هيثم حسين
عند كلّ منعطف من تاريخ الكُرد، وبعد كلّ موقف يستشفّ منه نوع من الخيانة، يتجدّد الحديث عن طائر الحجل وطباعه التي يعرف بها، وخصوصاً الطبع الذي يشتهر به؛ وهو الإيقاع بأبناء قومه، وذلك في إشارة إلى الخيانة التي تتسبّب للكرد بخسائر أو تساهم بكسر حلمهم الدائم بدولتهم كردستان.
تساق حكاية دارجة عن مرور أحدهم في سوق ورؤيته لصيّاد يبيع الطيور التي اصطادها، وحين وجده متحفّظاً على طائر من طيور الحجل في قفص، لا يودّ بيعه، استعلم عن سبب عدم بيعه، وحين علم أنّ هذا الطائر يساعد في الإيقاع بأبناء جنسه من الحجل، أصرّ عليه أن يشتريه، ودفع مقابله مبلغاً أكبر من المعتاد، وبعد ذلك قتله عقاباً له على خيانته لقومه. وتساق الحكاية للتأكيد على أنّ القتل مصير الخائن.
تقف الحكاية عند حدود العبرة المتمثّلة بمقتل الخائن، لكن لا تعني نهاية عادة الحجل في تجسيده دور الطعم والفخّ، وإن كان هو نفسه في الفخّ، كما لا تقف عند نهاية لأدوار الخونة، لأنّ كلّ مرحلة تنتج خونتها الخاصين بها، أولئك الذين قد ينحدرون من سلالة الخيانة الماضية نفسها، أو أولئك الذين يبحثون عن أدوار على مسرح التاريخ، ولم تسعفهم الوسائل الشريفة لأدائها، فلجأوا إلى سبل ملتوية لتحقيق مآربهم.
وهناك مقولة متداولة بين الكُرد مفادها: “الكلّ أعداء الحجل، والحجل عدوّ نفسه”. وفي عرف صيّادي الحجل، لا يمكن صيد الحجل إلّا من خلال اتّخاذ حجل كطعم للإيقاع بطيور الحجل الأخرى، إذ يقوم الحجل المحتجز في الشرك بالغناء وإصدار نقنقاته التي يستدرج بها بني جلدته إلى الشرك الذي يعدّه الصيّاد للإيقاع بأكبر عدد ممكن منهم.
بالاطلاع على تاريخ الثورات الكرديّة، يبرز هناك حجل ما، ظاهر أو مرئيّ، معلن أو مضمر، خفيّ أو مفضوح، يدسّ سمومه، يطلق صوته ويفتح بوّابات العبور لأعداء الكُرد للتسلّل إلى أكثر أماكنهم تحصيناً وقوّة وضربهم فيها، بحيث يكون الحجل حصان طروادة الكرد الآثم، الطائر المسموم الغارق في آثامه الإنسانيّة. والحجل الذي يوصف بأنّه سهل الاستدراج، متواطئ مع الصيّاد، غادر بأخيه الحجل، قابل للتدجين، يعكس صورة للإنسان الغادر، كائناً من كان، كردياً كان أو غيره.
يحتفي الصيّاد بالحجل طالما يحقّق من خلاله منافعه، تراه يقوم بتدليله وإطعامه، يزيّن له قفصه، يحميه فيه، يبقيه حجراً ملعوناً لصيد المزيد من أبناء قومه، يكون الحجل المأسور الحجرَ الملوّث، المعمي للحجل الحرّ، المسبّب في أسره وقتله، وحين ينتهي منه يتخلّص منه بأشنع السبل.
هناك مَن يحلو له تحويل خيانة الحجل وإيقاعه ببني جنسه إلى نقطة مدح له وتحوير الهزيمة إلى شجاعة وبسالة وشراسة، وذلك من خلال الإشارة إلى تشبّث الحجل بأرضه، وأنّه حين يسمع صوت حجل آخر فإنّه يسرع إليه لطرده من منطقته، فيقع في شراك الصياد. وربّما يحلو لبعضهم تحوير السعي للإنقاذ إلى نقطة قوّة، وكيف أنّ الحجل الحرّ يجازف بإنقاذ الحجل الأسير المقيّد، عساه يخلّصه من قفصه، لكنّه يعلق في شباك الصيّاد الذي يكون أكثر حنكة منه.
ويبدو أنّ طائر الحجل لن يغيّر استراتيجيّاته في محاولات الإنقاذ والإيقاع، متأمّلأً أن يكون هناك تغيير في الطبيعة، أو طباع البشر والطيور، وهذا ما يتبدّى بدوره في باب الاستحالة والتعذّر، طالما أنّ نواميس الطبيعة تكمل دوراتها المتعاقبة وتعود لاتباع المسار نفسه كلّ مرة.
حضر الحجل كرمز في بعض الأغنيات الفولكلورية الكردية وفي قصائد بعض الشعراء الكرد، كما حضر كترميز في روايات وحكايات كردية، تارة يكون محتفَى به من ناحية الجمال والتميز في الشكل والغناء والحب والتعشيش والتفريخ، وتارة أخرى ملعوناً باعتباره نذير شؤم ورأس حربة مسموم بيد أعداء الكرد. وكان الشاعر الكردي السوري محمد عفيف الحسيني قد أصدر قبل سنوات بضعة أعداد من مجلة أدبية كردية بالعربية حملت اسم “حجلنامه” – (بمعنى: رسالة الحجل) – بالإضافة إلى موقع إلكتروني بالاسم نفسه توقّف أيضاً عن النشر مثله مثل المجلة.
هل يمكن تعديل سلالة الحجل وتغيير طباعه؟ هل يمكن إعادة برمجته بحيث يصدر غناء تحذيرياً لبني جنسه يبعدهم عن الفخّ الذي وقع هو فيه؟ هل يعتبر الحجل من التاريخ أم أنّه أعمى البصيرة لا يقرأ ولا يعتبر ولا يتّعظ؟ هل تمحى خيانة الحجل بصيد حجل آخر وجهل الآخرين أو تجاهلهم لخيانته؟ هل يمكن القول بأنّ تقبّل الحجل للتدجين هو نوع من البراغماتية والواقعيّة أم أنّ ذلك دأب الضعفاء المهزومين في قراراتهم؟ هل يتحرّر الحجل الذي يعامل كطعم جزاء إيقاعه ببني جنسه أم أنّه يظلّ أسيراً في قفص الصيّاد يستعمله للإيقاع والاستدراج، وحين ينتهي منه يقوم بذبحه ونتفه وشيّه أو قليه والاستلذاذ بلحمه ورمي ما يتبقّى منه؟
هل نتحدّث عن الحجل الكرديّ هنا ونفصّل في طباعه أم ترانا نتحدّث عن كرديّ حجل، متحجّل، مستحجل، يواظب على أداء دوره التاريخيّ في الإيقاع وتوصيع رقعة الأسرى من الحجل لاستعمالهم ضدّ قومهم..؟ ألن يدفع هذا السلوك المتّبع هذا النوع للانقراض لأنّه يأكل نفسه وجنسه كنيران ينهش بعضها بعضاً؟ هل يعتبر الحجل من تاريخه أم أنّ ذاكرته كذاكرة السمك سريعة الامّحاء والتلاشي..؟