د. ولات ح محمد
في مثل هذه الأيام من العام الماضي وفي ختام زيارته الرسمية لأنقرة (التي غادرها إلى باريس للقاء الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند) صرح رئيس إقليم كوردستان العراق مسعود بارزاني في إيجازه الصحافي آنذاك بأن “المنطقة مقبلة على تحولات كبرى”. وفي نهاية زيارته لباريس ولقائه الرئيس فرانسوا أولاند أعاد التأكيد على الفكرة ذاتها في لقاء خاص مع تلفزيون فرانس 24 بقوله: ” إن المنطقة مقبلة على تغييرات وخرائط جديدة …”.
منذ ذلك التاريخ حمل البارزاني مشروعه في حقيبة كبرى وجال بها على الكثير من عواصم العالم وفتحها أمام قادته شارحاً جوهره وطالباً مساعدتهم في إنجازه. ونتيجة ذلك الجهد نشهد اليوم أحد التغييرات الكبرى التي أشار إليها البارزاني آنذاك تتجسد اليوم في توجه الكورد في كوردستان الجنوبية إلى الصناديق للاستفتاء على استقلالهم عن العراق. وقد كان للثقة التي حظي بها شخص البارزاني وما أظهرته قوات البيشمركة للعالم من قوة وشجاعة وجدية في محاربة الإرهاب الأثر الأكبر في اتخاذ مثل هكذا قرار في هذا التوقيت بالذات. ومن مظاهر هذه الثقة الدعوات التي تلقاها البارزاني من قادة العالم وحكوماتهم لحضور منتديات عالمية كبرى بصفة شخصية وممثلاً عن إقليم كوردستان تحديداً، وهو ما لم يحصل قبل الآن، ما يشير إلى أن العالم بات ينظر إلى الكورد بوصفهم شريكاً لصناعة الأمن والسلام في العالم.
منذ أغسطس آب من العام الماضى حضر البارزاني العديد من المؤتمرات والمحافل الدولية الكبرى، منها منتدى ميونيخ للأمن بألمانيا فبراير شباط من هذا العام الذي عبر آنذاك من خلال موقعه على صفحات التواصل الاجتماعي عن أهمية الحضور الكوردي فيه بقوله: “إن الحضور الفعال لإقليم كوردستان في مؤتمر ميونخ للأمن، والحوارات الثنائية التي أجراها الوفد مع الزعماء والشخصيات العالمية البارزة حول وضع المنطقة ومستقبل إقليم كوردستان، أكد الثقل الكبير لكوردستان في المعادلات السياسية العالمية”. وكان البارزاني قد التقى في سياق المؤتمر بمجموعة كبيرة من الوزراء المشاركين وتلقى دعوات من أربع دول دول لزيارتها وهي فرنسا (التي التقى فيها الرئيس أولاند في شباط للمرة الرابعة خلال عامين) وإيران وأرمينيا وتركيا التي زارها قادماً من باريس والتقى فيها رئيسها ورئيس وزرائها. وقيل إن من بين الموضوعات التي ناقشها مع القيادة التركية آنذاك موضوع الاستفتاء على استقلال إقليم كوردستان.
من بين الفعاليات التي شارك فيها البارزاني أيضاً كان منتدى دافوس الاقتصادي في سويسرا في يناير كانون الثاني من هذا العام. وفي مايو أيار قام بزيارة إلى المملكة الأردنية الهاشمية بدعوة من عاهلها الملك عبد الله الثاني لحضور فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي حول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد قام بإجراء لقاءات عدة مع عدد من القادة والمسؤولين كان في مقدمتهم ملك الأردن ووزير خارجية كل من النرويج وهولندا. كما وصل في الشهر نفسه إلى صوفيا عاصمة بلغاريا وأجرى مباحثات مع رئيس وزرائها بحضور وزراء الاقتصاد والسياحة والزراعة. كما قام بعدها بزيارة إلى بروكسل اجتمع خلالها بمسؤولين في الحكومة البلجيكية وألقى كلمة أمام البرلمان الأوربي في مقر الأخير هناك. وكان الموضوع الرئيس في كل لقاءاته في كل تلك المناسبات مع أولئك القادة والزعماء والبرلمانيين هو ما كان يحمله في حقيبته الكبرى: الاستفتاء على استقلال كوردستان.
إضافة إلى توجيه الدعوات سالفة الذكر إلى قيادة إقليم كوردستان لحضور الفعاليات الدولية قام عدد كبير من وزراء الخارجية والدفاع والبرلمانيين والسفراء في عدد من الحكومات بزيارة إقليم كوردستان خلال العام المنصرم. كما أن كثيراً من الدول فتحت قنصلياتها في أربيل، وبعضها أمدت البيشمركة بالسلاح بصفة مباشرة لمحاربة داعش. ونتيجة لهذه الثقة والتعاون بين حكومة الإقليم وعدد من الحكومات في العالم قدمت وزارات الدفاع الأمريكية والبريطانية والألمانية مشروعاً مشتركاً لإعادة هيكلة قوات البيشمركة على أسس حديثة واحترافية. كما أن مواقف الكثير من الحكومات العربية باتت نتيجة لتلك الجهود إيجابية من مساعي إقليم كوردستان. ويمكن الإشارة هنا إلى مواقف دول الخليج وموقف العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني.
