جان كورد
أولا : – الهدف من التقرير وموضوعه:
بداية نذكر أن لا علاقة لهذا التقرير ولا المجموعة الكوردستانية الدولية بالأحزاب الكوردية، وإنما نعتمد على برامجها وسياساتها جميعاً وعلى برامج وسياسات الاتجاهات الفكرية والسياسية المختلفة في العالم عامة وفي الشرق الأوسط خاصة، بهدف التوصل إلى ما هو أفضل وأيسر للكورد المؤمنين بحق تقرير المصير لأمتهم والناشطين في مختلف المواقع والمجالات لإعلاء صوت الحرية الحقيقية بين أمتهم، في هذه المرحلة من كفاحنا الوطني العادل في سبيل بناء كوردستان حر ومستقل، آمن ومستقر يلحق بالركب الحضاري الذي تخلف عنه الكورد بسبب الحروب الدامية المستمرة على أمتهم عبر التاريخ.
إلى أين وكيف يجب أن نتحرك كوردياً، وسط هذا التزاحم للأحدث وتدافع المتغيرات من حولنا، وما السبيل لبناء قاعدة سياسية، بل استراتيجية سليمة وصلدة، لكل الحراك القومي الكوردستاني، في هذا العصر الذي تتفاعل فيه القضايا وتتداخل المساحات والدوائر، وتتشارك الأمم في المصالح وتضطر للعمل معاً في مواجهة التحديات الكونية العظمى التي تجابه الجميع على هذا الكوكب الصغير.
إن التفاعلات الجارية على أرض كوردستان لم تعد مجرد احتكاك أو تواصل بين مكونات كوردستان الاجتماعية، ولم تعد قضية قومية أو وطنية فحسب، وإنما هي مسألة دولية وملحة، بل صارت الدوائر الثلاث المؤثرة في القوى الفاعلة الكوردية متشابكة، وهي (الدائرة العالمية والدولية، الدائرة الإقليمية، والدائرة الكوردستانية)، لدرجة أننا لم تعد نستطيع التحدث عن وجود “قضية قومية كوردية” بذات النظرة المحدودة الأفق التي اكتسبناها عنها، أثناء “الحرب الباردة” بين المعسكرين الغربي والشرقي، فقد اقترب العالم منها بشكل مثير، أكثر مما اقترب الكورد أنفسهم من المجتمع الدولي، ولم يعد من الممكن تصنيف القضية الكوردية كمسألة محلية أو إقليمية، فتسبب هذا في تخلي البعض من المؤدلجين فكراً وسياسةً عن الطابع القومي لقضيتنا الكوردية كلياً، ظناً منهم أن التفكير القومي “رجعي ومتخلف”، وراح البعض يبحث عن نظريات رافضة لفكرة “الدولة الكوردية” و”الطرح القومي” ومؤيدة لتصوراته عن الحلول “العادلة”، فاعتقد أن “الكونفدرالية الفوق – قومية” أو “كنتنة كوردستان” دون غيرها، هي النموذج الأفضل لمعالجة قضيتنا، من دون الاعتراف بأن تحليلهم هذا لا يزال في حقل الماركسية – اللينينة التي جربها جزء كبير من عالمنا وثبت فشلها عملياً وواقعياً، حيث السياسة ترتبط، كما يعلم هؤلاء أيضاً، بالاقتصاد، والفاشل اقتصادياً ينزلق إلى الفشل السياسي حتماً. في حين أن التفكير بتعمق فيما عليه تشابك الدوائر الثلاث التي ذكرناها يمنحنا المجال والأدوات لمعالجة عملية لهذه القضية التي هي قضية أمة كبيرة، وفقط من خلال الفهم الصحيح لتأثيرات البعدين الدولي والإقليمي في الدائرة الكوردستانية، سلباً أو إيجاباً. ويجري هذا “الانسلاخ القومي” في عهد ما بعد “البريكس”، حيث دولة كانت تسمي نفسها بالمملكة العظمى تنسحب من الاتحاد الأوروبي، وتعود إلى السوق الوطنية والحدود الوطنية والمصالح الوطنية. كما نجد مساعي حثيثة في العديد من دول الاتحاد الأوربي، ومنها فرنسا وهولاندا واليونان للخروج منه والعودة إلى العملة الوطنية والدفاع عن الذات القومية، بعد أن حققت معاً إنجازات أوروبية عظيمة، وقد وصل رد الفعل هذا إلى درجة نشوء أحزابٍ قومية، منها المتطرفة في ألمانيا العريقة في الدعوة لبناء أوروبا موحدة ومتماسكة عضوياً من كل النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.
