شفان إبراهيم
تتجه أنظار العالم أجمع نحو إقليم كوردستان العراق بحلول خريف2017. حيث الموعد النهائي لتنفيذ رئيس إقليم كوردستان العراق السيد مسعود البارزاني لوعده في إجراء الاستفتاء على استقلال كوردستان عن العراق. استفتاءٌ تأجل لعدة مرات لانشغال الإقليم بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية /داعش/من جهة، ومن جهة ثانية انشغاله بمشاكله الداخلية وصراعات الأحزاب السياسية ورغبتها في تحجيم دور وقوة الحزب الديمقراطي الكوردستاني برئاسة الباراني. وإن كان عموم الكرد في شتى أنحاء العالم يتحينون هذه الفرصة التاريخية، فإن بغداد وعواصم إقليمية أخرى تسعى جاهدة لعرقلة المشروع لمخاوف عديدة.
ديمومة الخلافات الكوردية العربية ورغبة الأستقلال.
شهدت الساحتان الكوردية والعربية في العراق، خلال القرن الماضي، الكثير من التحولات والتطورات النوعية والكمية والتي عكست في مجملها، وعكست نفسها على قضية الخلاف والحوار والنزاع الكوردي- العربي، وعلى أشكال هذا الصراع ووسائله. والمشكلة الأكبر في الصراع الكوردي –العربي في العراق على مدى عقود ماضية، تجلت في إن التحولات والتطورات التي حصلت لم يتم التحضير أو التهيئة لتجاوزها أو ردم الهوةَّ بين الطرفين إلى حد يُمكّن معها إنتاج الخطط أو الأدوات الأزمة للتعامل معها.
و منذ دخول القوات الأمريكية إلى العراق باتت العلاقات الكوردية-العربية, العربية-العربية في العراق تشهد تجاذبات وانخراطات سياسية وإصطتفافات قومية ومذهبية وعرقية حتى أضحى العراق في ساحة صراع ثلاثي الأبعاد من حيث التنوع الثقافي والاجتماعي والسياسي الهوياتي بين السنة والشيعة والكورد.
إن نتائج الانزياحات المذهبية والصراعات الطائفية في العراق والذي كانت مختبئة وراء خطاب المواطنة, نتج عنه اليوم تقاسم السلطة على أساس الهويات الرئيسية في العراق بين الكورد والسنة والشيعية. ومع أن التقسيم كان قومياً ومذهبياً إلا انه كان مستتراً بمرادفات وألفاظ الوطنية والخطاب العراقي الوطني.
المشكلة الجديدة إن الخطاب العراقي لدى قسم من حكام بغداد تجاه المكونات ومنها الشعب الكوردي بقي هو-هو دون أي تغيير أو رادع أو تبديل، وأصبحت أكثر تعرضاً لاختراقات إقليمية تنتهج –الدول الإقليمية- سياسة تصدير أزماتها إلى الداخل العراقي وترسيخ المكونات الثلاثة في العراق/سنة، شيعة، كورد/ تحت خطابات عامة، أيديولوجية، تسعى إلى التعامل مع الثوابت والرغبات بدلاً من المتغيرات والتفاعلات وموازين القوى. ما عاب على الخطاب العراقي الرسمي في قسم من محطاته، إعادة صياغة الخطاب ذاته متثوباً برداء المواطنة، بدلاً من السعي إلى فكفكة إشكالية الكثرة والقلة التي تعصف بالمنطق منذ عقود.
في الوقت الذي كان التفكير السياسي العراقي عَقبَ سقوط نظام البعث في العراق، أحوج إلى تجديد مفاهيمه وخطاباته للانتقال إلى مرحلة بناء جمهورية العراق المثالية، والتركيز على دور العامل الداخلي وتقويته، والخروج بمشتركات وتطبيقات جامعة والوصول إلى هوية جمعية تلم الجميع تحت نظام اتحادي فدرالي، عمدت تلك الفئات إلى محاولة إعادة أحياء هرطقات سياسية على أمل فرض القبضة الحديدية على البلاد.
لايزال الكورد يشعرون بالغبن التاريخي الحاصل عليهم، ولا يزال العراق يُعاني من ضعف البنية التحتية والنزاع الطائفي، ولا يزال الشرق الأوسط كله يغلي بفعل انتقال موازين القوى بشكل مستمر بين مختلف الجهات. أمام هذه المعادلة قرر البارزاني إخراج الإقليم من دوامات النزاعات العرقية والدعوة إلى صيغة جديدة من التعامل قائمة على خيارين ( العيش وفق نظام كونفدرالي أو العيش كجيران)
البارزاني يُجدد الاستفتاء القديم.
