د. آزاد احمد علي
حسنا فعلت القيادات الكوردستانية العراقية عندما أصرت على إجراء الاستفتاء، فعدم التراجع وانجاز هذه الخطوة الديمقراطية فتحت صفحة نضالية جديدة في تاريخ الأمة الكوردية، بل أسست لمسار نهضوي جديد، يتمثل في رغبة سكان إقليم كوردستان العراق تقرير مصيرهم بحرية، والتعبير عن إرادتهم السياسية الموحدة بقوة ذاتية، وبالتالي تعلم ممارسة الديمقراطية ومخاطبة الجوار بمنطق سلمي ديمقراطي حضاري.
من جانب آخر ومن زاوية تقييم نتائج الاستفتاء، شكل الاستفتاء أحد أبرز المحطات النضالية الديمقراطية ليس على مستوى العراق فحسب بل على مستوى الشرق الأوسط، أيقظت الجماهير من غفوتها، وعبرت عن الرغبة الكامنة في رسم مستقبل شعوب المنطقة بعيدا عن هيمنة وتسلط الحكومات الكولونيالية في المركز الرأسمالي العالمي والحكومات ما تحت الكولونيالية المنتدبة في المنطقة كحكومتي تركيا وإيران.
تحقق الاستفتاء كانتفاضة كوردستانية جديدة عبرت عن نفسها على شكل كرنفال سياسي. الأهم من كل ذلك أصبح يوم (25 /9 /2017) يوما لأكبر إختبار في تاريخ الكورد المعاصر، كان يوما لفرز الأصدقاء عن الأعداء، يوما لمعرفة النوايا وسبر درجات الصداقة ومستويات العداوة، كذلك الكشف عن حقيقة التآمر المستمر على شعب كوردستان.
لكن الحدث العظيم سبب من حيث ردود الفعل صدمة قوية للقيادات، بل للنخب الكوردستانية قبل مواطني كوردستان، سببت صدمة سياسية وأخلاقية ستولد الكثير من التأثير وردود الفعل.
أفترض أن العمل النضالي السياسي الفعال الوحيد والمؤثر الذي تم طوال العقدين المنصرمين في كوردستان والعراق وجوارهما، هو استفتاء شعب كوردستان على الاستقلال. جاءت قوته من قوة الإصرار ووحدة الموقف، فضلا عن أن الحدث حطم العديد من الأصنام والأوهام، خاصة صنم (القيم الديمقراطية والحضارية التي تعلن عنها كذبا وخداعا حكومات ومؤسسات الغرب).
ليس هنالك ضرورة ولا جدوى للإسهاب، فالحدث اختزل الكثير من النظريات والفرضيات وأسقط الكثير من الشعارات، وبعثر العديد من العهود والوعود.
سأنتقل للتركيز على أبرز نتائج الاستفتاء على الصعيدين السياسي والفكري:
1- أكد الحدث على فرضية أن كوردستان مستعمرة دولية، وليست مجرد جغرافية تتوزع على أربع دول في منطقة الشرق الأوسط. هذا ما أصر عليه البروفيسور التركي النبيل الدكتور إسماعيل بشيكجي منذ أمد بعيد. حيث لم يعد حكم كوردستان شأنا عراقيا فقط.
2- التراجع عن نتائج الاستفتاء، أو التنازل عن حق السيادة الكوردستاني لأي طرف، ستكون كارثة على حاضر ومستقبل كوردستان المشرق، والتنازل يمس شرف وكرامة الانسان الكوردي المعاصر.
3- ثبت بالدليل القاطع أن العرب هم أقرب الشعوب وأفضل الحلفاء والأصدقاء للكورد، وهذا ما كان متوقعا للعديد من المختصين، فحتى الرئيس مسعود البارزاني اشاد بالمواقف العربية قبل الاستفتاء حيث صرح لجريدة الشرق الأوسط قبل شهر من يوم الاستفتاء، بأن المواقف العربية أفضل من الأوربية.
4- الغرب الرأسمالي الأوروأمريكي وبصيغة تعميم تامة، مازال يفتقر للحد الأدنى من الدعم لقيم الحرية والعدالة وهو غير صادق في مساندة حق الشعوب في تقرير مصيرها السياسي ولا يهدف لنشر وتوطين الديمقراطية في الشرق الأوسط، وإنما مازال يمارس سياسات كولونيالية تحت مسميات جديدة.
5- السياسة الأمريكية الراهنة لإدارة ترامب، مضطربة وقصيرة النظر، غير متوافقة مع معطيات المرحلة وغير منسجمة مع الحرب على الإرهاب.
كما ليست لها علاقة من قريب أو من بعيد مع نشر الديمقراطية ودعم الشعوب في تحقيق الاستقرار والتنمية، فضلا عن أن تصريحات ومواقف أطراف الإدارة لم تتوحد بعد مرور تسعة أشهر من توليه السلطة. وما تصريحات وزير الخارجية تيرلسون بصدد استفتاء كوردستان إلا تعبير عن هذا الخلل والاضطراب في السياسة الأمريكية، فضلا عن قلة خبرة دبلوماسية وسياسية، مع افتقار شديد للمعارف، لدرجة أن ظهر الوجه الحقيقي لوزير الخارجية الأمريكي كتاجر بترول فج وغبي، لا يليق أن يكون دبلوماسيا لأكبر دولة في العالم.
