جان كورد
الفكر، تحديد المفاهيم الأساسية المستنبطة من الفكر، تثبيت الأهداف وأولويات العمل لتحقيقها، الخطط التي يجب وضعها للخروج من المشروع بنجاح ملموس. وهذا ما نسعى له ونأمل الوصول إليه من خلال ما نطرحه من رؤية متواضعة على كل الناشطين في حراكنا السياسي – الثقافي في غرب كوردستان وفي المهاجر.
من الطبيعي أن تتبلور لدى أي حركةٍ سياسية، ارتوت من أفكار معينة، تصورات عن المستقبل وطموحات خاصة بها، يتم تثبيتها على شكل أهداف سياسية تعمل على تحقيقها، والحركة الكوردية السياسية، إذا ما نظرنا إلى تاريخها الذي تألق منذ بدايات القرن الماضي، جعلت من (تحرير الكورد وتوحيد كوردستان) هدفاً لها، وإن لم تكن حركة حزبية منظمة، بل جهود لشخصيات وجمعيات وطنية مؤمنة بحق أمتها في الحرية والحياة الكريمة،
إلا أن عقد اتفاقية سايكس – بيكو الاستعمارية في عام 1916 لم يأخذ مصالح ووجود الأمة الكوردية بعين الاعتبار، فأثر ذلك سلبياً وبعمق في مجمل الحياة السياسية والاقتصادية وفي أساس الكفاح التحرري لهذه الأمة، على الرغم من أن فكرة الكفاح من أجل (التحرير والاستقلال) ظلت هي السائدة في الوعي القومي الكوردي، في انتفاضة الأمير سمكو في شرق كوردستان، وفي فترة إعلان الشيخ محمود حفيد البرزنجي نفسه ملكاً على جنوب كوردستان، وفي ثورة الشيخ سعيد بيران في شمال كوردستان، وكلها حدثت بدون تنسيق فيما بينها، في النصف الأول من عشرينيات القرن الماضي، بل حتى في ثورة خويبون (الاستقلال) التي قادها الجنرال إحسان نوري باشا (1927-1930)، واتخذ لها جبل آغري (آرارات) مقراً رئيسياً لقيادة قواته.
وعلى الرغم من أن معاهدة (سيفر) الدولية في عام 1920 منحت الشعب الكوردي حق الاستقلال في حال رغبته في ذلك، فإن الشخصيات الكوردستانية المناضلة لم تتمكن من تحقيق أي إنجاز خلال السنوات الثلاث التي تبعت المعاهدة الهامة، وذلك لأن التأثير السلبي الخطير لاتفاقية سايكس – بيكو كان أعمق على مجمل الحراك السياسي – الثقافي في كوردستان، في حين استطاعت الشريحة القومية التركية خداع الكورد، وتسخيرهم لتحقيق فكرة (وحدة الوطن والدين) التي نادى بها الطورانيون في ظل قائدهم المحنك مصطفى كمال الذي تمكن من اقناع الأوربيين بأن قيام الجمهورية التركية سيكون بمثابة حصان مطواع لهم، فجاءت معاهدة (لوزان) في عام 1923 لتنسخ معاهدة (سيفر) فيما يتعلق بالكورد وكوردستان من بنودها، مع إعطاء وعود معسولة عن استخدام الكورد للغتهم القومية وإدارة أنفسهم في مناطقهم دون الحق في (الاستقلال) أو (الفيدرالية) أو حتى (الحكم الذاتي)، وبذلك تغيرّ وجه النضال القومي التحرري لهذه الأمة المخدوعة باستمرار باسم (الدين المشترك) عبر التاريخ، فأصبح الكورد في إطار كل دولةٍ تقتسم أرض كوردستان (تركيا، إيران، العراق، سوريا، آذربايجان وأرمينيا) يضعون لأنفسهم أهدافاً لا تختلف عما لدى الكورد في الدول الأخرى، إلاّ أنهم تخلوا عن هدف (الاستقلال)، وهذا تجلّى بوضوح في برنامج كل من الحزب الديموقراطي الكوردستاني في إيران والحزب الديموقراطي الكوردستاني في العراق، اللذين تأسسا في النصف الأول من أربعينيات القرن الماضي، وفي وقتٍ متأخر في برنامج الحزب الديموقراطي الكوردستاني – سوريا، الذي تأسس في عام 1957 و كان له هدف (تحرير الكورد وتوحيد كوردستان) لفترة وجيزة، ثم غيّر اسمه إلى الحزب الديموقراطي الكوردي في سوريا وحذف هدف النضال من أجل استقلال كوردستان من برنامجه لأسبابٍ ذاتية وموضوعية، بمعنى أن أهداف الحراك السياسي – الثقافي الكوردستاني قد تضاءلت أو تحددت بصورة مختلفة عما كان يناضل من أجلها روادها الأوائل. إلاّ أن هدف (حرية واستقلال الكورد وكوردستان) ظل قوياً ولا يزال مستحكماً بالشارع الشعبي في عموم كوردستان،وفي المهاجر التي تتوزع عليها ملايين من الكورد، وتم تغذية هذه الروح الوطنية على الدوام من قبل المثقفين والفنانين الذين كتبوا الأشعار والدراسات وقرأوها للكورد، وأنشدوا الأناشيد القومية الحماسية ومجدوا نضال الرعيل الأول من الشخصيات الوطنية التي ضحت بكل ما تملك، ومنها من ضحى بنفسه للإبقاء على شعلة الكفاح متقدة، رغم كل المحن والمآسي والسياسات الدموية للنظم المستبدة.
