ابراهيم محمود
زعلَ الكُردُ عموماً، وكرد إقليم كردستان العراق خصوصاً، لأن العالم ” المتحضر ” قبل غيره لم يقدّم لهم الحد الأدنى من الدعم المباشر في وجه أعدائهم التقليديين متقاسميهم تاريخاً وجغرافيا، ومن حقهم أن يزعلوا، إنما ليس من الحق أن يمضوا بزعلهم إلى درجة تقديم أنفسهم على أنهم يتامى العالم نفسياً، ونسيان أنهم ” أكراد ” العالم والمنطقة، وحتى بالنسبة لنسبة معلومة منهم قبل الآخرين. إن نسيان أو تناسي هذه المعادلة كارثيٌّ لو اعتِمد حتى النهاية، كأني بهم لم يحاطوا علماً بتاريخهم المصادَر منهم، وشخصيتهم الاعتبارية المستولى عليها داخلهم قهراً، كأني بهم لم يعرفوا عمليات الحساب في التاريخ، وأعداؤهم كما خصومهم يعتمدون المتواليات الهندسية في تذريرهم وتجريرهم وتبخيرهم وتعتيرهم..!
من حق الكرد الزعل، والزعل حالة نفسية له صلة قرابة بالآخر، يقرب من العتاب، والعتاب مسلك ودّي، سوى أن الإشكال هو في نوعية الزعل بزمانه ومكانه، وما إذا كان الآخر يتحمل عتابه، بصفته أهل ود، وهو خصمه إجمالاً؟
أرى أن وراء هذا الانكسار الكردي النفسي قراءة خاطئة لبوصلة التاريخ، وللمعادلة السياسية التي توجّه المجتمعات، إلى جانب بورصة القيم، ومن الذين يتولون الإشراف عليها وتحديد اتجاهها والعاملين فيها على أساس القوة، وما في ذلك من هدر قيمي متعدد الأبعاد: إنسانياً، لمن لا يتدبر أمره في فهم الآخر الذي لا يتشكل تبعاً لرغبات المتعامِل معه بالتأكيد: الكردي، مثلما أن الكرد في نظرتهم إلى العالم وقد صُدِموا به، بدءاً من العالم ” المتحضر “، لم يحسنوا قراءة موازين القوى وكيف تتلون. تلك سمة من سمات المراجعة الذاتية والنقد الذاتي بالمقابل !
الزعل بقدر ما يرتبط بتحرّي المواقف ونوعيتها ومغازيها، بقدر ما يعرّف بطبيعته، وزعل الكرد من طبيعة خاصة تحمل بصمة الجغرافيا المقسَّمة وهم معها، والتاريخ المفكفك وهم داخله أو من خلاله، وهذا يعني أن هناك كماً وافراً من اغتراب الكرد المعنيين بسؤالهم المركَّب: التاريخي ” لماذا يُركَنون في زاوية معتمة منه “، والجغرافي ” لماذا لا تجري تسميتهم باعتبارهم كرداً “، عما هم فيه وعليه: ما هم فيه، عندما يضخّمون الأمور، وينتشون بما يقومون به، كما في مظاهر الفرح العارمة ذات الصلة بالاستفتاء وفي أمكنة مختلفة، وهي لم تخلُ من تسويق إيديولوجي طفح فيه كيل التاريخ السياسي نفسه، لأنه فرح يصدم المسبّبين لانقسام الكرد أرضاً وجغرافيا، وصادات أي توجه لهم إلى المغاير، ودون أن يلجموا شعورهم الفياض بنشوة محسوبة عملياً أمام الآخرين، وعندما يقزّمون الأمور، لحظة الاستهانة بالتحديات وأعدائهم، أي كما لو أن الجاري لا يستولد تكلفة مادية ومعنوية، ويضاعفها، وما في ذلك أحياناً حتى من طابع مغامراتي مجهول العواقب، يستهلك حتى رصيد قوتهم الاحتياطية هنا.
في الحالتين يبرز الكرد داخل التاريخ الذي يحمل اسمهم كما يريدون، وخارجه حيث يعلَّقون في صنارة الأعداء أو من يحاول تسخين مشاعرهم، أو حتى منحهم وعوداً مؤجَّلة، لا بل وآلمة، كما الحال من دول العالم ” المتحضر ” .