6- السياسيات الأوربية هزيلة وانتهازية وذيليه لأمريكا، هي سياسات جبانة لا تنشد التغيير الجذري على مستوى الشرق الأوسط.
7- لقد كشف الاستفتاء عن حقيقة تشكل حلف استعماري إقليمي جديد في الشرق الأوسط بقيادة تركية – إيرانية مشتركة، هدف هذا الحلف هو كسر الإرادة العربية والكوردية واستنزاف طاقات الدول العربية وسرقة ثروات المنطقة، منع الشعب الكوردستاني من تقرير مصيره السياسي، هذا الحق الذي سيمهد لخلخلة بنية الدولتين ذات الجذور الامبراطورية سواء الصفوية أو التركية.
8- لقد تضامن خيرة الطلائع والنخب العربية مع قضية الشعب الكوردستاني وحقه في الحرية والاستقلال، في حين لم نسمع إلا بأصوات نادرة من بين صفوف الشعوب التركية والفارسية للتضامن والدفاع عن الكورد. هذا ما يضاعف إيماننا بأن صراع الكورد القادم هو ليس مع العرب وإنما مع الترك في المقام الأول والفرس في الدرجة الثانية.
لهذه الأسباب الرئيسة ولأسباب فرعية أخرى، أقترح أن تعيد القيادات الكوردستانية ونخبها الفاعلة النظر في مجمل تحالفاتها، كما عليها أن تعيد رسم إستراتيجيتها على أساس التواصل مع العمق العربي والرقي بهذا التضامن. البدء بخطوات جادة، تتمثل في فتح منافذ الحوار الواسع والمتعدد المستويات مع الجوار العربي، مع التأكيد على المسارات والسيناريوهات التالية:
أولا : بدء التأسيس لشراكة إستراتيجية عربية – كوردستانية تنطلق من المحاور الرئيسية التالية:
أ- في حال انجز استقلال دولة كوردستان، ينبغي أن تظل كوردستان على صلة وثيقة بالعالم العربي، سواء عن طريق ضمها إلى جامعة الدول العربية، بوجود علاقات مميزة مع العراق. أو تأسيس كونفدرالية كوردستانية – عراقية مرنة وجديدة.
ب- العمل على مستوى أوسع لتشكيل كونفدرالية عراقية – كوردستانية -سورية كبيرة وطموحة، مع توفير علاقات مميزة مع الأردن، تربط الخليج العربي مع البحر المتوسط فخليج العقبة، لتشكل سدا جغرافيا وبشريا منيعا أمام النفوذ والتمدد الكولونيالي التركي – الايراني الجديد.
ثانيا: التأسيس لشراكة اقتصادية ومشاريع مشتركة بين المناطق الكوردستانية وجوارها العربي، لتحقيق التنمية والتكامل الاقتصادي، تمتين أواصر الصداقة والتلاحم الاجتماعي بين الشعوب العربية والكوردية. ولتحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، بغية الحد من العلاقات الاقتصادية مع تركيا وايران، تمهيدا لمنع تدخلهما وهيمنتها المستقبلية على الشرق الأوسط.
كذلك على الصعيد الفكري والسياسي لابد من متابعة الدراسة والعمل بموضوعية للكشف عن مستقبل الدور الإيراني – التركي الكولونيالي الجديد في المنطقة وتوضيح حقيقة أن الغرب قد فوضت كل من إيران وتركيا لضرب المجتمعات العربية ببعضها، إلى أن يتم كسر هيبة العرب وسرقة دورهم الريادي في العالم الإسلامي، فضلا عن إعادتهم مع الكورد إلى مرحلة التابعية للترك والفرس.
ثالثا: من منظار كوردستاني يجب إعادة الحسابات الخاصة، عن طريق جدولة وتنظيم خانة الأعداء وفرزها من الأصدقاء فالحلفاء. لذلك نقترح فك الارتباط الاقتصادي مع تركيا، البحث عن سبل للاكتفاء الذاتي وتأمين البديل الاقتصادي، سواء بتصدير نفط كوردستان عن طريق الجوار العربي، أو توفير البدائل الذاتية لواردات النفط والغاز، وضرورة فتح بوابات التبادل التجاري مع الدول العربية.
أخير ينبغي أن تشجع نتائج الاستفتاء على تجديد الكفاح السياسي والنضال الشعبي الكوردستاني ونفخ روح جديدة فيه، عبر تحديد المسار لحركة نضالية طويلة الأمد ضد تركيا، بوصفها العدو التاريخي والاستراتيجي للأمة الكوردية، عن طريق إعادة تنظيم المقاومة الكوردستانية للاحتلال التركي، توظيف كامل القدرات الكوردستانية وبشكل خاص الطاقة والثقل الديمغرافي الكوردي وتوظيفه ضد الهيمنة والاستعلاء الحكم التركي. وكمقدمة للمرحلة الجديدة في تناول وتغيير العلاقة مع الحكومة التركية، ينبغي في المقام الأول الاعتذار لحركة فتح الله كولن، إعادة فتح مدارسها، ومن ثم تحسين العلاقة مع أحزاب اليسار التركي، تهيئة الأرضية لعملية نضالية فعالة، استراتيجية وجودية طويلة الأمد تستهدف تغييرا جذريا في تركيا، وصولا إلى اسقاط نظام حكم أردوغان التسلطي الأخواني المعاد لتطلعات الشعوب العربية والكوردستانية.