ابراهيم محمود
أثار إسقاط العلم الكردي من فوق مبنى المحافظة في كركوك في يوم ” 16-10/ 2017 ” سخط الشارع الكردي، ومن الطبيعي أن يصدر رد فعل كهذا. لقد اعتبر الإعلام الكردي في إقليم كردستان هذا السلوك تعبيراً عن عدم احترام. حيث أعيدَ المشهد مراراً، وهنا تكمن فارقة تخص هذا الشارع نفسه ومن يتولى أمره، كأنَّه كان ينتظر الذين اقتحموا كركوك بالقوة تحية له، أو تجاهله على الأقل. في مشهد إسقاطه كان ثمة انتقام ملموس، وجِدت سلطة قانون من نوع آخر في محتوى العلاقات القائمة بين مفهوم الدولة في بغداد، وطبيعتها الإيديولوجية، وتلك الأحقاد النابعة من التربية الشارعية المعزَّزة بالتنابذ والاحتقار المتبادل والتي تمثّلها في أعلى سلطة قيادية لها وهي ذاتها منقسمة على نفسها وأي انقسام .
نعم، كانت طريقة نزعه ورميه إلى الأرض تعبيراً عن تصرف رعاعي، دهمائي له صلة مباشرة بالتوجه السلطوي الشعبوي المبتذل، تعبيراً عن هوية الدولة الغائبة بالذات، خاصة في ظل الهتافات الهستيرية في الأسفل ودلالتها، وهي بدورها عبَّرت عن كسْر إرادة الكردي، ونفيه، فعليه أن يبقى كما يُنظَر إليه: دونما اعتراف به .
كان العلَم تاريخياً يتقدم طلائع الجيوش المحاربة، وينصَب فوق أعلى نقطة أو سارية، وأصبح رمزاً للبلاد، وبالتالي، فإن تأكيد أي دولة على علمها ومنْحه اعتباراً يقرَب من القداسة، يعني ربط وجودها ومكانتها وسؤددها به، وفي كل علم تكوين أو تشكيل هندسي وفني يعبّر عن هوية الشعب الذي تعتبر الدولة القائمة نفسها بسلطة معينة ممثّلة وحامية له.
أن يتلخص وجود أمّة في علم ما، هو ما أصبح من البداهات، جرّاء رؤيته في أمكنة محددة ومناسبات محددة، وفي العلاقة بين الدولة، عند زيارة مسئول من دولة إلى أخرى، يكون رفع العلم اعترافاً بالدولة التي ينتسب إلى حدودها الجغرافية، وهكذا الحال في المباريات الدولية ومبنى الأمم المتحدة…الخ، وإن أول تعبير عن رفض أمّة، شعب، هو تغييب علمه عن الوجود.
في الداخل يترجِم العلم ثقافة الدولة ومسارها الإيديولوجي، جهة المكونات الاجتماعية، ولهذا فإن السعي إلى تصميم علم وهو يترافق مع النشيد الوطني، يتطلب المزيد من التفكير مراعاة لحقيقة هذه المكونات وبنيتها الاثنية والثقافية.
كردياً، ما كان يجب تقييم الجاري بالطريقة هذه” التأكيد على عدم احترام العلم الكردي “، ليس لأن ذلك في غير محله، وإنما هو جوهر الموقف من العلم الكردي ذاته ومن يعرَف به سياسياً وأمام الملأ، وإن قبِل به من قبل السلطات العراقية في بغداد، وهي مكرهة على ذلك، من باب الرفض للدال عليه: التعبير عن شعب له هويته وكيانه السياسي وسلطة تعنيه، فإن هذا القبول يكون تحت الضغط، ولكركوك مكانة خاصة في المقام السياسي العراقي، كما يعلم بذلك من له صلة بالموضوع، حيث يتذكر أولو الأمر رد الفعل السياسي المباشر والساخط من قبل حكومة بغداد، والمكونات الاجتماعية غير الكردية إجمالاً للعلم الكردي فوق مبنى المحافظة، واعتبار ذلك غير شرعي، وتأكيداً على نفي المكونات هذه. إن تاريخ الصراعات الاثنية بليغ هنا.
من حق الذين يسخطون على هذا الفعل اللادولتي البعيد عن احترام الآخر، أن يظهِروا هذا السخط في تعابير وحركات احتجاج كردياً، وإنما عليهم” ساسة الكرد بالذات ” أن يدركوا ما هم فيه وعليه سياسياً، حيث يغيب العلم العراقي نفسه، وإن رَفِع بدل الكردي بداية، فمشهد الرايات المختلفة: شيعية وتركمانية والأقل ” عراقية ” دولتية، في كركوك من قبل الذين اقتحموها وعبَّروا عن هذه ” المأثرة ” الشعبوية، إلى جانب منتظريهم في الداخل، كان ترجمة لبنية الدولة بالذات: تهافتها السياسي.
ثمة لوم موجَّه إلى المعنيين بهذا السخط مباشرة في الشارع الكردي، لوم ينبني على تجاهل ما يجري، كما لو أنه كان ينتظَر من المهاجمين تقديم تعظيم سلام له، أو تركه في مكانه، وهنا يتضاعف اللوم، على خلفية من المواقف الحدّية بين حكومة أربيل وحكومة بغداد، والذين كانوا يتهددون أربيل والكرد عموماً، تلك ثغرة لا يجب تجاهلها أو الاستخفاف بخطورتها، منذ بدء رفع العلم الكردي، ليس لعدم شرعيته طبعاً، وإنما لنسيان ردود الأفعال العنيفة لهذا الإجراء، والقوة هي التي تحكمت هنا، وبالتالي كان الجاري متوقعاً، وهذا يعيدنا إلى الدائرة التاريخية التي تعرَف بها الدولة في العراق كمفهوم سياسي: عراق الشقاق والنفاق، وهو التعبير الصادم والقائم والمتجدد منذ أيام الحجاج بن يوسف الثقفي في ظل هوية اللاهوية واقعاً .
دهوك، في 17-10/ 2017