جان كورد
الفكر، تحديد المفاهيم الأساسية المستنبطة من الفكر، تثبيت الأهداف وأولويات العمل لتحقيقها، الخطط التي يجب وضعها للخروج من المشروع بنجاح ملموس. وهذا ما نسعى له ونأمل الوصول إليه من خلال ما نطرحه من رؤية متواضعة على كل الناشطين في حراكنا السياسي – الثقافي في غرب كوردستان وفي المهاجر.
في هذه الحلقة نتطرق إلى الفكر الذي استند إليه الحراك السياسي – الثقافي الكوردستاني عموماً، وفي غرب كوردستان خصوصاً، إذ كما قلنا في المقدمة أنه لا حركة سياسية من دون آيديولوجية أو مجموعة الأفكار التي تغذي بنيانه بماء الحياة والاستمرارية.
يمكن القول بشكل عام أن الحركة السياسية الكوردستانية ليست حركة أممية أو شيوعية، على الرغم من أن غالبية الشعب الكوردي من الفلاحين ومن شريحةٍ ضعيفة من الطبقة العامة، وعلى الرغم من أن كوردستان كما يقال على مرمى حجر من الاتحاد السوفييتي المنحل، الذي تكوّن بعد الثورة البولشفية في العالم، كما أنها ليست حركة دينية، على الرغم من أن الغالبية العظمى من الكورد مسلمون على مذهب السنة، وإلى جانبهم في كوردستان فئات ليست كبيرة من العلويين والشيعة واليزيديين والمسيحيين، مثلما كان بينهم يهود، هاجروا في أوقاتٍ سابقة إلى إسرائيل، والحركة الكوردية لا يمكن تصنيفها كحركة دينية على الرغم من أن قادتها وزعماءها الكلاسيكيين كانوا دعاة دين أو أو شيوخ طرق صوفية أو مجاهدين ثائرين ضد الظلم القومي، وصحيح أن الشيخ الجليل سعيد بيران قاد ثورة كوردية في عام 1925، وأعدم على أثرها، وكانت بهدفين: رفع الظلم عن الشعب الكوردي وإعادة حكم الخلافة الإسلامية، بعد أن قضى عليها الكماليون بإعلان الجمهورية التركية في عام 1923، إلا أن علماء إسلاميين آخرين، مثل الشيخ سعيد نورسي (بديع الزمان)، لم يسانده، ولم يبايعه أحد من شيوخ شرق أو جنوب أو غرب كوردستان، إما لأنه لم يكن يملك برنامجاً واضحاً لما يقوم به، أو لتسارع الأحداث بحيث تفاجأ هو بنفسه بالثورة التي كان عليه قيادتها لمواجهة الممارسات التركية الرهيبة ضد شعبه، وكذلك فإن مجموعة كبيرة من الضباط الكورد كانت متفقة في ذات الوقت على تحرير الكورد من ظلم الأتراك وإعلان استقلال كوردستان، إلاّ أنهم لم يطالبوا بعودة حكم الخلافة، وبإمكاننا القبول تماماً بأن قادة ثوراتٍ كوردية أخرى، مثل الأمير سمكو الشكاكي في شرق كوردستان، والشيخ محمود الحفيد البرزنجي في جنوبها، والشيخ علي رضا في شمالها، كانوا رجال دين أيضاً أو متدينين ليسوا علمانيين، إلا أن حركاتهم السياسية وانخراطهم في القتال ضد الأتراك والفرس والعرب والانجليز كانت في الجوهر ردود أفعال قوية على السياسات القمعية ومساعي من أجل الحصول على حقوق الكورد المغتصبة منهم.
