الكردي بين الخيانة والوطنية

 د. محمود عباس
 في حيز ما هذه المقالة تتمة للمقال السابق (كردستان بين السذاجة والمصالح).
  تصعيد الخلافات، والتلويح بالخيانة، كتهمة أو حقيقة، دون اعتبار للجماهير والمؤيدين الداعمين لمواقف الشخصيات المندرجة في خانة الخيانة، كأنسب الأساليب للتغطية على أخطائنا، والتغطية على انتكاساتنا، أو لبلوغ غاية ذاتية، ليس فقط لن تمدنا بالقوة، بل ستزيد من أخطائنا، ولن تنقذنا من المستنقع الذي نحن فيه. ومن المؤسف أن هذا النهج يتصاعد عادة بيننا نحن الكرد، في المرحلة السابقة أو المسايرة لكل خسارة، وأثناء انهيار ثوراتنا أو ما بعدها، إلى أن أصبحت جغرافية الصراع الكردي-الكردي حقل مليء بألغام التخوين والتخوين المعاكس.
 وفي مثل هذا الخضم الثقافي المليء بالأخطاء، نحتاج فيه كشعب إلى مفكرين ومؤرخين واعين، لتنقية مفاهيم المجتمع، ولإعادة دراسة تاريخنا من جديد، لتبيان كل الملابسات التي سايرت ظهور الخيانة، والأسباب المؤدية للسير بهذا الطريق. فالتاريخ كثيرا ما يبين أن من اتهموا بالخيانة في مرحلة ما، انتصروا وبنوا الأوطان، ولو لم يسودوا لأتهموا بالخيانة، لكن سيادتهم قلبت الآية على عقبها، وأصبحوا قادة المسيرة الوطنية، وفرزوا الأخرين كجهلاء في أفضل حالاتهم، والتاريخ مليء بمثل هذه الأمثلة. مع ذلك تبقى الخيانة في حكم التاريخ، وستلعن، وسيلعنون، إن لم يكن في حينه، فمن قبل الأجيال اللاحقة.
  فالخيانة، إن كان تواطئا، أو تخاذلاً للأعداء، من رهبة عند ظهور قوتهم أو لخباثتهم، أو تبعية لإملاءاتهم أو مخططاتهم التي يجدها الخائن ذاته من ضمنها، أو تحت أية صفة كانت، ومهما كانت العروض براقة، ومثيرة وموعودة فستبقى ملغومة وموبوءة، وستدرج ضمن خانة الخيانة ليس للطرف الكردي الآخر، بل للوطن الذي لا يزال مغتصبا. وشراكة هذه الشريحة المنخدعة، والمندرجة تحت خانة الخيانة، والذي وضع مصيره وقدره بل قدر الوطن وشعبه، بشكل أو آخر في يد العدو، ليس فقط مذله، بل وسيستخدمه العدو لمآربه ومخططاته، بمنطق السيد والموالي، ولا يعقل أن يتخلى هذا السيد عن مصالحه، ويتكرم على الشعب الكردي الذي يرعبه قادمه، بأية فضيلة.
  مع ذلك لا يحق للطرف الكردي الأخر الوقوف على هذه المعضلة، ويبرر خسارته لمكتسباته تحت حجة خيانة الأخر، فمقابل هذه الحقيقة المرة، تقف جدلية ضعف إمكانياتنا الكردستانية، وخاصة الرؤية السطحية لدى أغلبية الشريحة الثقافية والسياسية، وذلك لعدم بذل الجهد المطلوب في رفع سقف الوعي العام، أو الوقوف في وجه القوى الإقليمية التي تضخ تاريخا مفبركا للمنطقة بشكل عام وللكرد بشكل خاص، والتقاعس في مواجهة دابر الأعداء المتغلغل بين المجتمع الكردستاني والحد من إنتاجه لهذا الكم من التيارات المنزلقة إلى خانة الخيانة.
  علينا أن نقيم استنتاجاتنا الخاطئة من تجاربنا الماضية، والتي سمحت للسلطات المحتلة ومربعاتها الأمنية بدفع معظم قياداتنا الكردستانية الانزلاق إلى مواقف مهزوزة لا تتجاوب، مع الواقع العملي، وهذا بطبيعة الحال ينم عن مستوى أقل من مستوى جماهيرهم، ولهذا فأعمالهم بشكل أو آخر تلاءمت ومصالح الأعداء. وكانت سهلة للأنظمة الإقليمية إدراجهم إلى جغرافية الخيانة، وكثيرا ما دفع بهم لتصعيد التلاسن، وديمومة الصراع الداخلي، وتسمية الأحزاب الكردية بالديمقراطية دون فعل، إلى أن أصبح الخائن قادراً على تحشيد قوة منافسة من لدن الشعب ضد الكردي الآخر، مقابل الوطني البسيط الذي أغرقوه في السلبيات، وهذه المعضلة الأخيرة بحد ذاتها خدمة مجانية للخائن والأعداء معاً.
