الدكتور مرشد معشوق الخزنوي
نستكمل في ذكرى شيخ الشهداء نستلهم الدورس والعبر، حيث عبر في العديد من المناسبات والاجتماعات والمؤتمرات عن هواجسه تجاه شعبه وأمته التي في شقاق، وفي ظل هذا الشقاق كانت الفرقة والاختلاف سيد المواقف في حركتنا ونخبنا السياسية بل وحتى الاجتماعية والدينية ، وبالتالي كان شيخ الشهداء مدعواً دائما لرأب الصدع وجمع الشتات ، وكان يرى أن استمرارنا بهذه التفرقة والاختلاف يضيع الكثير ليس على أنفسنا بل حتى على الأجيال اللاحقة .
وفي سبيل جمع الشمل وتوحيد الصفوف ، وتوحيد الأهداف ، وتكاتف الاعمال كان شيخ الشهداء يورد قصة موسى وهارون عليما السلام فيقول :
خلق الله الباري الخلق لمهمتين عظيمين توحيده وإعمار هذا الكون ، وكان من اعظمها مهمة توحيده سبحانه ، وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له فقال ربنا: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : 56 ]، ولهذه المهمة تتالى إرسال الرسل من قبل المولى عز وجل ، وخلال تتالي الرسل تشع قصة كليم الله موسى عليه السلام، ومما سجله لنا القرآن الكريم من سيرته حينما ذهب لمناجاة ربه ، استجابة لوعد الله تعالى، الذي واعده ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة، يقول المولى : ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [ الأعراف : 142 ] ، وأخلف في قومه أخاه وشريكه في الرسالة هارون عليه السلام، وقال له: ﴿ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف:142]
وفي غيبة موسى عليه السلام فُتن قومه بعبادة العجل الذي صنعه لهم السامري، ﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ﴾ [الأعراف:148]، فلما رجع موسى إلى قومه، فوجئ بهذا الانحراف الكبير الذي يتصل بجوهر العقيدة التي بعث بها هو، وبعث بها كل الرسل من قبله ومن بعده ألا وهو توحيد المولى عز وجل وأفراده بالإلوهية والربوبية لا شريك له .
وهنا غضب موسى، وألقى الألواح ، ألواح التوارة ، وأخذ برأس أخيه هارون خليفته يجره إليه، يعاتبه ويلومه وقال: ﴿ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ [طه: 92- 93]، وهنا ما اريد أن الفت الانظار اليه ، ونستوقف عنده ، عند جواب نبي الله هارون حيث قال : ﴿ قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه: 94] ،
وهي إجابة عظيمة كبيرة كيف أن نبي الله هارون غض الطرف عن الشرك ، وعبادة العجل ،في ظل أن محاربتها هي مهمته الأساسية ، حفاظاً على وحدة الجماعة، وخشية من تفرقها.
هذه الخشية من التفرق التي خشيها شيخ الشهداء ، وحرصه على جمع الشمل وتوحيد الصفوف ، فلإنها إحدى المهام التي كلف بها الأنبياء والمرسلين ، قال الله تعالى : ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]، كما وقد جعلها المولى عز وجل سبباً للفشل والضياع فقال : ﴿ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: من الآية46] .
ولعل من أوائل الحكم التي تعلمناها جميعاً بلا استثناء في المدارس منذ نعومة الأظفار أن الاتحاد قوة والتفرق ضعف، وكانت القصة المشهورة قصة حزمة العصي التي عجز الجميع عن كسرها مجتمعة وبمجرد فكها كان من الهين تماما كسر كل عصا على حدة.
وهذه الوحدة التي كان ينادي بها شيخ الشهداء ، ليست دعوة غوغائية ، فإن الاختلاف في كثير من الأمور لها من المحاسن والفضائل الشيء الكثير ، والخلاف أمر طبيعي بين البشر أراده الله ليؤدي بها مهمتهم العظيمة من خلال تمتعهم بالحرية وتحمل مسؤولية وجودهم وإثراء الحياة بمواقفهم المختلفة، فالله إذ جعل الإنسان خليفة في هذه الأرض فلا يمكن أن تتحقق تلك الخلافة بدون حرية وإردة وعقل أناط بها مسؤولية الإنسان، فكان الاختلاف والتميز بذلك حقا شرعياً للإنسان، ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [ هود : 118] ولكنه لم يشأ أن يجعلهم رأياً واحداً ، وعقيدة واحدة ، وقالباً واحداً ، ونسخاً متطابقة ، بل أراد أن يتميز كلهم بشخصية متفردة بخصائصها تساهم من موقعها في إثراء الحياة ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [ هود : 118] ، لكن شيخ الشهداء كان يدعو الى وحدة الصف لا الى وحدة العمل والنشاط ، كان يدعو الى توحيد الهدف لا الاسلوب ، وحدة الصف لا وحدة الرأي ، وللأسف هذا ما تعذر علينا ، ومالم نستطع تقبله لا في حركتنا السياسية ولا بين مشيخاتنا الدينية .