الحركة الكوردية لا تصنّف كحركة إسلامية، رغم أن تركيا الكمالية عملت ما في وسعها لوشمها بتلك الصفة أمام أعين الإعلام والدبلوماسيين الغربيين آنذاك، لمجرد أن قادة الثورات الكوردية كانوا من عائلات محافظة تعتبر شيوخاً للطرائق الصوفية أو كان من بينهم علماء دين كبار مثل القاضي محمد، الرئيس الشهيد الذي أعدمه الشاه الإيراني على أثر القضاء على جمهورية كوردستان في عام 1947. ومعلوم أنه سعى لكسب ود الاتحاد السوفييتي ذي النظام الشيوعي، مثلما التجأ من بعد ذلك القائد الكبير الملا مصطفى البارزاني إلى السوفييت مع المئات من مقاتليه وعوائلهم، بحيث كان السياسيون والإعلاميون العرب يقولون عنه ” الملا الأحمر”، أي (الشيخ الأحمر)، ولم يكن القائدان (القاضي محمد) و (البارزاني) شيوعيين.
فما هي منابع ومصادر الفكر الذي ارتوت منها الحركة السياسية الكوردية؟
-التراث الأدبي الكلاسيكي للشعب الكوردي: إذ نجد في الملاحم الكوردية الشعرية العديدة، مثل (مه م وزين)، (زمبيل فروش)، (فرهاد وشيرين)، (سيف الملوك)، (يوسف وزليخا)، (محمد حنيفة)، (ليلى ومجنون)، (وادي سيسبان)، (هسبى ره ش) وغيرها دعوة صريحة للكفاح من أجل الحرية ضد الظلم والاستبداد وفي بعض دواوين أشعار الكلاسيكيين نجد دعوة واضحة لحماية اللغة الكوردية وحب القوم الكوردي، على الرغم من أن معظم الملاحم الكوردية تركز على الجانب الديني من حياة المسلمين وبطولاتهم، وتتحدث عن الأمة الواحدة، أمة الرسول الأكرم (ص)، وليس فيها نبرة عنصرية تجاه الأقوام الأخرى. مدرسة التراث الشعري والأسطوري الشعبي أثرت في معظم القادة الكورد، منذ أول ثورة كوردية شهيرة في عام 1880م التي قادها الشيخ عبيد الله نهري ضد الطغيان الفارسي الطائفي. ونلاحظ أن القادة الكورد السياسيين والمحاربين كانوا مهتمين جداً بدواوين الشعراء، وبالعلاقة معهم.
ويجدر بالذكر هنا أنه من خلال قراءة أسماء الملاحم الشعرية الكوردية نلاحظ وجود اسمين، اسم ذكري وآخر أنثوي، وهذا دليل على أن المرأة تحظى بمكانتها اللائقة بها في الأدب الكوردي الكلاسيكي الذي يعكس موروثات المجتمع الثقافية والدينية ونظرته لنفسه وللعالم من حوله.
-الدين الذي يعتنقه أغلب الكورد، وسائر الأديان الأخرى التي تعتنقها الأقليات في كوردستان، هو أحد أهم المصادر التي أثرت في نمو الحركة الوطنية الكوردية، حيث أخذ منه القادة والثوار مبادئ الكفاح ضد الظلم، والأخوة الإيمانية، والمساواة بين البشر، والتضحية بالنفس من أجل الجماعة، وما إلى هنالك من قيم ومبادئ ترسخت من خلال الشيوخ ومدارسهم في المجتمع الكوردي، إلا أن أعداء الكورد استغلوا الدين في محاولةٍ يائسةٍ منهم لسحق الطموح القومي الكوردي واعتباره معاداة للوحدة الإسلامية وخروجاً على سلطة الدولة الإسلامية، على الرغم من أن أعظم التقسيمات في العالم الإسلامي كانت بسبب التحارب الطائفي الذي لا يزال مستمراً وبشكلٍ قذر، وبسبب النزعة التسلطية لبعض الأقوام على المجتمعات المسلمة، ومن ثم فإن المستعمرين والغزاة هم الذين استولوا على بلاد المسلمين وقسموها حسبما يشاؤون، وليس الكورد سوى ضحية لتلك المؤامرات الدنيئة في المنطقة.