إذا كان توجيه دول العالم لتلك الدعوات للبارزاني وتوجه قادة العالم إلى إقليم كوردستان يشيران إلى المكانة التي يحظى بها في حساباتهم فإن البارزاني نفسه حاول ويحاول توظيف هذا الحضور بأقصى مدياته للترويج لمشروع استقلال كوردستان الذي يعمل عليه منذ سنوات، وذلك من خلال فتح حقيبته الكبرى أمام قادة العالم وصناع قراره في كل تلك المناسبات. ولكننا نعلم في المقابل أن المهمة ليست سهلة؛ فالأنظمة الإقليمية ستعمل على سرقة الحقيبة أو كسرها وتحطيمها. ولذلك ستعمل طهران ما تستطيع مع أصدقاء الضرورة في أنقرة للضغط على البارزاني من أجل ثنيه عن مسعاه. ولكن العاصمتين في الوقت ذاته تعلمان أن الكورد لم يعودوا وحدهم كما كانوا في السابق، وأنهما لا تستطيعان الاستفراد بهم كما حصل في تجارب عدة في الماضي، وتعلمان أيضاً أن البارزاني لو لم يحصل على إشارات مشجعة من قوى كبرى لما أقدم على هكذا خطوة بكب هذه الثقة، وأن تحركاته باتجاه الاستقلال ليست بالضد من الإرادة الدولية وأن من يقف ضدها عليه أن يقف ضد تلك الإرادة، وأن خذلان الكورد هذه المرة سيضع المنطقة على صفيح من نار.
إضافة إلى كل ذلك بات الكورد يدخلون اليوم المعادلات الدولية الخاصة بالشرق الأوسط بوصفهم عامل استقرار وعنصر توازن؛ فتمدد إيران مثلاً وإنشاؤها لبؤر توتر في المنطقة وهيمنتها على مفاصل الدولة العراقية وعلى عواصم أخرى في المنطقة دفعت تركيا للتساهل خلال السنوات الماضية مع حكومة الإقليم، لأن إضعاف كوردستان يعني وقوعها تحت هيمنة طهران (كباقي العراق) ما يجعل الأخيرة على حدود تركيا مباشرة ومتصلة بسوريا مباشرة أيضاً. وهذا أمر في غاية الخطورة في الحسابات التركية. لذلك لا تبدي أنقرة موقفاً متشدداً حيال مساعي الإقليم كما هي الحال في طهران. كما أن واشنطن (ترامب) تشترك مع أنقرة في توجسها من التمدد الإيراني. في المقابل أثبت الكورد حضورهم المميز سياسياً وعسكرياً بوصفهم قوة لا يمكن تجاوزها، كما أثبتوا أنهم عامل استقرار في المنطقة، وقدموا أنفسهم للعالم بوصفهم حماة أمن الأقليات وحقوقهم في ظل الانقسام الطائفي والديني الذي تشهده المنطقة.
كل من جاء من شمال كوردستان إلى جنوبها طلب إلى البارزاني التدخل لحلحلة الشأن الكوردي التركي: صلاح الدين دميرطاش قبل دخوله السجون التركية طالبه بالتوسط لدى تركيا من أجل دفع عملية السلام من جديد إلى الأمام، كما طالبه أوصمان بايدمير بالتوسط لدى تركيا لإطلاق سراح النواب الكورد من حزب الشعوب الديمقراطي. وعندما خرج السيد أحمد ترك من السجون التركية قبل شهور صرح بأن البارزاني محل إجماع الكورد وبأنه قادر على أن يلعب دوراً لدى الأتراك لإعادة إطلاق عملية السلام مع الكورد من جديد.
طبعاً، تلك من مهام حامل الحقيبة الكبرى، ولكن إذا أراد الكورد أن يفاوض البارزاني العواصم الإقليمية والعالمية على حقوقهم من موقف قوي يتوجب عليهم مساندته، فذلك سيقوي موقفه أمام المسؤولين في تلك العواصم من جهة، وسيكون هذا الدعم من جهة ثانية عامل ردع لأنقرة وطهران تحسباً منهما لما قد يحصل في ديارهما إذا فكرتا في إلحاق الأذى بجيرانهما الكورد. ومن هنا فإن نسبة “نعم” في الاستفتاء ستكون غاية في الأهمية في هذا السياق. المسألة هنا تتجاوز من يقود من، إنها مسألة مصير. والتجربة الكوردية الأكثر نضجاً الآن هي في الإقليم الجنوبي الذي يشبه دولة باعتراف الأصدقاء والخصوم، وعلى الكورد مساندة هذه التجربة إذا أرادوا لأنفسهم مكانة بين شعوب العالم.
إن “التغييرات الكبرى في السياسات والخرائط” التي أشار إليها الرئيس البارزاني في غير مناسبة تحتاج (كوردياً) إلى حقيبة كبرى تحملها شخصية كوردية كبيرة تحظى بثقة العالم واحترامه من جهة، وتكون محل تفويض معظم الكورد وثقتهم في مختلف جغرافياتهم من جهة ثانية، ولا تثير إشكاليات كبرى مع الدول الإقليمية من جهة ثالثة. ومثل هذه السمات لا تكاد تجتمع في قائد كوردي واحد في الوقت الراهن سوى البارزاني ذاته القادر على حمل تلك الحقيبة الكبرى وفتحها أمام قادة العالم بكل ثقة. ولذلك فإن الكوردي الذي يبحث عن تحقيق حلمه التاريخي المشروع بإقامة كيان (بغض النظر عن صفته: دولة أو فيدرالية أو كونفديدرالية) يعبر فيه عن هويته وخصوصيته التي حُرِم منها مئة عام مطالب اليوم بدعم هذا القائد المؤهل (للعوامل المذكورة أعلاه) لقيادة هكذا مشروع وإنجاحه. أما الطموحات الحزبية والشخصية فإنها تأتي لاحقاً في كوردستان المنشودة، وهي لا تحتاج غير حقائب صغيرة يمكن أن يحملها أي سياسي أو قائد في حزبه.