عبدالرحمن كلو
من المفيد التذكير أن منظومة حكم وادارة إقليم كوردستان ومؤسساته التشريعية والتنفيذية التي قامت على اساس الحالة التشاركية للعملية السياسية لم تكن وليدة توافقات سياسية لحظية فحسب، بقدر ما كانت وحدة حال لموروث تراكم جمعي تاريخي بعود بجذوره إلى عهود العمل النضالي المشترك والهدف الواحد عبر عقود طويلة من الكفاح المسلح والعمل السياسي الذي مر بالكثير من المنعطفات وحالات التواتر بين الاخفاقات والنجاحات حتى تكللت بالنجاح النوعي بوساطة أمريكية على يد الوزيرة الديمقراطية اولبرايت عام 1998، والادارة الأمريكية في ذلك الحين كانت قد بدأت الحرب على الارهاب المتمثل بالأنظمة الدكتاتورية وتنظيم القاعدة، بغية إرساء دعائم شرق أوسط جديد منسجم مع مصالح أمنها القومي ،
و كانت كوردستان العراق إحدى أهم ساحات التموضع الامريكي ذات الأهمية الجيوسياسية والجيواستراتيجية في حربها على الارهاب في المنطقة، إذ شكل جنوب كوردستان – ككيان سياسي جيوغرافي – جزءا حيوياً من الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة ، ومعادلة الصراع في تلك الحقبة كانت محددة الأطراف والأهداف قبل خلط الأوراق ومرحلة تمدد النفوذ الايراني بمشروعه الطائفي العقائدي في العراق الذي جاء مع بداية الانسحاب الأمريكي من العراق أواخر عام 2011، وعليه كانت المعادلة السياسية لإقليم كوردستان واضحة المعالم والتوجهات والأهداف، وفق معطيات الخصوصية التاريخية للجغرافيا السياسية للإقليم، فكل الجهود السياسية على صعيد التحالف مع المكونات والاطراف السياسية في الداخل العراقي وعلى الصعيد الدولي كانت تستمد قوتها من استثمار مناخات التغيير الجديدة للشرق الأوسط ، كما أن آليات العملية السياسية رغم تعقيدات الخلافات الحزبية كانت تصب في جدول مسيرة التحرر الوطني الكوردستاني ومن أجل انجاز مهامه، وعلى هذا الاساس كانت الجهود الكوردستانية موحدة في الرؤى والطرح بخصوص مواد الدستور العراقي الذي نظم شكل العلاقة بين اربيل وبغداد رغم الثغرات ومواضع الخلل فيه، وجاءت مساهمة كوردستان في وضع الدستور العراقي جلية ونوعية بحكم الحالة التوافقية لتشخيص المرحلة عراقيا ودوليا من جهة، وبحكم الاتفاق على انجاز مهام المشروع الوطني الكوردستاني من جهة أخرى، ولأول مرة في تاريخ دولة العراق اقر نظام حكم فيدرالي يستمد شرعيته القانونية من استفتاء شعبي، وبموجبه تم إعادة هيكلة الدولة العراقية من جديد على أنقاض الدولة الفاشية المهزومة، و ثوابت الاستراتيجية الوطنية الكوردستانية أوجبت – بل فرضت – حالة تشاركية توافقية للأحزاب الكوردستانية في توزيع السلطات و المناصب بعمومها – السيادية وغير السيادية – في الاقليم وفي العراق، وإذا ما حاولنا تجاهل تلك الثوابت أو القفز من فوقها عندئذ لم تعد لنتائجها أية قيمة وطنية ولن تكون لمؤسسات الاقليم شرعية وطنية، طالما استمدت شرعيتها من شرعية المشروع الوطني أساساً، لأن جدلية العلاقة بين المؤسسات وموجبات وجودها لا تقبل خاصية التفكيك على أية حال.
وما يجري الآن في الساحة الكوردستانية من محاولات لتشويه جوهر وحقيقة الأزمة السياسية ما هو إلا محاولة من البعض لوضع العربة أمام الحصان، لأن معادلة اصطفافات المحاور الاقليمية قد تغيرت بشكل كلي بعد أن دخل الطرف الايراني على خط المشاركة في الحرب على الارهاب في سوريا والعراق واستثمارها لمناخات هذه الحرب لصالح مشروعها الشيعي العقائدي، واستطاعت إيران من خلال نفوذها في الأوساط الشيعية الكوردية إحياء وإثارة الخلافات الحزبية التقليدية في الاقليم لصالح مشروعها الطائفي في المنطقة، ولهذا الهدف عمدت- بداية- على النيل من ثوابت استراتيجية التحرر الوطني الكوردستاني من خلال تفكيك الحالة الوطنية وتحويلها إلى مجموعة أحزاب متناحرة ومتصارعة على السلطة والنفوذ ، ولتمزق وحدة الكيان الجغرافي السياسي لكوردستان وتوزيع هذا الكيان إلى محافظات عراقية لتلغي نظام الحكم الفيدرالي برمته لتكون علاقة بغداد مع كل محافظة عل حدة وبشكل منفصل، وتتحول الكتلة البرلمانية الكوردستانية الى كتل حزبية تصوت ضد الاقليم أو في أحسن الأحوال تمتنع عن التصويت وهذا ما حدث عند التصويت على صرف استحقاقات موازنة البيشمركة في البرلمان العراقي، أي العودة بالعراق إلى المربع الأول إلى ما قبل عام 2003، وإلغاء كل المؤسسات الفيدرالية