(لنحتكم أمام الطليان هذه المرة)

  بقلم : علي الجزيري

        
لامناص من القول بأننا كأمة ، نواجه اليوم أشرس هجمة وعلى أكثر من صعيد .

وهذه الهجمة تتخذ اليوم أشكالاً متنوعة ، وسبل قد لاتخطر في بال الكثيرين ، لأن المهاجمين ـ ببسيط العبارة ـ هم كرد هذه المرة ويصطادون خلسة في الماء العكر، فقوى الغزو التي إجتاحت كردستان ، زرعت فينا بذوراً قد أينعت حقاً ثماراً مرة كالعلقم .

وما زاد الطين بلة أننا مازلنا في بداية الطريق ، لأننا إستيقظنا متأخرين ، وكما يقول المثل الكردي الدارج : من يستيقظ متأخراً ، لابد أن يتسبب الحذاء في إحداث آلام لقدميه .
         لكن رغم  ما وراءها ، فالأكمة المثارة باتت تستوجب التأني والتصرف بمزيد من الحكمة .

أنا أقدّر غيرة الأخ العزير( حسن سليفاني) وغيره على ( البدرخانيين) ، الذين أشعلوا شموعاً في حياتنا الثقافية ، فكانوا بحق رواداً في هذا الميدان بلا منازع ، و أدرك ما أثاره ( فرهاد شاكلي ) في أنفسنا جميعاً من منغصات بموقفه هذا ، بغية النيل من تلك العائلة المناضلة بأي ثمن ، لأننا إعتدنا على مثل هذه الحملات المغرضة من لدن ثلة من أبناء جلدتنا المنفصمين عن واقهم ، تلك التي طالت حتى رموز نضال أمتنا في العصر الحديث ، وفي مقدمتهم البارزاني الخالد ، والأمثلة أكثرمن أن تحصر ، إلا ان التاريخ كفيل بالحكم على أمثال هؤلاء ، ممن يقومون بأداء دور أبرهة الأشرم ويهوذا الإسخريوطي بكل إتقان وعن سبق الإصرار والتصميم .

         إننا حقاً نواجه إشكالات عدة على صعيد اللغة الكردية ، منها الموضوعية ومنها الذاتية ، ومن هذه الاشكالات : تعدد اللهجات وإختلاف الحروف الأبجدية المستعملة هنا وهناك ، ناهيك عن السياسات المنتهجة من قبل الأنظمة المتحكمة بمصير الكرد ، والتي تتوخى القضاء على كل مايمت الى الكرد بصلة ، وذلك عبر تشويه التاريخ وتسطيح الجغرافيا وتبخيس اللغة وتقزيم الهوية الكردية ونهب الثروات … الخ، بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى .
        ما من شك أن الكرد يطمحون حقاً للوصول يوماً ما لبناء لغتهم المعيارية الموحدة ، لأن الإغراق في المحلية ( أعني اللهجات) ، يشكل ـ دون مواربة ـ خطراً من جملة الأخطار المحدقة بنا ويحمل في طياته العديد من التناقضات .

ولابأس من أن نحتكم هذه المرة للطليان ، وفي مقدمتهم ( غرامشي) الذي تناول موضوعاً مشابهاً في كتاباته ، في ظل ظروف شهدت فيها مناطق شمال ايطاليا تقدماً ملحوظاً ، حيث كانت أكثر مناطقها تطوراً في ميادين الاقتصاد ، وذلك بخلاف الجنوب الايطالي  .


        أجل ، استطاع ( غرامشي) بحسه المرهف وبصيرته الثاقبة أن يشخص الواقع ، وتمكن من قراءة إشكالية تعدد اللهجات في ايطاليا ، معللاً إياها بالتفاوت في التطور التاريخي بين الشمال والجنوب ، لكنه في الوقت ذاته ، رفض رفضاً قاطعاً فرض لهجة إقليم (توسكاني) على كل ايطاليا ، وفق دعوة ( مازوني) ، وتبنى موقف ( اسكولي) المعارض ، إنطلاقاً من أن اللغة المعيارية لايمكن فرضها قسراً أو بأمر إداري ، رغم أنه كان يعي تماماً أن التوسكانية لها باع طويل منذ القرنين(14ـ 16 )م ولها كتابها المشهورين مثل( دانتي) ، فضلاً عن التطور الاقتصادي ( الصناعي ) وإزدهار التجارة ، الى الحد الذي كان فيه  تجار توسكانيا يبيعون منتوجاتهم  بأسمائها المحلية في كل أنحاء ايطاليا .
       ولعل المتأمل يستنتج ، في ضوء مقاربة هذه الرؤية العميقة ، بأن تعدد اللهجات في لغتنا ـ رغم ما يشكله من ثراء من ناحية ـ  له أسبابه التي تكمن في تفاوت التطور التاريخي بين منطقة وأخرى ، وقد ساهمت عوامل عدة في إنتاج هذا التفاوت وإستمراريته ، منها مثلاً : الجغرافيا الطبيعية لكردستان ، خصوصاً تضاريسها  التي لعبت دوراً سلبياً على هذا الصعيد وعمقت من هذا التفاوت أولاً ، و الظروف السياسة المجزئة لكردستان من جهة والهيمنة الأجنبية عليها من جهة أخرى ، والتي ساهمت بدورها في صيرورة هذا التفاوت ثانياً ، و تأخر ظهور البرجوازية الكردية ، هذا التأخر الذي لعب دوراً مميزاً في ديمومة التفاوت من خلال كبح نمو الوعي القومي ثالثاً ، واليافطة الاسلامية التي حملت في تضاعيفها بذورتنويم الكرد لمئات من السنين والتي إستغلتها الأنظمة المستبدة التي كانت تتمسح برداء الاسلام أيما إستغلال رابعاً .