لمعرفة هذه الخاصية، وبساطة مفاهيمنا، وضحالة التركيم المعرفي بيننا، علينا أن نقرأ ثانية المثل الشعبي الكردي التالي :
  وهي قضية الحجل الكردي، والذي طغى عليه حكم الخيانة أكثر من الشجاعة، من المنطق البشري البسيط وليس العلمي، دون اعتبار أو إدراك لغريزة هذا الطير، المحافظ على وجوده، وديمومة جنسه. المثل الكردي حول الحجل المحجوز وخدعة الصياد، يوقظ في ذهني احتمالات عديدة، كلما قلبته على جوانبه، وحللته، وفي معظم الحالات لم أقتنع بوحدانية النتيجة التي خرج بها أجدادنا، ووجدت بأنهم لم يحيطوا إلا بأحد أطراف فعل الحجل، وكثيرا ما ظننت بأن الحكمة وبهذه الانفرادية غير منطقية، وفي معظمها تعكس قساوة أجدادنا في التحليل، وبالتالي سذاجتنا الذين لا نزال نكررها كما وردتنا، ولا نضع أسباب غبغبة هذا الطير الجميل في خانات أخرى، لنستنتج منها أمثلة أجمل من المثل التشاؤمي، الذي سودنا بها صفحات عديدة من تاريخنا أكثر ما هي في الحقيقة، وغضينا الطرف عن الشجاعة بالغريزة.
 فحتى ولو أبقينا على علاقة رمزية بينه وبين جنسه من الطيور، القادمين لنجدته، والمعروف بأن الذكر من الحجل يتقدم وبشهامة لإنقاذ أنثاه المسجونة في القفص، وبالعكس، وخاصة في فصل التزاوج. ولعدم اطلاعنا على الدراسات العلمية لهذه المأثرة، لم نخرج بحل للنتيجة التي تنتهي إليها مصير الحجل القادم المنقذ، واستمرينا نردد مقولة أجدادنا المباشرة، والذي هو في كثيره مصير الشعب الكردي، أو لنقل مصير الشعب الذي يقودهم قادة من أمثال الحجل اللاهث للنجدة أو حتى المسجون في القفص والذي لا حول له ولا قوة، وهو في الواقع ليس بأكثر من قادة مسلوبي الإرادة، أو منخدعون أو ساذجون، وهم ولا شك أبناء أمة لا تزال تعيش في مستنقع الضحالة المعرفية، كأي شعب مصيره بيد المحتل والأعداء.  فإن لم يكن هذا الحجل المسجون أو الخائن وتحت سلطة الصياد فسيكون هناك حجل آخر داخل القفص، وما أسهل للصيادين اقتناصهم في بيئة غارقة في البساطة القروية، وسذاجة السياسيين الذين لم يتجاوزا منطق الأحزاب التي صنعتها مربعات الأعداء الأمنية، أو التي لا تزال تتحكم بها القوى الإقليمية بشكل أو آخر.
   تراكمت خميرة حواراتي الذاتية السابقة، على خلفية العديد من الدراسات المتطرقة إلى المثل الكردي المعروف (الحجل الكردي) وتكرار تداوله في العديد من المقالات، ومنها ما وجدت مكانها بشكل واسع ضمن كتابات المفكر والناقد إبراهيم محمود وبعدة أوجه، وضمن مقالات الكاتب عباس عباس، وفي مقالة نشرت مؤخراً للكاتب (هيثم حسين)، فأعاد إلى ذاكرتي الكثير، وما حولها، عدت بعدها  ثانية إلى الضفة الأخرى، علماً بأن الإخوة ساقوا جميع الاحتمالات وحاوروها بمنطق جميل، وخرجوا باستنتاجات متنوعة، لكن ولسبب ما لم يتطرق معظمهم إلى الغريزة الخاطئة للحجول الحرة القادمة للنجدة، والتي تشبه سذاجة الحركة الكردستانية.
  ولربما هنا تكمن أس المصيبة التي نغرق فيها كشعب، ويقودنا إليها قادة ليسوا على قدر المسؤولية، إما لأنهم لا يفقهون من الدبلوماسية والسياسة العالمية ما يجعلهم يقرأون المعادلات الدولية الصعبة والشائكة بتيه، أو لأنانية ما لا يستشيرون أصحاب الخبرة من الكرد ولا يفتحون لهم المجال بإبداء الرأي والنصيحة. فلا نظن بأن شعب قوامه 40 مليون، يخلى من سياسيين بارعين أو خبراء بالدبلوماسية، أو مفكرين يقرأون ألف باء الألاعيب الدولية وخباثة القوى الإقليمية، لم يتم الاستعانة بهم للحفاظ على المكتسبات التي حصلنا عليها خلال السنوات القليلة الماضية، والحديث ينسحب على المستقبل، وعلى المكتسبات التي تشمل جغرافية أجزاء كردستان الأربعة.
 فمثلما يجب تطوير حكمة أجدادنا ومفهومنا المطلق لهذا المثل، وتقييمنا البسيط للفعل الغريزي للحجل الكردي، لا بد من أن ننتهج سياسية جديدة حضارية، تتلاءم ومصالح الدول الكبرى، وأن ندرس الدبلوماسية العالمية بعمق ومن خلال الرؤية العالمية، ونعيد ترتيب البيت الداخلي، الخالي من الصراعات والتلاسن والتخوين، حتى وفي ظل الخلافات العميقة. فلقد تبين ومن خلال ثوراتنا العديدة وعلى مدى القرون الماضية، بأن استراتيجيتنا العفوية من أجل التحرر غير مجدية، وعلينا أن نبدأ بإعادة بناء ذاتنا ومجتمعنا بحيث نتلاءم ومفاهيم العصر الحضاري الجديد.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
1/11/2017م

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…