وبات شق الصف الكردي اليوم ، واختراق الجبهة الداخلية ، بات سلاحاً في يد قوى العدوان والظلم تجاه الشعب الكردي ، وصار إبطالَ مفعول هذا السلاح ضرورةٌ مُلحّة لا تستوجب أي تأخير ، حالها حال التصدي للغزاة والمرتزقة في الجبهات، وأعتقد أن هذا الأمْرَ بديهياً ولا يعد اكتشافاً جديداً.
وببساطة شديدة لا تحتاج المسألةُ لكثير من الجهد، فمَن يعمل بأية طريقة أو أسلوب على مساعدة قوى الظلم وسلب إرادة هذا الشعب على شق الصف الداخلي ، واستهداف وحدة الصف ينطبقُ عليه ذاتُ الوصف الذي يُطلَقُ على المرتزقة الذين يقاتلون في صف العدوان، فالنوعان من هؤلاء يقدمان العون لقوى العدوان والظلم لتحقيق أهدافها الشيطانية في كردستان التي قدم الكرد آلاف الشهداء والجرحى وتحملوا الكثير من التبعات لمنع تحقيق تلك الأهداف.
إن وحدة الصف التي نادى بها شيخ الشهداء معشوق الخزنوي وحدة في تنوع ، وتنوع في وحدة ، مما يجعل مثل هذا الاختلاف رحمة إذ تجتمع بقبوله شتى الطاقات ، وتساهم كلها بإتلاف مواهبها في إثراء الحياة وتقدمها، فيغدو المختلفون وكأنهم يتنافسون في لعبة متفقين على قواعدها بعيداً عن كل تحزب صلب وتعصب أعمى وفرض ألوهية مذهبية أو حزبية أو اجتماعية.
اختلاف لا تنفر القلوب كما هي اليوم ، وكثيراً ما قرأنا في تاريخنا كيف نختلف لكنها بقيت عندنا مجرد قصص تروى ، فقد خالَفَ ابنُ عباسٍ زيدَ بنَ ثابِتٍ في بعضِ المسائِلِ، ورغمَ هذا الخِلافِ فقد كان ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما يأخُذُ بخِطامِ ناقَةِ زَيدٍ ويقولُ: هكذا أُمِرنا أن نفعَلَ بعُلمائِنا وكُبَرائِنا، وكان زَيدٌ رضي الله عنه يُقبِّلُ يدَ ابنِ عباسٍ ويقولُ: هكذا أُمِرنا أن نفعَلَ بآلِ بيتِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا النهج سار التابعون وتابِعُوهم عند اختلافهم ، فحفظوا حقوق الأخوة التي تجمعهم ، وعندما تلقي نظرة على مؤسسي المذاهب الفقهية تجد أن الإمام الشافعي خالف كثيرا أبا حنيفة ، لكن ذلك الاختلاف لم يمنع الشافعي أن ينصف أبا حنيفة فيقول ” الناسُ في الفِقهِ عِيالٌ على أبي حنيفَةَ” .
وقال يُونسُ الصَّدفِيُّ: ” ما رأيتُ أعقلَ مِن الشافعِيِّ، ناظَرتُه يومًا في مسألةٍ ثم افتَرَقنا، ولقِيَني، فأخذَ بيَدِي ثم قال: يا أبا مُوسَى! ألا يستَقِيمُ أن نكون إخوانًا وإن لم نتَّفِق في مسألةٍ؟!”.
