عندما يستحيل التعايش مع الآخر

صبري رسول
إنّ فشل حكومات المنطقة في بناء دولٍ أساسُها القانون والعدل والمؤسسات، تكون لكلّ أبنائها بمختلف قومياتهم ودياناتهم، كان العامل الأول لعدم الاستقرار.
لم تستطع الأنظمة الحاكمة في تركيا وإيران وسوريا والعراق بناء دولٍ ديمقراطية يكون تداول السلطة فيها سلساً وفق الدستور. وغلبت على نظام الحكم العنصرية القومية أوالتطرف الديني، فكانت القاعدة الأولى للتّطرف، وغذتْها سياساتٌ تعتمد على القبلية والطائفية، فأوجدَتْ أسباب الانهيار وليس مقومات البناء.
ولسوء حظّ الشعب الكردي توزّعت بلادهم كردستان قسراً بين هذه الدول الأربعة، وذاقوا الويلات، إلى إن جاءت فرصة التعبير عن النفس لإقليم كردستان العراق. العداءُ الحادّ الذي أبدتْه دول جوار إقليم كردستان العراق (تركيا وإيران وسوريا) يفصحُ مدى هشاشة الانسجام الاجتماعي لمكوناتها القومية، ويبيّن بنية الدولة المتفسّخة القائمة على القمع والتنكيل. وبه تسقط كلّ ادّعاءاتها في الديمقراطية، والغرب المتبجّح بحق الشعوب في تقرير مصيرها ليس أبعد من هذه الدول التي هي حبال خنقٍ لمواطنيها، وأسيجة سجنٍ لهم وليس أسواراً لحمايتهم.
هذه الأوضاع مضافاً إليها الحروب الطويلة ضد الكُرد دفعت قيادة إقليم كردستان العراق إلى اتخاذ هذه الخطوة التي لاقت ترحيباً كبيراً من شعب الإقليم وتذمّرا من دول الجوار والعالم. وقد يكون أحد أسباب هذه الخطوة غياب تيار سياسي عقلاني في الجانب العربي من العراق للضغط على الحكومات العراقية للالتزام بالدستور، والابتعاد عن التفكير الطائفي، وطمأنة الكُرد بالشراكة الحقيقية في قيادة البلاد.
ويبدو أنّ فرص استمرار الشراكة بين إقليم كردستان والعراق استنفدت وانهارت الجهود الرامية لترميم العلاقة بينهما.
الدستور العراقي بُنِي على «الاتحاد الحرّ» ويترتّب على ذلك إيجاد حلول سياسية لكلّ الملفات، بما فيها القرارات المصيرية التي تتعلّق بمستقبل الدولة العراقية بشكلٍ توافقي، لكن الحكومة العراقية انفردت في عهد المالكي والعبادي، وخرقت الدستور العراقي ليس أوّلها إلغاء المادة 140 حول كركوك والمناطق المتنازع عليها، إضافة إلى فرض حصارٍ جائر على الإقليم.
ما دفع قيادة الإقليم إلى الاستفتاء اقتناعهم التام باستحالة الشراكة مع بغداد، فوقعت بين أمرين: إمّا الخنوع لحكومة طائفية تقود العراق إلى الانهيار أو القيام بخطوة الاستفتاء وعدم الاكتراث لتهديدات الجوار المعادي تاريخياً.
أعتقد أنّ الدول العربية سترتكب خطأ كبيراً في انغلاقها على إقليم كردستان العراق، فالمنطقة لاتحتمل مزيداً من الدمار، وعليها التعامل بإيجابية مع شعبٍ يشترك مع العرب في التاريخ والجغرافية والدين والثقافة.
  

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني في عالم تُرسم فيه الخرائط بدم الشعوب، لا تأتي التحوّلات العسكرية منفصلة عن الثمن الإنساني والسياسي. انسحاب نصف القوات الأمريكية من شرق الفرات ليس مجرد خطوة تكتيكية ضمن سياسة إعادة التموضع، بل مؤشر على مرحلة غامضة، قد تكون أكثر خطراً مما تبدو عليه. القرار الأميركي، الذي لم يُعلن بوضوح بل تسرب بهدوء كأنّه أمر واقع، يفتح الباب أمام…

لم يعد الثاني والعشرون من نيسان مجرّد يومٍ اعتيادي في الروزنامة الكوردستانية، بل غدا محطةً مفصلية في الذاكرة الجماعية لشعبنا الكردي، حيث يستحضر في هذا اليوم ميلاد أول صحيفة كردية، صحيفة «كردستان»، التي أبصرت النور في مثل هذا اليوم من عام 1898 في المنفى، على يد الرائد المقدام مقداد مدحت بدرخان باشا. تمرّ اليوم الذكرى السابعة والعشرون بعد المئة…

د. محمود عباس قُتل محمد سعيد رمضان البوطي لأنه لم ينتمِ إلى أحد، ولأن عقله كان عصيًا على الاصطفاف، ولأن كلمته كانت أعمق من أن تُحتمل. ولذلك، فإنني لا أستعيد البوطي اليوم بوصفه شيخًا أو عالمًا فقط، بل شاهدًا شهيدًا، ضميرًا نادرًا قُطع صوته في لحظة كانت البلاد أحوج ما تكون إلى صوت عقلٍ يعلو فوق الضجيج، مع…

صديق ملا   إن قراءة سريعة ومتفحصة للتاريخ المعاصر في الشرق الأوسط يستنتج : أن هذا الشرق مقبل على تحولات كبرى ، فالدول التي أنتجتها إتفاقية (سايكس_بيكو)ستتفكك لا محالة ليس فقط بتأثير النظام العالمي الجديد ، بل بتأثير يقظة الوعي القومي للشعوب المستعمَرة أيضا… فالتطورات التي حدثت بعد ثورات الربيع العربي ابتداءاً بتونس ومصر وليبيا وأخيراً سورية قد أرعبت الدول…