                                                    
        فقد كانت الكرمانجية ، هي اللهجة التي كتبت بها رائعة الكرد( مم و زين) وأشعار الجزيري وغيره ، مثلما أضحت السورانية لاحقاً ، هي اللهجة التي كتبت بها إبداعات شتى ، ستظل مبعث الفخر للكرد جميعاً .

لكن ، هذا يجب ألاَ يدفعنا الى التخندق أو تسييس الأمور ، بل يتوجب علينا جميعاً أن نتحلى بنفس تاريخي ، كيلا تهدر طاقاتنا في معارك هامشية ، فأنا على يقين من أن الكثير من مثل هذه الاشكالات اللغوية ، عانت منها أمم وما زالت هناك أمم تعيش في الجوار تسعى مثلنا جاهدة لتجاوزها ، إلا أن المستقبل كفيل بإيجاد الحلول الناجعة لها بكل تأكيد ، سيما اذا ما استطاع الكرد تقرير مصيرهم بأنفسهم .

كما أنني في الوقت نفسه أدرك تماماً مدى تمسك كل منا بلهجته وأبجديته التي تربى عليهما وهو صغير، ولكن هذا الأمر لايبرر أن تكون ولادة اللغة المعيارية المتوخاة قيصرية .
       لا أغالي إن قلت : أن البعض يحسن إستغلال مساحة الحرية المتاحة له في إقليم كردستان العراق أو في المهاجر، ويقتنص الفرصة المواتية للإنقضاض على المتألق في ماضينا ، كما أنني لا أخفي مشاعر الريبة التي تنتابني ، حيث أكاد أشم رائحة نتنة تنبعث من دعوات بعض المثقفين الكرد أو أدعياء الثقافة هنا وهناك وأقدر تداعياتها الخطيرة مستقبلاً ، كما أتوجس هلعاً من تلك الخلفيات التي تضمر شراً لنا جميعاً والتي تدفع ( فرهاد شاكلي) وأمثاله ـ وهم بالمناسبة يتواجدون في كل زمان ومكان ـ لتشويه تاريخ البدرخانيين ، ممن تميزوا بنكران الذات في سبيل قضيتهم العادلة ، وفق إيقاع وسيناريوهات تعد في الخفاء ، والتاريخ يشهد على ما أقول …..

فصبراً يا آل بدرخان ! 

         قامشلو ـ 4/7/2007م   

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في الوقت الذي تشهد فيه الساحة الكردية السورية جُهوداً متقدمةً لتوحيد الصفوف من خلال عقد “كونفراس ” كردي جامع يضم مختلف القوى السياسية والمنظمات المدنية والفعاليات المجتمعية، بالتوازي مع الاتفاق المبرم في العاشر من آذار بين قائد قوات سوريا الديمقراطية وحكومة أحمد الشرع الانتقالية، تفاجأ المواطنون في مناطق “الإدارة الذاتية” بقرارٍ غيرِ مدروس ، يقضي برفع…

عزالدين ملا بعد ما يقارب عقد ونصف من الحرب والتشظي والخذلان، وبعد أن استُنزفت الجغرافيا وتفتتت الروح، سقط بشار الأسد كأنّه خريفٌ تأخر كثيراً عن موعده، تاركاً وراءه بلاداً تبدو كأنها خرجت للتو من كابوس طويل، تحمل آثار القصف على جدرانها، وآثار الصمت على وجوه ناسها. لم يكن هذا الرحيل مجرّد انتقال في السلطة، بل لحظة نادرة في…

إبراهيم اليوسف ليس من اليسير فهم أولئك الذين اتخذوا من الولاء لأية سلطة قائمة مبدأً أسمى، يتبدل مع تبدل الرياح. لا تحكمهم قناعة فكرية، ولا تربطهم علاقة وجدانية بمنظومة قيم، بل يتكئون على سلطة ما، يستمدون منها شعورهم بالتفوق الزائف، ويتوسلون بها لإذلال المختلف، وتحصيل ما يتوهمونه امتيازاً أو مكانة. في لحظة ما، يبدون لك من أكثر الناس…

د. محمود عباس   في زمنٍ تشتد فيه الحاجة إلى الكلمة الحرة، والفكر المُلهم، نواجه ما يشبه الفقد الثقافي العميق، حين يغيب أحد الذين حملوا في يومٍ ما عبء الجمال والشعر، ومشقة النقد النزيه، إنها لحظة صامتة وموجعة، لا لأن أحدًا رحل بالجسد، بل لأن صوتًا كان يمكن له أن يثري حياتنا الفكرية انسحب إلى متاهات لا تشبهه. نخسر أحيانًا…