أصدر الرئيس البارزاني رسالة بمناسبة الانتهاء من مئوية سايكس بيكو, واصفاً إياها بالمقسمة للشعوب والمنطقة دون أي استشارة من أحد, وظلمت الشعوب وخاصة الشعب الكوردي, وأن حقبة تلك المعاهدة قد انتهت وأصبح من الضروري عقد اتفاقية جديدة بخصوص الشرق الأوسط.
رسالة البارزاني كانت منذ حوالي سنتين أثناء حديثة لصحيفة الغارديان البريطانية، وأضاف أيضا أن على المجتمع الدولي تقبُّل أن سوريا والعراق لن تعودا كدولة موحدة من جديد وقال أيضا: “إن قَبِل قادة العالم أو إن لم يقبلوا فإن حلم الأكراد بتشكيل كردستان المستقلة سيصبح حقيقة في السنوات العشر القادمة”.
لكن توقيت الإعلان عن الاستفتاء يُثير جملة من الإشارات والأسئلة التي تتعلق حول مدى استغلال الإقليم لمآسي العراقيين من عدمه، أو قراءة الإقليم الصحيحة لتوجهات الإدارة الأمريكية الجديدة. لكن الأمر الأكثر أهمية في توقيت الاستفتاء يعود إلى انتهاء اتفاقية سايكس بيكو في نهاية هذا العام، وهو ما يعني ضرورة وجود اتفاقية جديدة، ويسعى الكورد إلى عدم الخروج دون حصة من الاتفاقية الجديدة، كما في جميع الاتفاقيات الدولية السابقة، كما أن إعادة ترتيب وصياغة الاتفاق الاستراتيجي بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني دفع بضمان ترتيب البيت الكوردي إلى السطح وساحة الأمان، وأدى إلى تفعل وتنشيط قرار الاستفتاء، وإن كان الاتحاد الوطني يخشى من تضخم الدعم الإيراني لحركة التغيير (كوران) ما يعني احتمالية تغيير موازين القوى أكثر في مدينة السليمانية، لكن المؤكد أيضاً أن البارزاني يسعى إلى قبض ثمن الدماء التي قدمتها البشمركة في تصديها لتنظيم داعش، عبر الحصول على ضمانات دولية بإجراء الاستفتاء على مصير كوردستان العراق
الدعوة للاستفتاء ليس بالأمر الجديد، فقد سبق في بادئ الأمر، توجّه أكراد العراق إلى صناديق الاقتراع للاختيار بين إعلان الاستقلال والبقاء ضمن العراق في إطار استفتاء غير رسمي جرى في كانون الثاني/يناير 2005. وفي حين لم يسفر التصويت بالإجماع تقريباً عن أي خطوات انفصالية فعلية، لكنها أيدت حق تقرير المصير، كما منحت المفاوضين الكورد أيدٍ قوية في بغداد، استخدموها لتأمين حقوق وصلاحيات أصبحت محفوظة الآن في الدستور العراقي.
يعيش الإقليم حالة لا استقرار داخلي بسبب حربها ضد داعش والخلافات الحزبية من جهة، ومن جهة ثانية نتائج التغيرات التي أصابت بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كنتيجة طبيعية لمُخرجات الربيع العربي. وربما هو ما دفع بالبارزاني للتأكيد على أن سوريا والعراق كدولة مركزية موحدة انتهت.
الكوارث والتحديات التي ألمت بالعراق والإقليم، دفع بمسئولي الإقليم إلى تصعيد حدة التصريحات المؤكدة والجازمة على قضية الاستفتاء، خاصة وأن تصريح السيد مسرور البارزاني رئيس جهاز وكالة امن إقليم كوردستان، يعد الأخطر والاهم في تاريخ العلاقات الكوردية- العربية، فلأول مرة يصدر من مسؤول كبير بوزن السيد مسرور البارزاني الدعوة العلانية إلى إنهاء العلاقة بين المركز والإقليم. والعمل على إقامة نظام سياسي جديد قائم على الكونفدراليات أو الانفصال التام، داعياً إلى حصول كل من الكورد والسنة والشيعية على عاصمة خاصة بكل منهم كضمانة لعدم تكرار المجازر والقتل على الهوية بعد فشل الفدرالية في العراق. مسرور البارزاني صرح لواشنطن بوست أن الثقة معدومة ومستحيلة بالحكومة العراقية ومن الاستحالة البقاء تحت سقف واحد
هل سيؤول الاستفتاء إلى الإعلان عن الدولة الكوردية
الاستقلال بحاجة إلى تراكم سياسي دبلوماسي وضمان اعتراف الدول العظمة، وفتح ممر تجاري عبر منفذ بحري خاص، أو مع دول لن تكّن العداء للدولة الفتية الوليدة. فهل يمكن القول أن دولة كوردستان ستبصر النور في الشرق الأوسط على المدى القريب، وما مستقبلها حين ذاك.
