مصطفى أوسو
يعني الحق في تقرير المصير، أن يكون لكل شعب السلطة العليا في تقرير مصيره بنفسه دون أي تدخل. ويرجع تاريخ المناداة بهذا الحق إلى سنوات بعيدة مضت، حيث تناوله المفكرين والفلاسفة بالحديث وكان أحد المبادىء الهامة التي نادت بها الثورة الفرنسية، فهي أول من أشارت إلى هذا المبدأ، وأعلن زعماءها عن استعدادهم لمساندة الشعوب المتطلعة لتحقيق حقها في تقرير المصير. ورغم أن مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، حظي بتأييد الرئيس الأمريكي ويلسون بعد سنة 1916 كما كان واحداً من المبادىء التي وردت ضمن نقاطه الأربع عشرة التي أعلنها سنة 1918 وتضمنه أيضاً إعلان السلام الذي أصدرته الحكومة السوفيتية غداة ثورة أكتوبر سنة 1917 الذي أقر لكافة شعوب الإمبراطورية الروسية بحق تقرير المصير،
ثم أعلنه لينين سنة 1920 فيما يتعلق بكل حركات التحرر في المستعمرات، فإن عهد عصبة الأمم المتحدة، جاء خلواً من النص على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، واكتفى بإقامة نظام الانتداب بوصفه نظاماً دولياً لإدارة المستعمرات التي تمت اقتطاعها من الدول المهزومة في الحرب العالمية الأولى، وخاصة تركيا. أي إن المبدأ لم يعترف به إلا في حدود عدم المساس بمصالح الدول المنتصرة.
وفي فترة ما بين الحربين، بدأت الدول تبدي اهتماماً متزايداً بمبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، وتضمنت معاهدات الصلح التي عقدت بعد الحرب العالمية الأولى عدداً من النصوص التي تسلم بمنح بعض أقاليم القارة الأوربية الحق في تقرير مصيرها، ومع أن هذه المعاهدات قد تضمنت بشكل أو بأخر، الاعتراف بحق تقرير المصير وممارسته، فإن الشك بقي قائماً حول القيمة القانونية لهذا المبدأ والموضع الذي يحتله كأحد مبادىء القانون الدولي الوضعية في فترة ما بين الحربين العالميتين. وقد غلبت النظرة إلى حق تقرير المصير كمبدأ سياسي من جانب غالبية الفقه، وسط محاولات من جانب آخر لاعتباره مبدأ قانونياً استثنائياً يطبق في أضيق نطاق. وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية عاد إلى مبدأ حق تقرير المصير حيويته وحظي باهتمام كبير من مختلف شعوب دول العالم، ووجد سبيله إلى تصريح الأطلنطي الذي أعلنه الرئيس الأمريكي روزفلت ورئيس وزراء بريطانيا تشرشل في 14 آب 1941 وجاء فيه أنهما: ( لا يسعيان إلى أي توسع إقليمي ويحترمان حق الشعوب في اختيار نظم الحكم التي تروق لها )، ثم ورد النص عليه أيضاً في كافة التصريحات التي صدرت بعد ذلك، وخاصة تصريح الأمم المتحدة في أول كانون الثاني سنة 1942 وتصريح موسكو في 10 تشرين أول سنة 1943 ولقي قبولاً كاملاً في مؤتمر دومبرتون أوكس سنة 1944 ومؤتمر يالطا في 3 شباط سنة 1945 وبصدور ميثاق الأمم المتحدة سنة 1945 جاء ذكر مبدأ حق تقرير المصير مرتين، الأولى: في الفقرة الثانية من المادة / 1 / وهي الخاصة بأهداف الأمم المتحدة، والتي تجعل تطوير العلاقات الدولية بين الأمم على أساس مبدأ المساواة في الحقوق وتقرير المصير ونصها: ( إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير اللازمة لتعزيز السلم العالمي )، والثانية: وردت في مجال استعراض أسس التعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي، فنصت المادة / 55 / على إنه: ( رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سلمية وودية بين الأمم مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، تعمل الأمم المتحدة على:
1- تحقيق مستوى أعلى للمعيشة لكل فرد والنهوض بعوامل التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي.
