وبناءً على ما سبق، فإننا نرى وبشكل واضح خَرق هذه المبادئ والأساسيات ومواثيق الأمم المتحدة في حق تقرير المصير، والتي عرفت  أكثر  بمبادئ ويلسون لحق تقرير المصير (بالإنجليزية self-determination) هو مصطلح في القانون الدولي يعني منح الشعب أو السكان المحليين إمكانية أن يقرروا شكل السلطة التي يريدونها وطريقة تحقيقها بشكل حر وبدون تدخل خارجي. 
في الوقت الذي لم تتحرك هذه المحكمة ومنذ نشأتها في أية قضايا إنسانية وفير إنسانية، رغم كثرتها، رأيناها تخرج للعنان بمجرد دعوتها من قبل البرلمان العراقي بخصوص استفتاء كوردستان، في الوقت ذاته لم تتحرك هذه المحكمة في تفسير الدستور الذي ينص على عدم السماح بتشكيل جماعات مسلحة على أسس دينية أو ميليشيات خارجة عن الإطار القانوني للدولة والتي لكثرتها وتنوعها لن نأتي على ذكرها هنا. 
هذه المحكمة التي كانت من المفترض أن تُحاسب ساسة العراق الذين حكموا البلاد منذ عام 2003 لليوم وتسببوا بمجازر وويلات وسقوط المدن بيد تنظيم داعش، وانسحاب الجيش، ومئات قضايا الفساد والظلم، وتفشي البيئة الطبيعية والأخلاقية، وتدني المستوى المعيشي، وضياع عشرات المليارات من المال العام، وغيرها الكثير، ولا تزال هذه المحكمة تلتزم الصمت، خوفاً من مَن يقفون وراءها في الكواليس.
وربما يحتاج مَن يترأسها إلى تذكيرهم أيضاً بأن الدستور ينص على عدم إقحام الجيش والقوات المسلحة في نزاعات سياسية وضد مكونات الدولة، ولم تذكر المحكمة على الجرائم المنظمة التي ارتكبتها ميليشيات تابعة لإيران بحق العراقيين السنة وأخيراً الكورد، كما لم تعلق على العقوبة الجماعية بحق كوردستان بقطع المخصصات والموازنة، وكذلك محاولات إنهاء الكيان السياسي لإقليم كوردستان بتسميته مرة بشمال العراق وتارةً بمحافظات الشمال. 
كل ما سَلف يبين لنا وللقارئ الكريم ماهية قرار المحكمة الأخير، وأن القرار تم خضعه لمزاجية سياسية معينة والمحرك لها باتَ واضحاً للقاصي والداني، ثم لا يوجدُ أي بند دستوري لا يُجيز إبداء الرأي في تقرير المصير، لا في دستور العراق ولا في أيّ دستور عالمي، لذلك فأصواتُ أكثر من ثلاثة ملايين نَسمة من مختلف الأديان والمجموعات العرقية من الكورد والتركمان والمسيحيين والعرب لن تلغيهُ أية محكمة أو قوة عراقية، خاصة وأن المحكمة الاتحادية العراقية أسست قبل صياغة الدستور العراقي، وكان ينبغي أن تتأسّس محكمة جديدة بعد سنّ الدستور عام 2005، لكن المحكمة مستمرة منذ ذلك الحين، رغم عدم وجود أساس قانوني لاستمرارها، وهي خاضعة للقرار السياسي، ولا تتمتع بالاستقلالية في اتخاذ القرارات.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

درويش محما* خلال الاعوام الستة الماضية، لم اتابع فيها نشرة اخبار واحدة، وقاطعت كل منتج سياسي الموالي منه والمعادي، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم اتواصل معها ولا من خلالها، والكتابة لم اعد اكتب واصبحت جزءا من الماضي، كنت طريح الخيبة والكآبة، محبطا يائسا وفاقدا للامل، ولم أتصور للحظة واحدة خلال كل هذه الأعوام ان يسقط الاسد ويهزم. صباح يوم…

إبراهيم اليوسف من الخطة إلى الخيبة لا تزال ذاكرة الطفولة تحمل أصداء تلك العبارات الساخرة التي كان يطلقها بعض رجال القرية التي ولدت فيها، “تل أفندي”، عندما سمعت لأول مرة، في مجالسهم الحميمة، عن “الخطة الخمسية”. كنت حينها ابن العاشرة أو الحادية عشرة، وكانوا يتهكمون قائلين: “عيش يا كديش!”، في إشارة إلى عبثية الوعود الحكومية. بعد سنوات قليلة،…

سمير عطا الله ظهر عميد الكوميديا السورية دريد لحام في رسالة يعتذر فيها بإباء عن مسايرته للحكم السابق. كذلك فعل فنانون آخرون. وسارع عدد من النقاد إلى السخرية من «تكويع» الفنانين والنيل من كراماتهم. وفي ذلك ظلم كبير. ساعة نعرض برنامج عن صيدنايا وفرع فلسطين، وساعة نتهم الفنانين والكتّاب بالجبن و«التكويع»، أي التنكّر للماضي. فنانو سوريا مثل فناني الاتحاد السوفياتي،…

بوتان زيباري في صباح تملؤه رائحة البارود وصرخات الأرض المنهكة، تلتقي خيوط السياسة بنسيج الأزمات التي لا تنتهي، بينما تتسلل أيادٍ خفية تعبث بمصائر الشعوب خلف ستار كثيف من البيانات الأممية. يطل جير بيدرسن، المبعوث الأممي إلى سوريا، من نافذة التصريحات، يكرر ذات التحذيرات التي أصبحت أشبه بأصداء تتلاشى في صحراء متعطشة للسلام. كأن مهمته باتت مجرد تسجيل نقاط…