البيئة الداخلية على الصعيد الجماهيري والشعبي في كوردستان أضحت مساعدة كثيراً على أجراء الاستفتاء حول استقلال الإقليم، خاصة مع سيطرة قوات البشمركة على حدود الإقليم وضمن المناطق المتنازع عليها إلى حضن الإقليم بعد طرد داعش منها كسهل نينوى وسنجار وكركوك، لكن الوضوح التام فيما يخص المناطق المشمولة بالاستفتاء سيكون بعد تحرير الموصل بالكامل لأنها نقطة الفصل في رسم التوازنات الجيوسياسية والاجتماعية في العراق، إضافة إلى أن كركوك تعاني من خاصرة رخوة تعج بعناصر داعش. فقضاء الحويجة سيكون بمثابة موصل مصغرة، وستكون للقوات التي تحرر القضاء كلمة عليا في تحديد مصير كركوك في الانضمام إلى الإقليم من عدمه، علماً أن مجلس محافظة كركوك صوت على قرار إجراء الاستفتاء على ضم المحافظة إلى إقليم كوردستان مع مقاطعة قسم من أعضائه العرب التركمان. إضافة إلى أن قضاء الحويجة ربما يكون سبباً جديداً لبروز خلافات كوردية – كوردية فيما لو تقاربت أحزاب كوردية مع بغداد للسبق بتحرير القضاء رغبة في السيطرة على المخزون النفطي المرعب لكركوك.
سؤال الاستفتاء
ربما يحمل الإقليم ورقة نتائج الاستفتاء للمضي بضغوط كبير على بغداد، خاصة وإن كان الاستفتاء سيجري بمراقبة وإشراف دولي كبير. علماً أن ورقة الاستفتاء ستقتصر على اختيار الناخب لأحد كلمتين(نعم، لا) فقط. ففي حال نجح الاستفتاء في الحصول على النسبة المطلوبة سينجح الإقليم في إعادة تشكيل موازين قوى جديدة، ولن تجدي معها أي محاولات لا ترهيبية ولا ترغيبية للعدول عن تنفيذ رغبة الشعب الكوردي الذي يأمل الاحتفال بيوم إعلان الاستقلال وربما هذه الأخيرة ستكون بعيدة على المدى المتوسط، لن تجد بغداد أي مخرج من التفاوض وفق الشروط الكوردية. فمن المحتمل أن تحمل نتائج الاستفتاء نوع جديد من العلاقة بين المركز والإقليم، أساسه التواصل والحوار للوصول إلى صيغة جديدة من العلاقة بينهما، بدلاً من إعلان الكورد بشكل منفرد للاستقلال. وربما تكون بداية علاقة قائمة على عدم تدخل الطرفين في الشؤون الداخلية والخارجية للأخر، عبر تطبيق نظام حكم وشكل دولة جديد. لكن دون أي فصل تام، فالإقليم والمركز يعتمدان على البنية التحتية نفسها للاقتصاد، ومن الصعب الفصل المباشر بينهما بشكل سريع.
الصدام بين الإقليم وبغداد مُستبعد في الوقت الراهن على أقل تقدير، وهو يتوقف أولاً على مدى جدية اعتراف المركز بنتائج الاستفتاء، ورضا الطرفين على اللوحة السياسية الجديدة، خاصة وأن المركز يعاني من ضعف شديد على المستوى العسكري مع ضعف شخصية حكومة الرئيس العبادي من جهة، ومن جهة ثانية تضخم قوة تسليح البشمركة والدعم الدولي الدبولماسي والعسكري لها،وإذا ما وفاقت بغداد على أي نوع جديد من العلاقة بينها والإقليم، لن تجد لا تركيا ولا إيران أمكانية التدخل المباشر بحجة حماية حدودها. خاصة وأن الحرب أنهكت الكورد والسنة وحتى طبقة النخبة السياسية والدينية للشيعية في العراق، ولم يعد أحد منهم يرغب في خوض حرب جديدة.