إبراهيم اليوسف
بينما يراقب العالم برمته- وبفارغ صبر- نتائج الاستفتاء على استقلال كردستان والذي سيتم في أواخر شهر أيلول المقبل، حتى وإن لم يتمَّ الإعلان عن ذلك، على نحو مباشر، نجد أن عواصم أخرى للدول التي تتقاسم خريطة كردستان الكبرى- علاوة لدور أبعاض شوفينيي بغداد- تنتج ماكناتها بعض الدفوعات التي لم تعد تصمد لمواجهة هذا الحدث التاريخي، من خلال اللجوء إلى تفاصيل بعض السّرديات التي تتم صناعتها عبر دورة متكاملة: خارجية داخلية، في محاولة لكبح جموح هذا المشروع، ومن بينه التحدث عن وجود دواع أخرى وراء فكرة الاستقلال، وكأن الفكرة راودت مخيلة معلنها الرئيس مسعود البارزاني منذ أن غدا رئيساً للإقليم، وليس أنه- ككردي- رضعها مع حليبه، أو ولدت معه، بل وليس لأنها كانت الحلم الذي يراود مخيلة والده القائد الراحل الملا مصطفى بارزاني نفسه…!؟
لن أتوقف عند هاتيك النقاط التي يشير إليها هؤلاء، وذلك لأنها عرضية، إذ إن استقلال كردستان، في حقيقته، أكبر من التفاصيل الصغيرة التي يتمترس وراءها هؤلاء، بل هي أكبر من مجرد شخوص مهما كانت أوزانهم، لأنها حق ومصير شعب كردي تم تقاسم خريطته من قبل أربع دول، بموجب مباركات واتفاقات الدول المُهيمنة على القرار العالمي آنئذ، من دون أن يرفَّ لأحد من هؤلاء جفن.
من هنا، لم تولد فكرة الإعلان عن الاستقلال نتيجة أوضاع داخلية تتعلق بالإقليم، بل إنها امتداد لمشروع كردستاني انطلقت لأجله ثورة البارزاني، بل وما قبل ثورته من انتفاضات وثورات، وكان ثمن ذلك أرواح مئات الآلاف من الشهداء، وكان أن قبل الكردستاني بالشراكة مع الآخر، شريطة أن يخلص لها، دون جدوى، إلا أنه وجد أن الشوفينية تجاه حرية وجوده وقراره وشخصيته هي صفة ملازمة للدكتاتور، وللمناهض له، ولا يتخليان عنه، بل يمارسانه على نحو واحد، إذ في إمكان الثاني استنساخ تجربة الأول في العمل على إبادته.
بالرغم من وجود قلة من النخب السياسية غير الكردية لا تفتأ، تعلن، عن حق الإقليم في الاستقلال، مقابل وجود من يتخذ هذا الرأي ضمن شروط لا علاقة لها بحقوق الأمم في تقرير مصيرها، فإن هناك من ينظر لمعاداة الفكرة على نحو صريح، مركزاً على هاتيك الذرائع: الخارجية منها والتي تتجلى- على حدود أقوالهم بعدم مباركة الدول الكبرى من جهة، وردود فعل الدول التي تقتسم خريطة كردستان من جهة أخرى. أما الداخلية منها فهي لا تتعدى حيز الرهان على الكوابح الداخلية، سواء تلك المرتبطة بأجندات خارجية، وهي الخطيرة أو تلك التي تنطلق من مصالح ذاتية ضيقة تتأتى لها من حكومة بغداد أو حتى تلك التي تنطلق من مخاوفها التي نشأت بسبب الثقافة التي تربت عليها، أو حتى التي تنطلق من داع وجداني مبني على ثقافة الارتباط التاريخي، على ضوء إرث نضالي مشترك وهو نفسه سر ديمومة الكردي مع شركائه: الفرس- الترك- العرب، ضمن بوتقة العامل الديني الذي لم يلتزم به هؤلاء الشركاء، وانقلبوا عليه، وعدوا هذه المشاعر مثلبة على الكردي لا مأثرة له..!؟.
