جان كورد
الفكر، تحديد المفاهيم الأساسية المستنبطة من الفكر، تثبيت الأهداف وأولويات العمل لتحقيقها، الخطط التي يجب وضعها للخروج من المشروع بنجاح ملموس. وهذا ما نسعى له ونأمل الوصول إليه من خلال ما نطرحه من رؤية متواضعة على كل الناشطين في حراكنا السياسي – الثقافي في غرب كوردستان وفي المهاجر.
ظهرت في برامج الأحزاب الكوردية السورية مع الأيام أطروحات ذهبت إلى أبعد من “الإدارة الذاتية”، وبدأ الشارع الكوردي يتهم الأحزاب في وقتٍ متأخر بالتقصير في الجانب القومي لنضالاتها، وشرعت مجاميع طلابية وبعض المثقفين الداعمين لها بالمطالبة بإعلان الوجه الكوردستاني للحركة السياسية ووضع نقاط محددة تؤكّد على كوردستانيتها ومساهمتها في أي نضالٍ كوردستاني مشترك، وهذا سنتطرق إليه بعدما نوضّح جانباً مهماً من الموضوع.
في الوقت الذي كانت الحركة الوطنية الكوردية تسعى للتواصل والاحتكاك مع الحركة الديموقراطية والوطنية السورية، رغم استمرار نظام القمع السياسي لحزب البعث الذي تأسس منذ عام 1963 لعامة الحركات السياسية المعارضة، ورغم قيامه بتنفيذ مشاريع عنصرية بحق الشعب الكوردي مثل إقامة “حزام عربي” في منطقة الجزيرة العليا للفصل بين الكورد في سوريا والعراق وتركيا، وتجريد المواطنين الكورد من الجنسية السورية، والسعي لدفعهم بشتى السبل للنزوح عن مناطقهم الأصلية في شمال البلاد صوب المدن ولبنان، بل وإلى خارج البلاد، كانت الحركة الديموقراطية السورية لا تختلف في شيء عن النظام في نظرتها للقضية الكوردية ووجود الشعب الكوردي مع الأسف.
واستمر نظام الأسد بعد قيام الحركة التصحيحية في تطبيق سياسات معادية لوجود الشعب الكوردي، وفي الوقت ذاته سعى ل”احتواء” الأحزاب الكوردية، وتشجيع غيرها على التشكّل، ولكنه رفض ضم أيٍ منها إلى ما أسماه ب”الجبهة الوطنية التقدمية” من الناصريين والاشتراكيين، أشباه البعث، والشيوعيين، بذريعة أن المحيط العربي المعادي لحكمه سيجد في ذلك ثغرةً للهجوم على نظامه، وكذلك فإن جيران سوريا، ومنها تركيا خاصةً لن تغفر له ذلك، فالعدو الأبدي للطورانيين هو الشعب الكوردي كما يظنون.
ولذلك لا نجد في ظل حكم حافظ الأسد أي بريق أمل لمساهمة كوردية في الحياة السياسية السورية أو في رفع الظلم والاضطهاد عن كاهل الشعب الكوردي أو في منحه أدنى وأبسط الحقوق القومية – الثقافية، على الرغم من المحاولات المستمرة للأحزاب السياسية تلميع صورة النظام في إعلامها البسيط المتواضع.
بمعنى أن النظام في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد حقق ما كان يريده، دون اعتراضات ودون أي “مقاومة” حقيقية في الشارع الكوردي، وما حققه على الأقل:
-تثبيت أسس مشروع الحزام العربي ودعم أكثر من (40) من المستوطنات العربية التي أقيمت على أرض الكورد التاريخية، والاستمرار في تطبيق منع أي تكوّن أو تشكّل قومي ثقافي لشعبنا، مقابل تطبيق سياسة تعريب صارمة، تتمثل في منع الكوردية منعاً باتاً في التعليم والتربية، وهنا نورد مثالاً واحداً يبيّن إلى أي درجة وصلت الوقاحة بالعنصريين، فقد تعرضت طفلة صغيرة للضرب المبرح من قبل معلمتها في مدرسة بمنطقة “جبل الأكراد” التي مركزها “عفرين” لأن الطفلة كتبت في دفترها إلى جانب رسمٍ لتفاحة اسم التفاحة بالكوردية.
– تدجين الحراك السياسي – الثقافي الكوردي بشتى السبل، بوعود كاذبة له بحيّز متواضع أو نقاشٍ معه حول ضرورات المرحلة التي تمر بها سوريا كدولة مواجهة وممانعة في وجه إسرائيل، ويجب تفهّم ظروف النظام وما إلى هناك من تلفيقات مسامرة لتحقيق عدم ظهور أي معارضة كوردية حقيقية ضد المشاريع العنصرية والتعريب خاصةً.
