أحمــــد قاســـــــم
لن أخوض الحديث عن تاريخ سوريا وأنظمتها المتعاقبة التي جاوزت سبعة عقود, ولا يزال الشعب السوري يبحث عن دولة تتحمل مسؤولية الشعب وتستجيب لمتطلباته المتغيرة حسب تطور ومتغيرات حركة التاريخ والفكر الإنساني.
ومن المسلّم به أن الشعب السوري يتكون من العديد من الطوائف والعرقيات, وبالتالي, فلا يمكن أن تتجاوب حكومة من لون واحد مع متطلبات تلك المكونات بالعدل والإنصاف, وخاصة أن الدستور السوري مع كل تغيراته في المواد والنصوص على مر التاريخ والمراحل التي أعقبت الإستقلال عجز عن زرع الإطمئنان لدى الغالبية العظمى من الشعب السوري, كونه كان ولا يزال يحاكي في جوهره الإسلام والعروبة.
وهذا ما جعل من المكونات الأخرى أن تنزاح إلى هامش المسيرة الوطنية, وبالتالي, يستمر في داخل أفراد تلك المكونات الشعور بالغربة والبحث عن الإطمئنان لمستقبله ومستقبل أفراد عائلته. ونستطيع القول بأن الجزء الأهم من الشعب السوري كان له إحساس بأن هويته الوطنية مفقودة لطالما أن وطنه فرض عليه هوية الإسلام والعروبة.
سبعون عام من الغربة والإحساس باللاإنتماء جعل من السوريين مفصولين عن الطبقة الحاكمة ودائرتها, وبالتالي, كان لا بد من الإنفجار لطالما تسكر عليه سقف الآفاق, واستحال عليه المأمول.
إن تطور فكر الإنسان لايمكن توقيفه وسط الكميات الهائلة من المعلومات وخاصة بعد إنتشار النت وسهولة كسب المعرفة من دون الرجوع إلى مناهج النظام وإعلامه المنغلق على ذاته. فالعولمة التي إنطلقت معالمها بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي وفشل إيديولوجية ( دكتاتورية البروليتاريا ), وكان غورباتشوف له باع طويل وجدال معمق حول التطور التاريخي الذي لم يعد يقبل بإيديولوجية الحزب الواحد والسير وراء ملهمات القائد المنظر الأكبر في كتابه ( البروستريكا ). وللأمانة أقول, كان الرجل مبدع في قرائته ومفهوميته للتاريخ وبتفاصيله, وكذلك السياسة بتعقيداتها التي تستلهم من تعقيدات المجتمع وتطور فكر الإنسان نحو الأسمى والأجمل ومتطلبات العيش برخاء وسهولة الحصول على أولويات ذلك العيش. لذلك دفع بالشعوب السوفياتية كسر ذاك السقف الذي وقف أمام تطورهم واستحالة كسبهم المعلومة التي بدأت تنتشر بشكل أوسع مع تطور الإعلام ومكنة الإتصالات…
أما نحن في سوريا, ومع الثورة المعلوماتية, وإنتهاء الحرب الباردة بين قطبي العالم لتتحرر الشعوب وتلتحق بمركب التطور الحضاري والمعرفي, وقفت الأنظمة الحاكمة في منطقتنا, وفي مقدمة تلك الأنظمة, نظام الحكم في سوريا أمام تلك الثورة وانتهج مسلكاً معادياً للعولمة والمعلوماتية والحداثة, يعني ذلك, أنه وقف مانعاً من دخول المعلوماتية والحداثة إلى بلدنا واصفاً ذلك بمؤامرة إمبريالية للنيل من ” الممانعة والمقاومة ” التي إنتهجها النظام البعثي ذو وجهين!؟
قد خفي على النظام على أن خطابه الشعبوي الذي يدغدغ مشاعر الطبقة الفلاحية من الشعب سيكون عاجزاً أمام الهجمة المعلوماتية التي تحاكي العقل والروح الإنساني بغض النظر عن إنتمائه العرقي أو الديني. لأن في المحصلة, الإنسان الفرد يبحث عن ” لقمة عيشه من دون عائق وهامش من الحرية والسعادة ليختار إنتمائه باطمئنان من دون فرض أي فكر أو عقيدة عليه بالتوارث “