الاتحادية القائمة على الشراكة بين كوردستان ( الكيان الجغرافي – السياسي ) وبين العراق ( الدولة الفيدرالية ) ، وفي سياق هذا التوجه حاولت حركة كوران والاتحاد الوطني جناح عادل مراد وهيرو أحمد وجماعة علي بابير، العمل من خلال الخنادق الحزبية بالسطو على الحالة الوطنية للمؤسسات وفق أجندات إيرانية معلنة، وبدأ العمل الفعلي المعلن بهذا الاتجاه بعد اجتماع الرئيس بارزاني مع الأحزاب الكوردستانية بتاريخ 18/5/2015 بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية وبعض من الدول الأوربية وطرحه لمشروع الاستقلال على ضوء التفاهمات التي حصل عليها من لدن الجانب الأمريكي والدول التي زارها خلال تلك الجولة، مما أثار حفيظة حلفاء إيران على الرغم من الموافقة المبدأية في الاجتماع ، وما تمخض عن هذا الاجتماع كان بمثابة الصدمة بالنسبة لإيران، مما استعجلت حلفاءها بالتحرك ضد مشروع البارزاني ، وأخذت هذه القوى على عاتقها افتعال الازمات تحت عناوين ومسميات مختلفة لتلعب دور الحكومة والبرلمان والمعارضة معاً وفي آن واحد، بمعنى أنها أرادت الاحتفاظ على ما يمكن من امتيازات ونفوذ لتسخيرها واستخدامها ضد تلك المؤسسات ذاتها التي هو نفسه ينتمي إليها، ناسية أو متناسية أن هذا البرلمان أو تلك الوزارة لم تأت إلا وفق توافقات وطنية، ولولا تلك التوافقات لما حصل رئيس البرلمان على منصب مدير عام أو حتى رئيس محكمة، وتم البدء من البرلمان في محاولة منهم استغلال تلك المؤسسة التشريعية الكوردستانية ضد مشروع الاستقلال بذريعة ” اشكالية منصب رئيس الاقليم ” كما وعلى الصعيد العراقي دخلت ايران على خط المصالحات بينهم وبين كتلة المالكي أولاً عن طريق العراب أو ” السوبرمان ” قاسم سليماني المتواجد في كل مكان بآن واحد، ومن خلاله تم ابرام اتفاقات وصفقات حزبية مع الكتل الشيعية للاستئثار بالقرار السياسي للإقليم واستلابه من خلال قوة النفوذ الايراني ، وتمخضت عن هذه التفاهمات المطالبة العلنية باختراق كل بروتوكولات التعامل مع الدولة الفيدرالية وتغيير شكل العلاقة مع حكومة بغداد لتكون العلاقة كتلية حزبية محافظاتية ، ولصعوبة المهمة وبدء التنفيذ من الجانب السياسي بحكم النفوذ الأمريكي الذي مازال يمسك بالعصا الطويلة في العملية السياسية في العراق، لذلك اضطرت إلى اللجوء لضرب الجانب الأمني أولاً من خلال أعمال الشغب وحرق يعض المقرات الحزبية في محاولة منها خلط الأوراق وإظهار عجز المؤسسات الحالية للاقليم وبالتالي الدخول في حالة فوضى عارمة لتسهيل دخول مختلف الميليشات الطائفية الحليفة لإيران وتغيير المعادلة السياسية لاحقاً.
لذلك من العبث الدخول في حوارات أو مفاوضات مع الأطراف الحليفة لإيران والتي تقول البرلمان أولاً، لأنها لا تعني البرلمان الوطني بقدر ما تعني عملاء إيران وضرورات إدارتهم لمشروع ينسف كل المؤسسات الوطنية في كوردستان وثوابت المشروع الوطني، وكذلك مع الذين يسترسلون في الكلام عن وحدة الصف الكوردي والأزمة الاقتصادية والفساد وعندما يصل الحديث عند مشروع الاستفتاء والاستقلال فإما أن يوافق مشروطاً بأسبقية وجود الرئيس السابق لأنه يعلم جيدا أنه يحمل معه كل عوامل الفشل والإفشال للعودة بالأزمة إلى جلسة تاريخ 23 حزيران 2015 ، أو في أحسن الأحوال ينهي كلامه بعبارة ( لكن , به لام ) ليلغي كل ما قيل قبل تلك العبارة، كما ينسى هؤلاء أن الفساد في الاقليم لا يقتصر على جانب واحد من ضفتي الصراع بل تتقاسمه اربيل والسليمانية معا، والسليمانية ليست بمنأى عن الفساد المستشري من خلال تجارة النفط المهرب إلى إيران والصرف على المنظمات الهلامية ذات الصناعة المحلية التي تقف بالضد من المشروع القومي في كوردستان سوريا بالإضافة إلى شراء الذمم لبعض المرتزقة والمأجورين من كورد سوريا في السليمانية للعمل ضد المجلس الوطني الكوردي وسياساته من خلف الستار .
وعليه يجدر بالإقليم التعامل مع احداث ومتغيرات الازمة المفتعلة من خلال فك بعض الحلقات الأخيرة الصدئة للسلسلة وإزالتها بشكل نهائي، وهذا التعامل لوحده يُمَكِّنُ الاقليم التخلص من الديمقراطيات المزيفة والارتقاء بالمشروع الوطني إلى ما فوق قامة الصغار، كما يُمَكِّنُه في المضي قدماً استثمار المناخات الدولية المتاحة لمشروع الاستفتاء والاستقلال، لأن إيران – بأدواتها- أصغر بكثير من أن توقف مشروعاً بإرادة دولية.