– الاستعانة في تقميص دور الكورد السوريين من خلال إقامة علاقات مع قيادات كوردية من خارج سوريا، وإلهاء الكورد بما يجري في أجزاء كوردستان الأخرى، من دون التطرّق الحازم لسياسة البعث الذي كانت بعض القيادات الكوردية تعتبره – مع الأسف – حزباً “وطنياً وتقدمياً” و” له مشروع حيال قضية حركة التحرر الوطني الكوردية!”
– تسخير الطاقات والإمكانات المادية والانتاجية الهائلة للمنطقة الكوردية في سبيل النظام وجيشه من الموظفين الذين كانوا لا يتوانون عن امتصاص قوت شعبنا، وتطوير نظامٍ متماسك وفعال للرشوة ونشر الفساد على مختلف المستويات، هدفه إرهاق المواطنين الكورد وتجويعهم وإرغامهم على الهجرة والتعريب الطوعي لأنهم لا يجدون مجالاً للحفاظ على ثقافتهم ولغتهم ووظائفهم إن ظلوا متمسكين بكورديتهم.
– دق إسفين بين الحركة السياسية الكوردية والاتجاهين الآيديولوجيين اللذين يتخوف من نموهما نظام البعث، حيث تأسس هذا الحزب أصلاً لمنع وقوع سوريا في أيديهما، وهما التيار الشيوعي الحقيقي والتيار الإسلامي في البلاد، وذلك عن طريق ممارسة سياسات عديدة ومختلفة وذكية لتأليب فصائل المعارضة السورية بعضها على بعض، لإدامة حكم العائلة الأسدية التي استغلت “الطائفة” بوضوح يوماً بعد يوماً، وهذا ما دمر سوريا فيما بعد.
واستمر الوضع هكذا إلى حين ظهور حزب العمال الكوردستاني في بدايات ثمانينيات القرن الماضي على الساحة الكوردية السورية، وكان قد تأسس في العاصمة أنقره في تركيا في عام 1979 على أيدي مجموعة من الطلاب الكورد وغير الكورد، برئاسة السيد عبد الله أوجلان، وأصدر (مانيفستو) على غرار البولشفيك الروس في عهد لينين، يدعو إلى النضال بأساليب ثورية من أجل إقامة نظام أممي يحظى فيه الشعب الكوردي بحقوقه المسلوبة منه.
كان الكورد في غرب كوردستان، حيث لم يتمكنوا في يومٍ من الأيام من القيام ب”ثورة” لانتزاع حقهم القومي عن طريق الكفاح المسلّح، على أملٍ دائم بأن يفيق الشعب الكوردي في شمال كوردستان من سباته الطويل تحت نير الطورانية الدموية، ويعلنها “ثورة” عارمة قد تغيّر وجه المنطقة كلها، وتؤثر إيجابياً في تغيير وضعهم السيء في ظل البعث، ولذلك فإنهم عندما سمعوا لأول مرّة شريطاً غنائياً (كاسيت) للمغني الكوردي الشهير (شفان بَرور) من شمال كوردستان، وهو ينشد للثورة والحرية بصوته الجهوري الرائع أشعار الشاعر الشهير (جكرخوين)، أدركوا أن ما كانوا يأملونه قد حدث، فها هم كورد الشمال يهبون بحماس، ومنهم من ظنّ أن المغني الكبير هو في الوقت ذاته مؤسس حزب العمال الكوردستاني. وبدا هذا الجديد القادم من الشمال مثيراً للغاية، من بين العديد من المغنين الكورد السوريين ومن شرق وجنوب كوردستان الذين كانوا يهتمون بالتراث الكوردي الشعبي والملاحم الكوردية الرائعة، ويقتربون من موضوع “الثورة”، وفي مقدمتهم الراحل (محمد شيخو) و (تحسين طه) وسواهما ممن كانوا قد استأثروا بالساحة الكوردية بأغانيهم وأناشيدهم الوطنية الرائعة.