أما الوطن عند الإنسان مع إكتسابة للمعرفة, يعني الحرية والخلاص من إلتزامات هو لايؤمن بها, ومكانه الذي يرى على أنه المالك فيه من دون فرض الأتاوات عليه, ومشاركة مع غيره بدءاً من القرية مروراً بالمدينة وإنتهاءً بوطن يبني دولةً لتنظيم الحياة وصيانة المكتسبات بالعدل والإحسان. الوطن الذي يرى فيه الفرد على أنه مالكه لينتمي إليه, يجب أن لايحمل هوية الدين والعرق, وحتى اللغة المحددة باتت ثانوية أمام العولمة العالمية. يجب أن يحمل الوطن هوية الإنسان, وذلك من دون الوقوف على دينه وعرقه. ولكي تكتمل المواطنة, يجب على كل فرد المساهمة في إختيار عقد إجتماعي ينظم حياة الناس. وبما أن بلدنا سوريا يتشكل شعبها من العديد من العرقيات والمذاهب, فكان لابد من أن يشمل العقد كل التلاوين ويحدد حقوق الكل دون فضل أحد على الآخر.. وبالتالي, يكون العقد فوق الأديان والأعراق مع الحفاظ على حرية المعتقد والإنتماء في إطار دولة المواطنة الحرة.
ومع إستغلال نظام الإستبداد ( العلمانية المخادعة ) مع وجود الإسلام السياسي الضاغط, فقدت ( العلمانية العالمية ) مفهوميتها لدى شريحة واسعة من المجتمع السوري. فمن جانبه يوصف الإسلام السياسي ( العلمانية ) بالإلحاد وخطراً على الإسلام, بينما يوصف نظام الإستبداد ” العلماني البعثي ” على أنها الطريق إلى تحقيق أهدافه في ( الوحدة والحرية والإشتراكية ) وهو, أي أن هذا النظام في حقيقة الأمر إستعمل الإزدواجية في الممارسة السياسية, العلمانية من جهة وفقاً لمصلحته بالبقاء على رأس الحكم, وكذلك الإسلام السياسي من خلال تأجير علماء الإسلام في البلد للوقوف أمام أي مطلب جماهيري للتغيير, وذلك إعتماداً على مقولة ” طاعة الحاكم نوع من أنواع العبادة لله “, إضافة إلى إستعماله ضد التطرف والتعصب الديني عند تهديده لوجوده. وذلك ما يدفع السوريون إلى الخيار الذي يمكن أن ينقذوا به البلاد من القتل والتدمير لطالما أن الإستبداد وصل إلى طريق مسدود, وأن الإسلام السياسي في حقيقة الأمر أبشع من ( الإستبداد العلماني ).
مما أردت أن أوصل إليه من خلال ما أوردت من الأفكار, هو بيان الطريق إلى الحل في الأزمة السورية.
صحيح أن الثورة إنفجرت موضوعياً لطالما أن النظام ما كان يملك طريقاً نحو التغيير الموضوعي وفقاً لرغبة الإنسان التي تغيرت مع المعلوماتية والعولمة, إلا أنها كانت تفتقر إلى برنامج يحاكي العقل والفكر كمشروع إنساني نحو التغيير, وبالتالي, يرفض موضوعياً نمط الحكم والنظام القائم على إزدواجية الهوية العرقية والمذهبية. وهذا الإفتقار كان نتيجة لغياب النخبة الوطنية التي تؤمن بهوية المواطنة بعيداً عن هوية العرق والمذهب.. فاستغل الإسلام السياسي هذا الخلل وركب على الثورة من أجل إنهيار الدولة وبناء دولة الخلافة محلها, وبالتالي, جعل من مساحة سوريا بيئة ملائمة لجذب الإرهاب مع تسهيلات من قبل النظام للوصول بالبلد إلى ما وصلت إليه.