لقد تعاونت الدول المحتلة لأرض الأمة الكوردية باستمرار ضد كل الحركات الثورية الكوردستانية لأن (استقلال كوردستان) يعني لها أموراً مستجدة لا تريدها:
– التغيير الجيوسياسي في المنطقة بشكل صارخ
– حدوث اضطراب اقتصادي عظيم في بنى هذه الدول وطاقاتها ومواردها الأساسية
– نهوض سياسي – ثقافي جديد يقلب الأكاذيب والحكايات التي جمعها تاريخ المنطقة بين صفحاته
فإن ظهور دولة (كوردستان) يعني تغييراً عظيماً في حجم الدول التي تقتسم أرض الكورد، وهذا بالتالي له عواقب سلبية واضحة على كل ما لهذه الدول من أوضاع جيوسياسية وقدرات عسكرية وحدوت تموضع جديد في الشرق الأوسط. ومعلوم أن معظم مصادر الطاقة ومساحات الإنتاج الهامة في الدول التي تقتسم كوردستان تقع في المناطق الكوردية، من بترولٍ وغازٍ وحبوب ومياه وثروة حيوانية وأيدي عاملة ومواد معدنية تشكّل كنوزاً عديدة في الأرض، وفي حال استقلال كوردستان، ستطير هذه الخيرات من أيدي المستعمرين لتعود إلى أصحابها الشرعيين. كما أن استخدام الكورد للغتهم وتطوير ثقافتهم بها وإعادة كتابة التاريخ الذي أهمل وجودهم ودورهم الهام في تاريخ المنطقة، سيعكر كثيراً على العنصريين الذين سطروا تاريخ هذه البلاد كما شاءوا، فتصوروا معي أن مؤرخاً مسلماً (محمود شاكر – كما أظن) كتب عن مختلف شعوب المسلمين في كتبه باستثناء الكورد، حباً منه للأتراك، ليس إلاّ. وها هو كاتب مصري بارز (يوسف زيدان) يقول عن (صلاح الدين الأيوبي)، أحد أعظم القادة في التاريخ، والكوردي الذي هزّ العالم بنبله وشجاعته وفروسيته التي مدحها المؤرخون الأوربيون جميعاً، فيقول عنه هذا العربي الذي حرر بلاده صلاح الدين بأنه (أحقر رجلٍ في التاريخ). وبالتأكيد فإن قيام دولة كوردية سيحطم الجدران التي بناها العنصريون حول الأمة الكوردية ومزقوها كيفما شاءوا لتظهر حقائق التاريخ وتطبع الثقافة العامة لشعوب المنطقة طباعةً جديدة وأنيقةً.
في كل إقليم من أقاليم كوردستان المجزأة، ثمة ترتيب مختلف في تحديد أولويات الكفاح الوطني، وذلك كنتيجة حتمية لواقع التمزّق الذي تعاني منه أمة الكورد، وتحديد الأولويات لا بد منه، علمياً ومنطقياً، ولذا نجد أن أمام الحركة الوطنية الكوردستانية مهام شاقة وتحديات كثيرة، من أهمها وأعظمها واقع التجزئة الشاملة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والحركية، فلو بقي النضال القومي مؤمناً بالهدف المشترك، لتم توحيد الطاقات القومية المختلفة، ومنها طاقات الأحزاب والجمعيات الكثيرة أيضاً لتحقيق ذلك الهدف المنشود، ولكن التجزئة هي التي فرضت على الحركة وضع أهدافٍ تتناسب مع واقع كل اقليمٍ على حدة، وبالتالي سيكون على ضوء هذا تراتب مختلف في أولويات النضال الوطني، فإذا كان هدف الكورد في إقليم جنوب كوردستان اليوم هو (استقلال الاقليم)، فهذا يعني أن وضع سلّم لأولويات العمل من أجل تحقيق الاستقلال (كالاستفتاء ومحاولات اقناع العالم بالحق الكوردي في الاستفتاء وما ينجم عن إرادة الشعب، واستمرار التعامل مع ما يحيط بالإقليم من تنافر وتشابك للمصالح) سيتناسب مع حجم وأهمية المطلب أو الهدف، وأعتقد أن قيادة الحركة السياسية في الإقليم واعية للتحديات التي تعترض طريقها، وأنها بتضامنها وتعاونها فيما بينها، بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر السياسية، وبقدرتها على إنجاز الأهم كل حين، قادرة على قهر تلك التحديات.
وهنا، لا بد لنا من التركيز على (غرب كوردستان)، حيث هذا هو الشأن الذي نريد التطرّق إليه، بعد كل الذي سردناه عن مجمل الكفاح القومي الكوردستاني، فما هي أهداف حراكنا السياسي – الثقافي هنا؟ وما الأولويات في العمل من أجل تحقيق الهدف الذي تسعى له الحركة، وما الخطط التي يجب وضعها للخروج من المشروع المطروح من قبل الحركة بنجاح ملموس؟
09 حزيران، 2017
((يتبع))