تركيا … التهديدات المتكررة ، و الخيارات المحدودة

سليم عمر *

من الواضح أن الساسة الأتراك لم يتخلصوا بعدُ من الثقافة التي ورثوها عن الامبراطورية العثمانية ، ثقافة اعتماد القوة ، و إشعال الحروب في التعامل مع القضايا التي تواجههم ، و لم يتمثلوا بعدُ للثقافة الجديدة التي خيمت على عالمنا في عقديه الأخيرين ، و التي تنبذ االعنف ، و تدعو إلى الحوار ، و إلى إحلال السلم ، و على ذلك فإن هؤلاء الساسة ، ما انفكوا يطلقون تهديداتهم بحق الكورد ، و حركتهم القومية ، و قياداتهم الساسية
و تزداد وتيرة تهديداتهم ، مع كل تقدم يحرزه الكرد على الأرض ، و لو أنهم يختلقون في كل مرة ذريعة جديدة ، و لعل وزير الخارجية التركي السيد عبدالله غول ، كان واضحا و صريحا ، في إبراز جوهر العقدة لدى هؤلاء الساسة فيما يتعلق بالوجود القومي للكرد ، و حقوقهم عندما قال  : لو قامت للكرد دولة في منغوليا ، فإننا سنحارب هذه الدولة.
إلا أن الكرد ليست لهم نوايا في منازعة الآخرين في أوطانهم ، فلديهم وطنهم الذي بذلوا من أجل تحريره من العبودية و الطغيان  تضحيات جساما ، و لديهم من العزيمة ما يكفي لبذل المزيد ، من أجل حياة حرة كريمة ،  فالمعضلة بذلك  ليست في الذهنية الكردية ، و إنما هي العقدة المستعصية لدى الساسة الأتراك ، و قبولهم بالكرد ، لهم ما لغيرهم من شعوب الأرض ، هؤلاء الساسة  الذين لم يتخلفوا عن ثقافة العصر فحسب ، و إنما عجزوا عن فهم التحولات الكبيرة في الواقع الكردي : في الوعي القومي لدى الجماهير الكردية ، و في استعداد هذه الجماهير للتضحية من أجل قضاياها العادلة ، و في حنكة و حكمة و شجاعة القيادة السياسية الكردية ، و في المكاسب القومية التي تحققت للكرد في كردستان العراق ، و في وقوف المزيد من القوى المؤثرة في السياسية الدولية إلى جانب الحقوق القومية للكرد ، و قد كان على تركيا أن تتمثل ذلك جيدا ، و أن تدرك أن التعامل الدولي ، أو على الأقل تعامل و مواقف الدول المتحالفة في العراق مع الدولة التركية ، و مع نزعاتها في الهيمنة و التسلط ، قد طرأ عليه تبدل كبير ، و أن الحظوة التي كانت تتمتع بها تركيا لدى هذه الدول ، في أداء دور متميز في المنطقة ، يسمح لها في المشاركة بتقرير مستقبلها ، قد انحسرت هي الأخرى ، و أن ذلك بدا واضحا منذ الأيام الأولى لسقوط بغداد ، و مع تعامل قوات التحالف مع فصيلين سياسيين مدرجين على قائمة الإرهاب لديها ، و موجودين على الأراضي العراقية (مجاهدي خلق – حزب العمال الكردستاني) ، حيث تعاملت تلك القوات بشكل مختلف مع هذين الفصيلين ، ففي الوقت الذي أنهت فيه تلك القوات كل وجود سياسي أو عسكري لمجاهدي خلق في العراق ، فإنها طالبت أنقرة بحل مشكلة الفصيل الآخر مع الدولة العراقية و القيادة الكردية ، و من خلال الحوار ، و شكّل ذلك رسالة أولى للأتراك مفادها أن اليوم ليس كالأمس ، و أن على تركيا أن تقبل بالوقائع الجديدة الناشئة  في المنطقة ، و أن تتحرك في حدود معينة ، و أن تتعامل مع الكرد كواقع موجود على الأرض ، و هو ما قضّ مضاجع الساسة الأتراك ، و ما دفعهم إلى بذل كل جهد ، و استغلال كل حدث ، من أجل لجم هذا التوجه لدى الدول المتحالفة ، فقدْ فقَدَ الأتراك الدعم و الغطاء الدوليين اللذين كانوا يحصلون عليهما ، في محاربتهم ، و وقوفهم بوجه الكرد و حقوقهم ، بعد أن فقدوا ركيزة مهمة من ركائز التآمر على هذا الشعب ( نظام صدام حسين ) ، و من ذلك نستطيع أن نفهم بوضوح ، التهديدات التركية المتكررة بحق الكرد ، و قياداتهم السياسية ، و التي ازدادت وتيرتها على مدى السنوات الأربع الماضية ، و مع ما تحقق للكرد من مكاسب في كردستان العراق ، و هو ما يثير حفيظتهم ، و يبرز لديهم المخاوف من أن يشكل ذلك حافزا و محرضا للجزء الأكبر من كردستان ، و الذي لا يزال الأتراك يهيمنون على مقدراته ، و على إرادة شعبه.
و إذا كانت تركيا قد لجأت طوال هذه المدة إلى إطلاق التهديد تلو الآخر ، و من غير أن تُقْدم على التنفيذ ، فليس معنى ذلك أنها غير جادة في تلك التهديدات ، و إنما يعود ذلك إلى محدودية الخيارات لديها ، و في اعتقادي فإن هذه الخيارات لا تتعدى الثلاثة :
1 – أن تنتهج تركيا نهج السلم و الحوار ، و أن تتجاوب مع أيادي الكرد الممدودة للسلام ، و أن تستجيب لدعوات الكرد المتكررة إلى التحاور ، و التباحث ، و مناقشة المسائل المتعلقة بالوضع الكردي ، بصورة عامة.
و هذا هو الخيار الأفضل ، و الأمثل ، و الذي يضع حدا ، لحالة العداء ، و سفك الدماء ، و ضياع الثروات ، و يختصر الطريق إلى مرحلة جديدة من حسن الجوار ، و إلى سلام ينعم فيه الجميع.