هذه الأمثلة القيمة والرائعة بعد إيراد الكثير منها يشير شيخ الشهداء الى ما املئت به القلوب فيقول ” وللأسف الشديد نحن بعيدون عن كل ذلك الرقي ، نعم يشهد التاريخ القديم والمعاصر كله على صمود الكورد، وتقديمهم الغالي والنفيس فداءً لقضيتهم، وتسابقهم للجهاد في سبيل الله، رغبة في تحرير وطنهم وأرضهم من دنس الظلم ، وإعلاء كلمة الحق، غير أن التاريخ نفسه يشهد للكورد عجزهم عن الجهاد الاكبر الأقل جهداً والأكثر تأثيراً ألا وهو جهاد النفس، والصبر على أذى البعض منهم، ولم الشمل، والائتلاف من أجل الوقوف أمام العدو صفاً واحداً كالبنيان المرصوص ، وذاك الذي قال عنه إبراهيم بن عيلة كما اوردخ الحافظ بن حجر في (تسديد القوس في تخريج مسند الفردوس) “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر: جهاد النفس” هذا الجهاد لا أقول الذي يجهله الكورد وبالاخص ساستها ، بل هذا الجهاد الذي تجاهله الكورد وخاصة في الساسة منهم ، في ظل حيرة المواطن الكوردي المغلوب على أمره الذي ابتلي بهذا البلاء ، وتدور في رأسه ألف سؤال وسؤال.. الخوف في عيونهم.. وأياديهم على قلوبهم ، خوفاً من مجهول قادم.. والألسنة تلهج بالدعاء: “اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا”.
وهنا يشير شيخ الشهداء الى اسلوب التفرقة في مجتمعنا فيقول : ” اشتباكاتٌ تدوي وتعلو..وازيز معركة .. نعم ليست بالرصاص ، لكنها لغة غريبة هي التخوين والتعميل ، ولا شيء يدفع للتفاؤل ، والكل رفع شعار: “الصمت أبلغ”.. والآخر ردد: “وماذا يُجدي الكلام؟”.
هذا الاسلوب من اساليب التفرقة والتشرذم الذي يشير إليه شيخ الشهداء نعايشه كل يوم بل كل لحظة ، وشخصياً لا أرى في الأفق ما يشير إلى انحسار أو تقلص فكرة التخوين والتعميل في الساحة السياسية الكوردية على المدى القريب ، وتعود هذه النظرة إلى عدد من الأسباب من أهمها أن جذر التخوين والتعميل في التراث الكوردي ممتد إلى مسافات بعيدة ويشكل أساساً مهماً في تشكيل الاحزاب السياسية منذ نشأتها الأولى ، و من يطلع على تاريخ النشأة الأولى لها يطلع فيها على كم هائل من التخوين والتعميل المتبادل بين الاحزاب المختلفة ، والغريب ان كل حزب يخون الآخر بنفس الحجج تقريبا.
إن كان الأمر بهذا الشكل وبهذه الخطورة ،فإن مشكلة التخوين والتعميل المستمرة تحتاج إلى وقفة جادة ، وعلاج سريع دون إهمال ، وعلينا أن نحافظ على صورة هذا الشعب الأصيل.. هذا الشعب المقاوم ، في المسارعة بالجلوس إلى طاولة الحوار ، وديمومة اللقاء ، ونبذ العنف والفرقة ، والتوافق على الثوابت ، وإعذار كل منا للآخر فيما نحتلف فيما عدى جوهر القضية ، ولنفهم قول هارون عليه السلام الذي سبق وأن أشار إليه شيخ الشهداء ، خصوصاً في ظل هذه الظروف الصعبة من التاريخ الكردي الذي جمع الاعداء كيدهم ضده ، وحتى نستطع مواجهة التحديات التى تحاصرنا من كل اتجاة ، فإن أمتنا وقضيتنا تمر هذه الأيام بمرحلة عصيبة، وبفترة مخاض قد تنقلها إلى عهد جديد بكل تأكيد .
هذه صرخة ادويها باسمي ونيابة عن كل كوردي شريف علها تصل الى مسامع ساستنا والى ان يسمعوها ويعوها نتضرع الى المولى ” اللهم الف بين قلوبنا “
رحمك الله شيخنا معشوق الخزنوي وأعلى الله مقامك في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، سلام عليك يوم ولدت ، وسلام عليك يوم استشهدت في سبيل ما تؤمن به ، وسلام عليك يوم تقف امام الرب القادر تقتص من ظالميك .