أتّذكر أنني عندما سمعت صوت (شفان) في عام 1978 في بيتنا، من كاسيت أحضره لي أحد معارفي في حلب، قلت له: “هذا الصوت الذي ينشد أشعار جكرخوين سيلهب شمال كوردستان.” وإن إحدى أولى زياراتي لدى وصولي إلى ألمانيا في عام 1979 كان إلى منزل المغني (شفان) في مدينة كولن، وكان معي أحد أهم راقصي الفلكلور الكوردي السوري، لأنه أراد التعاون مع (شفان) بهدف تأسيس فرقة تعرض الرقص الكورداغي التقليدي، وقدمت للمغني الذي رحب بنا ترحيباً كاسيت أشعار مما كتبته وسجلته من قبل، وإذا ب(شفان) يصدر بياناً سياسياً باللغة التركية مذيلاً باسم حزب العمال الكوردستاني، وشرع يشرح لنا ما في البيان من أفكار ، حيث لم نكن نعرف اللغة التركية، فسألته عما إذا كان هناك من يترجمه للكوردية، أفاد بأنهم مجموعة صغيرة جداً من أعضاء الحزب في أوروبا، وسيكون سعيداً فيما إذا ساعدتهم في مجال تعليم رفاقه اللغة الكوردية ونشر بياناتهم بها.
لقد تلقف شعبنا في غرب كوردستان وفي المهاجر ما صدر عن هذا الحزب من أفكار وما قام به من ممارسات خارج البلاد كالمظاهرات والاحتفالات وجمع التبرعات، بشكلٍ لم يسبق له مثيل، وبخاصة بعد أن عقد اتفاقاً مع الحزب الديموقراطي الكوردستاني، وظهر على الساحة الكوردستانية كقوة ثورية فاعلة، وما زاد في شعبية هذا الحزب هو انقلاب الجنرال كنعان ا فريم في عام 1980 وبدئه بسلسلة رهيبة من حملات الإرهاب الشامل ضد الشعب الكوردي والتعذيب لأعضاء سائر تنظيماته السياسية والثقافية، وألهبت بطولات الأعضاء المعتقلين لحزب العمال الكوردستاني في وجه جلادي الانقلاب العسكري حماس شعبنا في سائر أنحاء كوردستان، وعلى الأخص تلك الصرخة المدوية التي أطلقها الشاب الكوردي الخالد (مظلوم دوغان) في وجه الذين عذبوه وأحرقوه: “المقاومة حياة”. وما أبهر عيون وقلوب الكورد هو أن حزب العمال شرع يضرب على وتر “الحرية والاستقلال” في إعلامه. إلاّ أن شيئاً من هذا لم يكن في (المانيفستو) الذي خصّ شمال كوردستان وحده بمجال نضاله، وليس كل كوردستان. وأتذكر أن جاراً وصديقاً لي من شمال كوردستان سألني يوماً: “أتعرف لماذا كورد سوريا يلتحقون جماعاتٍ بعد جماعات بحزب أوجلان؟” فقلت: ” لأنه يكافح من أجل استقلال ووحدة كوردستان؟” فابتسم وقال: “لأنكم لا تقرؤون جريدته (سرخوبون – الاستقلال) بالتركية.” فجاء كلامه هذا بمثابة الصدمة لي، وكنت حينئذٍ أساهم في العديد من نشاطات الحزب الثقافية، مثل كتابة مقالات بالكوردية سلسلة دروس في اللغة الكوردية في نشرته الدورية (به رخودان: المقاومة)، والمساهمة في إصدار الأعداد الأربعة الأولى من مجلة (ره وشن) كصديقٍ اقتنع حقاً بما كان يقوله وينشده (شفان) وبما بدأ الحزب بنشره باللغتين الكوردية والعربية، وكذلك الألمانية، حيث نقيم، وبما يتحدث به بعض كوادره المتقدمين من حولنا، الذين فقد معظمهم حياتهم بعد الشروع في الثورة في عام 1964، أو تم تصفيتهم سياسياً وجسدياً، ثم إننا كنا واثقين من أن الحزب الديموقراطي الكوردستاني لن يعقد اتفاقاً مع فصيلٍ كوردستاني مثل حزب العمال الكوردستاني من دون سبب هام.
نعم، بظهور حزب العمال الكوردستاني وشروعه في الثورة بعد سنواتٍ قليلة من تأسيسه، بعد أن قدّم كوادره أرواحهم في المعتقلات التركية الرهيبة، بدأت كفة الميزان ترجح لصالحه على حساب العلاقة التقليدية الحميمة التي كانت بين غرب و جنوب كوردستان، وبسبب تواجد رئيس الحزب السيد أوجلان في سوريا ولبنان، والقوة الإعلامية للحزب وقدرته على حشد الجماهير وتنظيمها تضاءل نفوذ الأحزاب الكوردية السورية، الوطنية الديموقراطية، وبدأ مسلسل الانتكاسة السياسية الكبرى لحراكنا العام في غرب كوردستان.
16 حزيران، 2017
kurdaxi@live.com
facebook: Cankurd1
((يتبع))