 بالإضافة إلى أنه الخيار الأكثر انسجاما مع توجهات العالم ، و مع تجربة تركيا نفسها ، في الحرب التي تخوضها مع الحركة التحررية الكردية ، و التي لم تحصد من ورائها غير المزيد من الخسائر .
إلا أن من الظاهر أن الساحة السياسية التركية ، لم تستوعب بعد التجربة جيدا ، و أنها تحتاج إلى وقت إضافي ، لتذعن لخيار السلم هذا.
2- أن تلجأ تركيا إلى تنفيذ تهديداتها ، و أن تنتهج سبيل القوة و العنف ، و أن توسع من دائرة الحرب على الكرد ، و هو النهج الذي يميل إليه المتشددون من الساسة و العسكر.
و مع أن هذا النهج قد أثبت فشله دائما وسيلة لحل القضايا ، و مع أن تركيا فشلت في هذا النهج أيضا ، و مع نبذ نا  للعنف ، و إراقة الدماء ، إلا أنني أعتقد أن هذا الخيار يشكل الطريق الأقصر ، إن لم نقل الأمثل  لحل المعضلة التاريخية بين الكرد  و الدولة التركية ، لأن تركيا تحتاج إلى هزيمة كبيرة  حتى تذعن لخيار السلم ، تحتاج إلى أن تتكسر آلتها الحربية ، و قوتها العسكرية – التي ما  فتئت تلوح بهما –  أمام إرادة الكرد ، و عدالة قضيتهم ، تحتاج إلى أن تجد نفسها و قد غرقت في المستنقع الكردي ، داخل تركيا و خارجها ،  تحتاج إلى هذه الهزيمة لتصحيح ثقافة القوة ، و عقلية الهيمنة و التسلط ، و إحلال ثقافة السلم ، و حسن الجوار ، و القبول بالحق الكردي في أجزاء كردستان كافة.
و لأن إحدى أهم مآسي البشرية ، أن التجارب لا تورث ، و أن البشر لا يستفيدون من عبر التاريخ بالشكل الكافي ، فإن تركيا لم تتعظ هي الأخرى من تجارب التاريخ ، و حتى التاريخ القريب أيضا .
 فقبل أشهر معدودات ، و في تموز من العام المنصرم ، ضرب حزب الله في لبنان مثلا في التصدي للجبروت ، و منطق القوة ، و تمكن  من أن يغير الصورة النمطية لقوة الجيش الاسرائيلي ، و أن يحرم اسرائيل من النصر ، مع كل ما تمتعت به  من دعم دولي ، و آلة حربية متطورة ، و لا نعتقد أن تركيا تتفوق على اسرائيل قوة و دعما و تأييدا ، مثلما لا نرى أن الكرد يقلون عن حزب الله ، إرادة و تصميما ، و استعدادا للتضحية من أجل قضاياهم العادلة.
3 – أن تستمر تركيا في إطلاق تهديداتها ، و حشد آلتها الحربية في كردستان ، و التدخل في الشأن الكردي ، و افتعال الأحداث هنا و هناك ، و الدخول في مناوشات محدودة ، و لكن من غير الدخول في  مواجهة شاملة مع الكرد ، و أن تنتظر تركيا الفرصة المناسبة لتنفيذ تهديداتها ، و المراهنة في ذلك على حصول تبدل في مواقف الدول المتحالفة ، تحظى من خلاله بدعم دولي و إقليمي في مواجهة القوة الكردية ، أو أن ترتكب القيادات الكردية أخطاء قاتلة تستثمرها لتمرير مشروعها العدواني ، أو أن  تضطر  الولايات المتحدة الأمريكية إلى الخروج  من العراق ، قبل استتباب الأمن ، و الاستقرار ،  فيدخل العراق في فوضى ، و يتحول إلى ساحة مفتوحة لدول الجوار تعمل كل دولة على تنفيذ أجندتها فيها ، و هو الخيار الذي اعتمدته تركيا خلال السنوات الأربع المنصرمة.
 و ليس بعيدا أن تستمر تركيا في انتهاج هذا الخيار ، و قد يدفع بها طول الانتظار ، و تحكيم العقل إلى الركون إلى السلم ، فتوفر على الشعبين الكردي و التركي ، سفك المزيد من الدماء ، و حلول المزيد من المعاناة و المآسي.