2- تيسير الحلول للمشاكل الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية وما يتصل بها، وتعزيز التعاون الدولي في أمور الثقافة والتعليم.
3- أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء، ومراعاة تلك الحقوق والحريات فعلا”).
وبصفة عامة فإن نصوص الميثاق من 11-13والتي تتعلق بإدارة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي وأقاليم الوصاية تزكي فكرة تقرير المصير كمبدأ قانوني في إطار الأمم المتحدة بطريق غير مباشر، كما تؤكد وجود الحق وضرورة احترامه على المستوى الدولي. وقد توالت قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة والمواثيق الدولية المختلفة، مؤكدة مبدأ حق تقرير المصير وحق الشعوب في التحرر من كل صور الاستعمار وتصفيته بشكل نهائي، ويمكن تلخيص المبادىء التي جاءت بها هذه القرارات فيما يلي:
1- تقرير المصير ليس مجرد مبدأ سياسي يجوز إهماله وإنما هو حق قانوني، بل هو من أهم حقوق الإنسان وواحد من قواعد القانون الدولي اللازمة للتعاون بين الدول وقيام علاقات ودية بينها.
2- تقرير المصير حق لجميع الشعوب بما فيها شعوب الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي والمشمولة بالوصاية.
3- كلمة الشعب هنا تعني مجموعة الأفراد الذين يقطنون إقليماً محدداً، أي سكان الدول، أو سكان الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، أو سكان الأقاليم غير المشمولة بالوصاية أو سكان المستعمرات الأخرى التي رفضت الدول المستعمرة إدخالها في الصنفين السابقين، وحق تقرير المصير هو حق أغلبية السكان لا حق الأقلية.
4- بالنسبة للشعوب المستعمرة حق تقرير المصير يعني إما الاستقلال الناجز أو الانضمام إلى الدولة الوصية أو الانضمام إلى دولة مجاورة.
5- يمارس حق تقرير المصير بواسطة الاستفتاء الشعبي المباشر وعلى أساس ” لكل إنسان صوت واحد ” ويفضل أن يتم الاستفتاء تحت إشراف الأمم المتحدة.
وإذا كان دور الأمم المتحدة من خلال قرارات جمعيتها العمومية، أنصب أساساً على صياغة مفهوم تقرير المصير، فقد ذهب أبعد من ذلك مؤكدة القيمة القانونية لمبدأ تقرير المصير من خلال إبرام الاتفاقات الدولية في هذا الشأن، فقد أمكن للأمم المتحدة أن تبرم اتفاقيتين في مجال حقوق الإنسان كان لهما أثر كبير في إرساء دعائم مبدأ تقرير المصير، وهي: الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية والبروتوكول الاختياري الملحق بها، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويلاحظ إنه في كل من الاتفاقيتين النص الصريح على مبدأ حق تقرير المصير.
وهكذا يمكن القول إن حق تقرير المصير يعد اليوم أحد المبادىء الأساسية التي يستند إليها التنظيم الدولي المعاصر، كما أصبح من الحقوق الأساسية للشعوب فهو الشرط الأساسي الأول لكافة الحقوق الإنسانية الأخرى، إذ بدون هذا الحق لا يمكن للجماعات ولا للأفراد أن تحس بالحرية. ولقد ساهمت الأمم المتحدة إلى حد بعيد في تدعيم وترقية مبدأ تقرير المصير من خلال القرارات والإعلانات والتصريحات التي عززت القواعد التي يرتكز عليها المبدأ وأدت إلى الارتقاء بالحق وتأصيل المفهوم القانوني لاستخدامه.
نستطيع اليوم أن نقول إن حق تقرير المصير، بجهود الأمم المتحدة، قد وصل إلى مرتبة الحق القانوني الدولي الذي يستند في شرعيته إلى ميثاق الأمم المتحدة وقرارات جمعيتها العمومية والمواثيق الدولية العديدة التي تبنتها، بالإضافة إلى الممارسة العملية الفعالة لهذا الحق خلال السنوات الماضية من عمر الأمم المتحدة.