في أصل المشهد الاستفتائي الكردستاني، إن جاز التعبير، لا ينبغي على الكرد أن يحسبوا أنفسهم يتامى العالم، لئلا يلقوا المزيد من تقاذفات اللّعب الدولية وعنف الإيديولوجيات ما بعد العولمة بساستها الكبار ووكلائهم ” من هم في المنطقة “. ولا بد أن هذا الشعور: اليتم مقدَّر، وإن رفضوا اعترافاً به، من خلال سريان فعل هذا الزعل الكردي هنا وهناك، أي كونهم من جملة ضحايا التاريخ، دون النظر في أدوار التاريخ، وقواه الفعلية، وكيف أن المسائل الأخلاقية المقرَّرة، ومنها ما يخص ” شرعة الأمم ” مزدوجة المعايير. لعل في جرعة منطق الضحية الكثير من الدواء المثير للحساسية وليس المنبّه للتفكير ولا المنير لساحة الوعي، فالأخلاق رصيد متحول، يمثّل شعوباً وفق مستويات، قد يطوَّح بأعداد غفيرة منها، دون أي اعتبار لمفهوم الأخلاق والتي لا يؤذى منها إلا مصدّقوها فور سماعها، ويكونون أولى ضحاياها كالكرد هنا .
أن يسمّي الكرد أنفسهم يتامى العالم، كما هو المستخلَص من ردود أفعالهم، فتلك مشكلتهم والتي تضاف إلى أرشيف مشاكلهم الفكرية والنفسية التي تتنامى هنا وهناك تاريخياً، وأن يُسمّيهم الآخرون هكذا، أو كما يترتب ذلك على نظرة الآخرين إليهم، من خلال سلوكياتهم هذه غالباً” أذكّر بكتاب: الكرد يتامى المسلمين، كتاب فهمي الشناوي، قبل حين من الدهر، وما فيه من ديماغوجية “، فتلك حصيلة معرفة بخفايا سيكولوجيا الكرد وضعفهم، بأكثر من معنى .
يمكن هنا أن ينظر المتابع لما جرى خلال الأيام الماضية ومن فتحة الكاميرا السينمائية الواسعة، كما هو شأن الأفلام الملحمية الطابع، ليتلمس مثل هذا الإقصاء النفسي الذاتي عن حقيقة مستجدات التاريخ، لا بل وحقيقتهم نفسها، وهم يحيلون المأخوذ به: الاستفتاء بوصفه ” سيران Seyran ” في حديقة التاريخ الأمامية هذه المرّة، وهم مكشوفون لملأ العالم، إلى درجة لفت أنظار من لهم علاقة مباشرة بهذا الحراك الجسدي وزخرفات الوجوه والزينة المبرقشة، وفي أمكنة مختلفة، كما لو أن العالم واحد، والمقيمين فيه هم واحد، وأن رغبتهم من خلال هذا الاندماج بالحركة الجسدية والاندفاع النفسي ضمان تفييز ” تأشيرة ” خروج لهم إلى الموقع المنشود: استقلال كردستان، دونما حساب لكل هذا التوجه، وربما حتى من قبل قيادات لها دورها في مسار هذه التركيبات الجسدية: رقصاً وأغان وزغاريد، بينما يفترَض المزيد من ضبط النفس واعتبار المقبَل عليه هو المحتاج أكثر من أي لحظة ماضية إلى تهدئة المشاعر ذات الدمغة القطيعية في النفوس، والاستعداد لما هو شديد الأثر، لأن الرقص أمام شبابيك الجيران المفتوحة، وعلى عتبات بيوتهم المحروسة، أو غير الآمنة، وأسطح العالم ” المتحضر ” حتى مطلع الفجر، قد لا يستولد سلاماً و” نوم العافية ” كما هو المتوخى .
في ردود الأفعال التي يمكن قراءتها كلمات ٍ وبالخط العريض، وملامح وجوه لساسة وقياديين وإعلاميين، ومن على شاشات التلفزة وفي منابر شتى، في وسع الفطين وحده أخذ العلم بأن زعل الكرد، وعلى أعلى مستوى في الإقليم وغيره، لا يتعدى حدود الحقيقة الجلية النبرات، وهي مدى استهانتهم بحسابات الآخرين، وبقوتهم بالمقابل، أي بما يبقيهم داخل التاريخ الذي لا يكفّون عن اعتباره صنعة الآخرين ربما إلى يومنا هذا، فلماذا الزعل إذاً؟ ألا يتطلب ذلك أكثر من صحوة نفسية وذهنية، على الأقل لئلا يؤدي زعلهم إلى الاستصراخ، وهذا إلى الابتعاد أكثر عن الذات الجريحة والنازفة في العمق كردياً، ,وأي جرح، وأي نزف دماء؟
دهوك
في 2-10/ 2017