——–
* كاتب كردي

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

نظام مير محمدي* لم تکن ممارسة عملية الحکم من قبل النظام الإيراني سهلة وهينة لأنه ومنذ البداية واجه رفضا داخليا قويا مثلما کانت هناك عزلة دولية تفاقمت عاما بعد عام، وحاول النظام جاهدا مواجهة الحالتين وحتى التعايش معهما ولاسيما وهو من النوع الذي لا يمکن له التخلي عن نهجه لأن في ذلك زواله، ولهذا السبب فقد مارس اسلوب الهروب…

نارين عمر ألا يحقّ لنا أن نطالب قيادات وأولي أمر جميع أحزاب الحركة الكردية في غربي كردستان، وقوى ومنظّمات المجتمع المدني والحركات الثّقافية والأدبية الكردية بتعريف شعوب وأنظمة الدول المقتسمة لكردستان والرّأي العام الاقليمي والعالمي بحقيقة وجود شعبنا في غربي كردستان على أنّ بعضنا قد قدم من شمالي كردستاننا إلى غربها؟ حيث كانت كردستان موحدة بشمالها وغربها، ونتيجة بطش…

إبراهيم اليوسف منذ اللحظة الأولى لتشكل ما سُمِّي بـ”السلطة البديلة” في دمشق، لم يكن الأمر سوى إعادة إنتاج لسلطة استبدادية بشكل جديد، تلبس ثياب الثورة، وتتحدث باسم المقهورين، بينما تعمل على تكريس منظومة قهر جديدة، لا تختلف عن سابقتها إلا في الرموز والخطاب، أما الجوهر فكان هو نفسه: السيطرة، تهميش الإنسان، وتكريس العصبية. لقد بدأت تلك السلطة المزيفة ـ منذ…

شادي حاجي سوريا لا تبنى بالخوف والعنف والتهديد ولا بالقهر، بل بالشراكة الحقيقية والعدالة التي تحفظ لكل مكون حقوقه وخصوصيته القومية والدينية والطائفية دون استثناء. سوريا بحاجة اليوم إلى حوارات ومفاوضات مفتوحة وصريحة بين جميع مكوناتها وإلى مؤتمر وطني حقيقي وشامل . وفي ظل الأحداث المؤسفة التي تمر بها سوريا والهستيريا الطائفية التي أشعلت لدى المتطرفين بارتكابها الجرائم الخطيرة التي…