علي عزيز
وقفت دول العالم والمنطقة كلها ضد قرار الاستفتاء الذي أصرّ عليه مسعود بارزاني. وفي الداخل الكُردي، اتفق معظم الجهات الكُردية بما فيها جناح من الحزب الذي يترأسه بارزاني، على أن يتم تأجيل الاستفتاء تحت وطأة الضغوط الدولية. لم يكن إصرار بارزاني على المضي قدماً في إجراء الاستفتاء انتصارا للذات أو التلذذ بالعناد الذي يكمن فيه وهم البطولة، عبر الإصرار على تحدي كل ما حوله.
بارزاني بعيد من ذلك. فالرجل شديد الصبر والاتزان. وفوق ذلك، هو مخضرم في السياسة، وتجربته وحدها تكفي لتوضيح الصورة، فهو لم يقامر بمصير شعبه يوماً، بل يُعرف عنه، إلى جانب رباطة جأشه، تفضيله الحلول الأسلم من مغامرة تبدو فيها عوائد غير مضمونة العواقب. وهذا الأمر بالذات كان سبباً للهجوم عليه، من قبل خصومه الكُرد الذين يتذرعون اليوم بالخروج عليه، لأنه غامر بمصيرهم! ففي الماضي اتُهِمَ بارزاني أنه غير مندفع إلى حق تقرير مصير كُردستان، بل استقر أمره على حل القضية في العراق!
قد يكون مسعود بارزاني من السياسيين القلائل الذين يكنّون بحق مشاعر غير ودية تجاه الغرب. التاريخ والواقع يثبتان أن الغرب نفسه يدرك مدى هذه المشاعر، ويعرف كيف يتعامل معها، كما يعرف التعامل مع زيف الصخب الإعلامي الإيراني مثلاً، والذي يتراكم من كم من شعارات كبيرة ضد الغرب، لا سيما أميركا. فالغرب كافأ بارزاني بالإقصاء، رغم أنهما يبدوان حليفين، وأطلق يد إيران في المنطقة، مع أن العداوة هي السائدة في الظاهر الإعلامي بين الطرفين.
ولد مسعود بارزاني عام 1946، تحت راية أول جمهورية كُردستانية ولدت بعد حوالى عقدين من سقوط مملكة الشيخ محمود الحفيد التي أسقطها الإنكليز. في جمهورية مهاباد، كان الملا مصطفى وزيراً للدفاع. لم يكمل مسعود سنة كاملة بعد ولادته، حين سقطت الجمهورية، ما اضطر والده إلى الانسحاب عبر الجبال إلى حدود العراق وهو يقاتل الجيش الإيراني. ما أن دخل الملا مصطفى حدود العراق، حتى كانت القوات العراقية تلاحقه وهو يقاومها مع رجاله، في طريق الانسحاب باتجاه تركيا. كانت القوات التركية بدورها في انتظاره وهو مرغم على قتالها، تزامناً مع انسحاب عبر الجبال إلى داخل الاتحاد السوفياتي، في ثلاث معارك كبيرة وعشر مناوشات وقتال متفرق.
بعد أربعة عشر عاماً، بدأ الملا مصطفى الثورة من جديد، وانضم إليه مسعود وهو ابن ستة عشر عاماً. عام 1975، تعرض مصطفى إلى «خيانة» جديدة من قبل الغرب. في عام 1991، تعرض الكُرد إلى خيانة واضحة من قبل دول الغرب، حين سمحت للنظام العراقي بقصف مدن كُردستان بالطائرات بعد منعها. لذلك، ترسخت في ذهن مسعود بارزاني صورة الغرب القاتمة المليئة بالاستغلال والتعسف وعدم الوفاء بالعهود. فأمسى الرجل لا يثق بالغرب بل يعتبره مصدر المشكلة.
عام 1992، زار جلال طالباني ومسعود بارزاني أميركا ودولاً أوروبية. وفور عودتهما، كان طالباني مسرعاً إلى تنظيم الحشود الجماهيرية على عجل. طالباني نسب إلى قادة الغرب مساندتهم حق تقرير مصير الشعب الكُردي. لكن الشك بدأ يساور الناس، بعد أن علموا أن قادة الغرب يصرحون خلاف ذلك.
علّق الناس آمالهم على بارزاني بأن يظهر للجماهير ويقول لهم صدق المقال. وبعد طول غياب، تجمع الناس في أربيل، حيث كان بارزاني يلقي خطابه. في ذلك اليوم، أعلن بارزاني أن دول الغرب ليست مع الكُرد، وأن حل القضية الكُردية ليس إلا في بغداد عبر التفاوض. إثر ذلك، بدأ الإعلام المناوئ بتشويه صورته، لكونه عديم الاندفاع نحو حق تقرير المصير.