ثمة حقائق اتضحت خلال المئة عام وعام مضى على اتفاقية سايكس بيكو 1916والتي انبثقت عنها اتفاقية لوزان 1923 التي نسفت معاهدة سيفر1920، وهي أن هناك خللاً كبيراً في البنية الطبيعية لمنطقة الشرق الأوسط، برمتها، في غياب أحد مُكوّنات هذا الفضاء، وهو: كردستان، إضافة إلى أمر مهم، وهو عقدة تأنيب الضمير الغربي المفترضة تجاه جريمة حرمان الكردستاني من دولته الكبرى، ناهيك عن أمر آخر، وهو أن النخب القومية المستبدة في الدول المقتَسِمة لخريطة كردستان إذا كانت قد استفادت من وجود ما سمته ب”الخطر الكردي”، أو القنبلة الموقوتة، أو- براميل الديناميت حول دمشق كما قالها بشار الأسد عن الكرد السوريين في مقابلة صحفية أجريت معه من قبل صحفيين غربيين ونشرت في موقع- كلنا شركاء- بعيد انتفاضة 2004، وهذا كان يتم توظيفه للاستفادة منه من ناحيتين، أولاهما ديمومة الدكتاتورية، وثانيهما ممارسة انتهاك الحريات والقمع، وهو ما وجدناه لدى الطغم الحاكمة في تلك العواصم.
ديمومة حالة الَّلادولة الكردستانية بلغت أقصى درجاتها، إذ إنها تجاوزت قرناً كاملاً، من دون أن تتأسس دولة كردستان، وهي الحد الأعظمي لديمومة الخلل الطبيعي، وقد آن الأوان لرفع هذا الظلم المجحف، لاسيما إن إرادة الكردستاني لم تلن، في سعيه الدؤوب لإيجاد دولته، كلما ازداد استبداد الدكتاتوريات التي تحكم مكانه بالحديد والنار، كما أنه- في المقابل- لم يتمكن العقل المتفهم لشراكة الكردي أن يوسّع دائرته، وأن يرتقي بمن حوله إلى مستوى روح هذا الكائن الذي قبل بالشراكة، ونأى عن العنف، إلى أن بلغ مرحلة اليأس، والعجز.
وبالرغم من التناقضات الرهيبة بين هاتيك الدول المقتسمة لكردستان، فإن شوفينيي نخبها السياسية والثقافية لا يخرجون البتة عن قرارات الدكتاتوريات التي سعى بعضهم للثورة عليها، إذ إنهم يتمترسون وراء خطط هؤلاء الطغاة ونذكر هنا اتفاقات الجزائر1975 واتفاق أضنة 1998. إلخ. هذه الاتفاقات التي انبثقت عنها اتفاقات الدول الأربع، واستمرارية اجتماعات لجانها الأمنية لترك أية خلافات في مواجهة أي تطلع كردستاني، في أي جزء من هذا الوطن السليب.
إن-التكالب- على محاولة إفشال هذا المشروع” أو العقدة الأتاتوركية أصلاً بترجماتها المتعددة” تتأتى من أبعاد عديدة، منها ما هو مزمن، ومنها ما هو مستجد، وهو في النهاية نتاج ثقافة الدونية المستعاض عنها بالاستعلاء على الآخر، ومن البدهيِّ إدراك أن تلك النخب كلها شريكة في ميراث اغتصاب مهاد الكردستاني، والمسؤولية عن ذلك، بل وصناعة منصات عدائية جديدة لتلك التركة غير المشرفة، ناهيك عن أن جميع هؤلاء شركاء في استمرارية الجور على الكردي، أو حتى إعداد جبلة ثقافة الكراهية ضد الكردي وكردستانه، ومن بينها كل ما يترتب على ذلك من نتائج كارثية، وهي لا تستطيع- بكل أسلحتها من تغيير مجرى التاريخ، إذ إن ولادة كردستان حرة مستقلة وشيكة، وهي أقرب للعين من الحلم، والمخيلة، والعقل، والجفن..!
يتبع
صحيفة “كوردستان” العدد 565 – تاريخ: 1-8- 2017