دقيقة حزن واحدة فقط على رحيل الملا علي

ابراهيم محمود
ما الذي يمكن قوله في رحيل الملا علي البارحة ” 20-7/ 2017 “، أكثر من عبارة ” رحيل الشخصية الكردية الوطنية والحافظة الكبيرة لشعراء الكرد الكلاسيكيين، والجامع بين كونه ملا والسياسي فيه ؟ “. في الحقيقة، ذهبت أبعد من ذلك، وصححت ما قبل ذلك، إذ إن كل من يعيش كرديته ويعلنها، ويحرص على كرده وإنسانيته يكون مناضلاً وطنياً كردياً وإنسانياً، بمقدار ما يكون سياسياً، أما أن يكون الملا علي، وهو بجلبابه ” الفقّاوي “وعقاله وسلكه” جتايته “، وهدوئه وقدرته اللافتة على إسماعنا قصائد كبار شعرائنا الكلاسيكيين: ملا جزري وخاني وجكرخوين…، ففي ذلك ما يستحق الكتابة، الكتابة في هدوئه، وفي محياه، وهو يتقدم أغلبية ” ملالينا  ” الكرد، ويبقي الكردي أكثر من كونه الملا خلافهم.
أحسب أن الكتابة عن الملا علي  وهو في عمره المكدود، وهو في حلمه المكدود، وهو في كرديته المكدودة المحمولة بين جنبيه، وهو الباحث دائماً عن وجوه شبابية وكل مشهد جماعي يأتي على ذكر الكردية بأدبها وشعرها، وهو يعيشها بوجدانه، كما لو أن الملا علي الراحل على غفلة ودون غفلة في آن، كان يريد تجديد شبابه الذي لا يعود، كما لو أنه يريد منازلة الحياة حين يتواجد وسط أي تجمع أدبي، ثقافي سياسي كردي، ليظهِر لمن أراد الاختلاء بـ” ملاويته ” أن لا صلة لها بالكردية كما يُظَن، إنما الكردي بتعريفه هو أن يعرَف باسمه وكونه الكردي، وهو يتفاعل مع الحياة في الخارج ليؤاسي داخله المعذّب.
لم ألتق الملا علي إلا قليلاً، سوى أنني أحسب أن مجرد النظر إليه وابتسامته الحيية، ونظرة عينيه التي تحتفظ بشعاع مقاوم في العمق، كان يترجم الكثير من السعي إلى الحياة وانتظار من يسمعه ما يطيّب خاطره، من يريه كردية عاشها في بساطتها، وأن حزبيته لم تحل دون تواجده في أمكنة كثيرة، وهو بجسمه الذي كان يثقِل عليه كثيراً، إلى أن غادر الحياة بعيداً عن مسقط رأسه، عن بيته البسيط والمتواضع قامشلو، ودع الحياة في دهوك، وفي روحه حسرة من الكردية التي أرادها وابتغاها واصطفاها لنفسه، وهو لا ينفك يُسمِع من يلتقي به إن سنحت الفرصة ما يثبته في المكان، وما يبرهن بالصوت والصورة أن هذا الـ” ملا علي ” الذي يتقصف بجسمه تحت وطأة سنّي العمر، وسوء الأحوال ” الكردية ” ومناخات الكردية المضطربة، ليس هو الذي يكون في داخله، إنه الكردي الذي يُسمّي كرديته دون مقدمات، ودون عراضات، كردية صريحة كثيرا، لا يخطئها نظر المسكون بتاريخ الكردية وجغرافيتها.
لعله مثّل في حياته الكثير من الكرد المقيمين في الحياة رغم ضراوتها، أن يُغْني روحه بتاريخه، وكان هواه شعر من يستمرون في الوجود: ملا جزير، خاني، جكرخوين، والكردي دون الشعر معادلة عرجاء كما يظهر، والملا علي لم يدّخر جهداً في نقل مشهد التعليم الديني بتجويده وتراتيله إلى فضاء الشعر الكردي المغنى، وكأنه أراد أن يحرّر الكردي المقيّد بهذا التقليد الديني الضيق، ويمنحه حرية التحليق بروحه وهي كردية.
أحسب أن الملا علي، لو أقيم عليه الحِداد لدقيقة واحدة، دقيقة واحدة فقط، وهو يمثُل أمام النظر، لعرِف مدى غناه، غنى موقعه الإنساني، الذي لم يكن له كتاب، وإنما يستحق أن يكون هو كتاباً مفتوحاً في وضع مثل وضعه، وأن يدرَك في بنية هذه الدقيقة الواحدة، أن من القليل بمكان إيجاد من يُسمع كرديّه صوت من ذكرت من خلال أشعارهم، ونوع الحياة المحتفى بها من خلاله، وهو موضوع لأكثر من قراءة وجدانية، تعلّم دون قراءته في كتاب، إنما كما هو بوهنه الكبير خارجاً، وغناه الكبير داخلاً. هل حاولتم التفكير في الملا علي ورحيله من هذه الزاوية، أي ممن التقى به ولو لمرة واحدة فقط ؟
دهوك، في 21-7/ 2017 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…