قلت أن الثورة إنفجرت موضوعياً, وكانت يجب أن تنفجر, لكن الخيارات إختلفت من مكون لآخر مع غياب القيادة النخبوية كما أسلفت, وكان واضحاً بأن الثورة ستُخْمَد مع تصاعد وتكثيف الكتائب المسلحة بمشهد إسلاموي, وأخيراً مع ظهور تنظيم الدولة ” داعش ” في سوريا والعراق, ليضطر المجتمع الدولي الوقوف مع الدولة وضد من يريد لسوريا أن تكون (لادولة) كما الآن في العراق, من أجل الحفاظ على مؤسسات الدولة والحيلولة دون إنهيارها, وإن حصل ذلك سيكون كارثة على الأمن والإستقرار الدوليين. وبالتالي, فسح النظام المجال كثيراً أمام الإرهاب الإسلاموي بهدف تشويه المشهد أمام المجتمع الدولي ليكون ضامناً لبقائه واستمراريته في الحكم مع إرتكابه لكل تلك المجازر وتدمير البلد.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستعود سوريا إلى نقطة الصفر, أي ماقبل إندلاع الثورة؟
أكيد أن ذلك غير منطقياً لطالما المعرفة لدى الشعب السوري تجاوزت حدود قبول الإستبداد, وأن حاجة الإنسان تجاوزت حدود الهوية العرقية والدينية, وبالتالي, فهو يبحث عن بديل يحرره من الإعتقال التاريخي لينطلق نحو فضاء يحصل على ما يحقق طموحاته في الحياة لطالما حرمه نظام البعث من حرية الفكر والإنتماء طوال ستة عقود أو أكثر بما أن العقد الذي أعقب الإستقلال كان يفتقد إلى الإستقرار نتيجة للإنقلابات العسكرية المتكررة باسم العروبة والإسلام, وصولاً إلى إستلام البعث الحكم باسم العروبة في 8آذار1963 بانقلاب عسكري.
لذلك أعتقد, أن إمكانية المصالحة مع النظام القائم تجاوزتها الظروف موضوعياً, وكذلك إعادة بناء الدولة, أو إعادة صياغة مؤسسات الدولة وأركانها وهي قائمة على أساس عرقي أو ديني, أيضاً أعتقد لاتلامس الحل الحقيقي للأزمة, وقد يكون حلاً مؤقتاً قد تنفجر الثورة مرة أخرى وقد تؤدي إلى إنهيار الدولة من جديد, لأن الدولة السابقة التي بنيت على أسس دينية وعرقية عجزت عن تحقيق أدنى حد من الحريات للشعب السوري وبالتالي, إستنساخ الدولة الجديدة من القديمة لايمكن بقائها على الحياة. وبالتالي, المطلوب اليوم وبالسرعة الكلية أن تنهض النخبة العلمانية والديمقراطية لتتوحد وتطرح مشرعها الذي يحدد محددات الدولة العلمانية التي تفتح الطريق نحو التطور التاريخي الحتمي وإلى الحداثتية التي تنفي العرق والدين بل تجتاز تعقيدات الفكر المجتمعي لتضع للحياة حلولاً وفق ضوابط وشروط التطور الإنساني على قاعدة ثقافات تراكمية التي تمتلكها الشعوب وعليها تم بناء إنسان اليوم. بمعنى, أن النظام القائم اليوم لايمكن بقائه مع الإنتهاء من الحرب على الإرهاب واستتباب الأمن والإستقرار في البلد.. لأنه لايمكن أن يرى التغيير طريقه وسط الحروب والقتل والدمار, وسيتكفل المجتمع الدولي بكل تلك الإجراءات التي ستنتج سوريا الجديدة, سوريا الوطن والمواطنة على أساس صياغة عقد ودستور جديد تتوافق عليه كل المكونات لتحديد شكل الدولة وأنظمتها وبناء مؤسساتها ولكن بشرط أن لاتكون للدولة هوية دين أو عرق.