سكاكين أميركية في ظهر كردستان

إبراهيم اليوسف
يصور كثيرون أن مسعود بارزاني الذي أصرَّ على تنفيذ الاستفتاء كان يعلق الآمال على أميركا بأنها ستقف إلى جانبه، إلا أنه فوجئ بخذلانها له، ولشعبه. وهؤلاء لا يعرفون كنه أمرين، أولهما: أن السيد بارزاني، لم يتحمس لإجراء الاستفتاء إلا لأنه يعرف مدى أهميته كأول وثيقة تاريخية لشعبه على مدى التاريخ المعاصر، والدليل حالة الذعر التي أصابت الجوار في تركيا وإيران، إضافة إلى موقفي بغداد ودمشق، ناهيك بمواقف دول المنطقة والعالم التي ترتبط بهذه الدول الإقليمية بمصالح معروفة للقاصي والداني. وثانيهما أن ما دفعه إلى الإصرار بهذه الدرجة، على الاستفتاء، هو سعيه لتثبيت حقوق شعبه، وسط المعادلة السياسية التي تتغير، والتي باتت إيران خلالها لاعباً مقلقاً – ولو موقتاً – في سياسات المنطقة، وخطراً داهماً عليها، بل عاملاً متحكماً بالشأن العراقي وبالمنطقة، نتيجة جملة التواطؤات الأميركية.
لم يكن بارزاني ليثق يوماً واحداً بأميركا في ضوء قراءته لتاريخ سياسات «البيت الأبيض» تجاه شعبه، حتى في لحظات بلوغها أوج التفاهمات بعيد الهجرة المليونية في 1991، وعشية سقوط بغداد 2003، إذ إن أميركا وقفت عائقاً أمام ضم كركوك إلى الإقليم، وهي ذاتها تتحمل الآن وزر ما يحدث من خلاف على هذه المنطقة التي عدها الراحل الملا مصطفى بارزاني قلب كردستان، وكانت سبباً في عدم توصله وبغداد إلى اتفاق نهائي. كما أن أميركا ذاتها حاولت تهميش البيشمركة حتى في شنكال وغيرها من المناطق التي سميت بـ «المتنازع عليها»، بعيد سقوط صدام حسين، حتى وإن بدت للوهلة الأولى متفهمة الكرد، متبنية قضيتهم، كمحاولة تكفير عن الخطيئة الغربية تجاههم بتقسيم خريطتهم، وكانت أمـــيركا ضالعة في ذلك، لا سيما بعد امتناعها عن تـــوقيع معاهدة فرساي في 1919 التي جاءت امتداداً واستـــجابة للمبادئ الأربعة عشر التي نادى بها ويلســـون في 1918، وكانت المادة الثانية عشرة منها تنص على منح الشــعوب غير التركية – ومنها الكرد – حقوقها في تقرير مصائرها، كما أنها لم تنخرط في أي مشروع لترســـيخ السلام في المنطقة، وموقفها من ثورة أيلول (سبتمبر) التي قادها الراحل الملا مصطفى بارزاني كان سلبياً، عقب نكسة الثورة في 1975 بعيد توقيع الاتفاقية بين صدام حسين وشاه إيران في رعاية الرئيس الجزائري، مع أنها سمحت له باللجوء إلى أميركا، ليسكن في ولاية فرجينيا إلى أواخر حياته.
يروي مدير الدراسات الاستخبارية في معهد بروكنغز والمسؤول السابق عن الشؤون الكندية وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي الأميركي بروس ريدل، أن بارزاني عندما زار أميركا مع قادة المعارضة العراقية الستة للمرة الأولى في 1992 كان الأكثر جدارة بالثقة وكان صعب الإقناع، وطوال الزيارة كان ينظر، وفي ضوء إرث خذلان أميركا الكردَ، بعين الريبة إلى النيات الأميركية، وقد بدا له وهو في مكتب روزفلت متوتراً قلقاً. ويبين ريدل أن عدم ثقته بأميركا ظل يهيمن عليه.
مسعود بارزاني، ومن خلال رفضه الوصاية الأميركية التي تدخلت للحيلولة دون تنفيذ الاستفتاء، أكد على الملأ أنه لا يتسلح إلا باعتماده على إرادة شعبه، لا سيما بعد وثيقة الاتفاق بين مجمل الأحزاب الكردستانية، وهو ما استفز مطبخ السياسات الأميركية الذي أراد إدارة ظهر المجن للكرد.
في المقابل، أكدت بيشمركة كردستان بعدما التقطت أنفاسها، بعيد نكسة كركوك في 26 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أنه لم يكن في إمكان الحشد الشعبي دخول كركوك لولا عامل الخيانة، من قبل بعض من هم جزء من البيت الداخلي، وأن هذا الجيش الذي تديره إيران وتدعمه، وبتنسيق تركي صرف، وبموافقة أميركية، وبسلاح أميركي، لم يكن ليستطيع الصمود مجرد ساعات لولا تلك الخيانة.
ثمة محاولات ميؤوسة لتقديم رئيس الحكومة العراقي حيدر العبادي، في مظهر المنتصر، وهو ما كان لينجح إلا بفعل «الضوء الأخضر الأميركي»، وذلك لدواع تكتيكية، أو حتى استراتيجية، من ضمن سياسات واشنطن المتعبة. وهو ما التقطته أربيل بوصفه رسالة واضحة، في اللحظة الأخيرة، وراحت تنسحب، وتغير خطتها بعيد تمكن إيران من اختراق خط المقاومة الكردستاني عبر بعض الذين تم استغلال هشاشة رؤيتهم، ودوافعهم الفردية، على خلفية إرث من خلافات البيت الكردستاني، والتي نشأت، أصلاً، بسبب الدور الإيراني، وأنظمة الدول التي تتوزع عليها خريطة كردستان.
وهذا جميعاً ما يجعل أربيل منتصرة في نهاية المطاف، بعد أن حصلت على وثيقة حق تقرير مصيرها فيما سلمت بغداد مفاتيحها لإيران، وقبلت الإذعان لما يملى عليها.
 
 
* كاتب كردي سوري مقيم في ألمانيا.
عن جريدة الحياة
 
http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/25464621/%D8%B3%D9%83%D8%A7%D9%83%D9%8A%D9%86-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B8%D9%87%D8%B1-%D9%83%D8%B1%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…