وفي عام 1996، نشرت إحدى الصحف اللبنانية مقابلة مع مسعود بارزاني، ولفت النظر سؤال حول دور أميركا في إخماد فتيل القتال الداخلي، فرد بارزاني متسائلاً: «ومن قال لك أن أميركا ليست سعيدة بقتالنا؟». قبل عام 2003، لم تكن لدى بارزاني رغبة في إسقاط نظام صدام حسين. فكان يردد دوماً أنه ليس هناك بديل أفضل، وأن الأميركيين ليست لديهم رؤية واضحة لعراق ما بعد صدام حسين. وظل الرجل يتساءل عن الرؤية الواضحة تجاه الشعب الكُردي، بينما كان الأميركيون يؤجلون النقاش إلى ما بعد تحقيق خطتهم. بعد سقوط النظام، ذهب بارزاني إلى بغداد لبناء العراق من جديد بعد أن هُدم. لكنه اصطدم بمماطلة الأميركيين وخداع الحكام الجدد وتسويفهم. انتظر الرجل أكثر من عقد من دون أي حل للقضايا العالقة. في عام 2014، استولى «داعش» على مدينة الموصل. ذهب بارزاني إلى برلمان الإقليم، وصرّح أن العراق ومعه خريطة سايكس- بيكو قد انتهى. وأوصى البرلمان أن يقوم بالتحضيرات لإجراء الاستفتاء، وأن الكُرد لن يخوضوا القتال ضد أحد، وأن الحرب القائمة مذهبية. هرع جون كيري إلى أربيل يحث بارزاني على تأجيل الاستفتاء إلى ما بعد دحر «داعش». قبِل بارزاني الأمر مرغماً، كما أرغِم على قبول صفقات أسلحة قديمة من الغرب، مقابل إفراغ خزانات الكُرد من بلايين الدولارات. أقحِم بارزاني في القتال، بعد أن حشر كل من حزب العمال والاتحاد الوطني نفسيهما في القتال. زار وفد إيراني مسعود بارزاني، يطالبه بالقتال مع «داعش»، لكن بارزاني رفض.
لاحظ الكُرد أن أميركا تغدق على البيشمركة المديح الكثير، بينما ترسل الأسلحة الثقيلة إلى ميليشيات الشيعة. قال لي ديبلوماسي كُردي إنه بعث خمس رسائل إلى الدولة الغربية التي بُعث إليها، يطلب جهازاً لكشف المتفجرات نظراً لسقوط ضحايا كثر بين البيشمركة، لكن من دون جدوى.
على أي حال، انتهت الحرب مع «داعش»، وعاد بارزاني يفتح صفحة الاستفتاء، ويذكّر أميركا بوعدها. فما كان من أميركا إلا أن حضّت وزير خارجيتها ريكس تيلرسون على إقناع بارزاني بالعدول عن الاستفتاء، وتأجيله إلى موعد آخر، والدخول في مفاوضات مع حكومة بغداد. لكن بارزاني طالب ببديل أفضل وبإشراف دول عالمية. أميركا اكتفت بترداد نغمة أن على الكُرد التفاوض مع بغداد من دون ضمانات. لم تنفع تساؤلات بارزاني أن بغداد هي نفسها التي تعطل العمل بالدستور وتخرقه منذ عام 2003. أميركا ظلت تحيل بارزاني إلى بغداد. بدا المشهد كالسيناريو الذي حدث للثورة الكُردية عام 1975 ومحطات أخرى كثيرة. وهذا ما أكده بارزاني مراراً في مناسبات شعبية كثيرة، بأن دول الغرب منذ مئة عام تلعب بالقضية الكُردية، وأن اليوم الذي تقول فيه للكُرد: «تفضلوا هذه حقوقكم لن يأتي أبداً». لذلك، قرّر بارزاني إجراء الاستفتاء وعدم الاستمرار في الرئاسة بعد انتهاء مدته في كل الأحوال. وتم الاستفتاء من دون وجود خيار أفضل. أما الحكومة العراقية فقد كانت عازمة على اقتحام كركوك، سواء حصل الاستفتاء أم لا، لأن إيران كانت قررت ذلك منذ مدة بعيدة. الاستفتاء عرّى أميركا ودول الغرب، لأنها ظلت تسلّح ميليشيات إرهابية كثيرة الصخب ضدها!
* كاتب كُردي عراقي
عن جريدة الحياة