-الثورة الفرنسية بمبادئها عن الإخاء والمساواة والعدالة بين كل الناس، وخاصة بعد أن غزا نابليون بونابرت مصر وأتى معه بآلة الطباعة، وانتشرت مع قدومه أفكار الثورة في الشرق الأوسط، فقد تأثر بها المثقفون الكورد الذين لم يجدوا تناقضاً بين معتقدهم الديني وبين هذه المبادئ العظيمة، فتلقفوها بسرعة ونشروها في حلقات الدراسة وبين أتباع الشيوخ الذين كانوا مسيطرين بشكلٍ شبه تام على عملية التربية والتعليم في كوردستان، وكان منهم عملاء النظم السياسية المستبدة بالشعب الكوردي، في حين كانت فئة قليلة منهم تحارب الاستبداد وتطالب ب”المشروطية”، مثل الزعيم الروحي الشهير (الشيخ سعيد نورسي: بديع الزمان الكوردي)، الذي سعى من خلال “رسائل النور” أن يحافظ على نقاوة التوحيد الديني ورفض الاستبداد، وهذا نراه جلياً في كتابه القيم (روجتة الأكراد) التي نشرها بعضهم باسم (روجتة العوام)، تفادياً لإظهار أن الشيخ كان كورديا ودعوته موجهة للكورد قبل غيرهم.
– الماركسية – اللينينية: لقد أثرت الثورة البلشفية في عام 1917 في روسيا، تأثيراً عميقاً في المجتمع الكوردستاني الذي كان رعوياً – فلاحياً على الأغلب، ولم يكن عمالياً، وبخاصة في المدن القريبة من الحدود الروسية، مثل خوي وماكو وقارس ووان، بل إن أفكار الثورة الداعية للثورة على الإقطاعيين والرأسماليين دخلت المدن الكوردية في العمق، مثل مهاباد وآمد والسليمانية وقامشلو، وكذلك عن طريق الصحافة العربية والتركية والفارسية، ومن ثم الكوردية، التي انتشرت في كوردستان عن طريق الناشطين الكورد القوميين الذين كانت لهم علاقات دراسة أو عمل مع المدن غير الكوردية في المنطقة، مثل بغداد وطهران ودمشق واستانبول. كما أن بعض المثقفين الكورد كانوا على احتكاك بهذه الأفكار والمبادئ من خلال اقامتهم أو علاقاتهم السياسية في باريس وبرلين ولندن، حيث كانوا يلتقون بحاملي الفكر الشيوعي، ويحاولون الاستفادة مما يعرضونه للنهوض بشعبهم الذي كان يعيش وضعاً مزرياً فعلاً نتيجة معاناةٍ طويلة الأمد من الاحتلال والنهب والتقتيل والتهجيرـ هذه السياسة التي لم يختلف فيها الاستبداد العثماني (السني) عن الصفوي (الشيعي).
إلاّ أن أعظم المؤثرات التي كان لها المقام الأول في تعبئة الشارع السياسي الكوردستاني كان ولا يزال الفكر الأوربي الحر، ومبادئ الحياة الديموقراطية والحريات السياسية، والتناقض الذي أحدثه في المجتمع الكوردستاني كبير في وجه السياسات العنصرية للنظم المستبدة بالأمة الكوردية، التي دعمتها الدعوات القومية المتشددة المعادية للكورد وكوردستان، ودعوات الحركات القومية العربية والطورانية التركية والمساعي الفارسية للقضاء على الروح القومية بين الشعب الكوردي، الذي كان ولا يزال مؤمناً بأن الشرع الإلهي ليس ضد وحدته وحريته واستقلاله، وكذلك مبادئ الثورتين الفرنسية والبلشفية ليست ضد طموحاته العادلة وفي مقدمتها (حق تقرير المصير) .
04 حزيران، 2017
kurdaxi@live.com facebook: Cankurd1
((يتبع))