ثانياً: -التقرير
معلوم أن الولايات المتحدة الأمريكية متواجدة بمصالحها البترولية والاستراتيجية في المنطقة، منذ أن ظهرت كأقوى دولة في العالم، بعد الانتصار التاريخي الكبير على كل من ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، والعسكريتاريا اليابانية التوسعية. وهذا يعني أنها كانت حاضرة في الدول التي استمر فيها اضطهاد الأمة الكوردية، بشكلٍ أو بآخر، وهي (إيران، تركيا، العراق وسوريا)، وكانت لها مع حكومات هذه الدول اتفاقات أو معاهدات وأحلاف أو توافقات، وكانت تغض الطرف عما تفعله تلك الحكومات ضد الشعب الكوردي من مجازر، بمعنى أن “براميل النفط كانت تطفو على الدم الكوردي”، وفي الوقت ذاته، فإن الاتحاد السوفييتي، المنافس الأقوى للولايات المتحدة عالمياً كان يسعى باستمرار لانتزاع سوريا والعراق من أيدي الولايات المتحدة الأمريكية، باستخدام سائر الإمكانات المتوافرة، والدعاية القوية، وصون النظام البعثي الفاشي في البلدين، بتقديم المساعدات المختلفة له في المجالين العسكري وبناء السدود، والتدريب المهني والمنح الدراسية، والشحن الآيديولوجي الخطير، ضد الديموقراطية ( النظام الامبريالي الرجعي) والدين (أفيون الشعوب) على حدٍ سواء، بل ضربهما بعضهما البعض، وفي الوقت ذاته “تسويق” الشيوعية على أنها النموذج الأفضل والأرقى للمجتمعات البشرية. وقد نجح السوفييت في سوريا والعراق إلى حدٍ بعيد، حتى تم اعتبار البلدين خاضعين لإملاءات المعسكر الاشتراكي وقيادته الروسية، وخارجان عن دائرة الظل الأمريكي. وهكذا ظلت “القضية القومية الكوردية” سجينة في قفصين عالميين، لا مصلحة لصاحب أي منهما إبداء العون والمساعدة لتحرير الأمة الكوردية مما تعاني منه الاضطهاد وسرقة خيراتها وتجنيد شبابها لخدمة المستبدين بها، حتى كاد ابناؤها يشكون في أي نجاحٍ لهم، إلا بشكلٍ محدود في إطار التقسيم الذي تعرض له وطنهم بموجب الاتفاقية الاستعمارية (سايكس – بيكو) في عام 1916. بل إن الشيوعيين وقفوا مراراً ضد الحركة الوطنية الكوردية حفاظاً على مصالح المعسكر الاشتراكي مع نظامي حافظ الأسد وصدام حسين، واضطرت الأحزاب الكوردستانية إلى تغيير برامجها السياسية وسلوكياتها وعلاقاتها لتتأقلم مع الظروف الناجمة عن تقسيم الوطن الكوردي.
إلا أن فشل الشيوعيين مع نهاية القرن العشرين في الاتحاد السوفييتي قد تسبب في القضاء على ما كانوا يسمونه ب”منظومة الدول الاشتراكية”، فانهارت الشيوعية الأممية كبيتٍ من الورق بسرعةٍ مدهشة. في الوقت الذي سار الأوربيون قدماً صوب بناء الأسس الضرورية لقيام اتحادهم الأوربي، وقد أفسح هذا المجال للولايات المتحدة الأمريكية للتوغل في شرق أوروبا من خلال عقد اتفاقيات وتحالفات اقتصادية ومالية ونشر شبكات الدفاع الصاروخية في معظم الدول التي كانت تابعة مثل كويكبات صغيرة دائرة لعقودٍ من الزمن في فلك الشيوعية السوفيتية، وتمكن الأمريكان في عهد الرئيس الديموقراطي بيل كلنتون من توجيه ضربة جوية موجعة لنظام ميلوزوفيتش الصربي، وبذلك بدأت مرحلة جديدة من التعامل مع دول “حلف وارسو” الذي انفرط عقده، فتمزقت يوغسلافيا إلى عدة دول، في حين انضمت جمهورية ألمانيا “الديموقراطية!” إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية، بموافقة روسية وأمريكية، وتوالى فيما بعد انضمام دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوربي، متزامناً مع الحديث عما سمي ب”النظام العالمي الجديد” الذي أراد الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) تكريسه والدعاية له في خطابه السياسي على المستوى الدولي.
يبدو أن شعوب شرق أوروبا التي كانت متعطشة للحرية والانفتاح وللخروج من ظلام النظام الشيوعي، قد فهمت التغيرات التي جرت منذ انهيار المعسكر الاشتراكي، إلا أن بعض قيادات الحركة القومية الكوردية لم تجد في ذلك سوى مجالٍ لمزيد من الانتصارات الحزبية الوهمية، ومنها من ظن أن الشيوعية الروسية فشلت، إلآ أن هذا سيفسح المجال لشيوعية الصين أو كوبا لاكتساح العالم، فلم تتخلَ تلك القيادات عن رموزها وشعاراتها وراياتها الأممية، بل استمرت في الإكثار منها، وفي تمجيد “القائد المعصوم!” وفي نشر تربية آيديولوجية تبرر السقوط السوفييتي بانحراف الروس عن جادة الصواب للأممية الشيوعية، وليس بفشلها الذريع اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. وهذا تأكيد على التأثير السلبي والخطير للدائرة العالمية على “القضية القومية الكوردية”، فالتوجه الفكري الأممي، سواءً أكان صحيحاً أو في مسارٍ خاطئ ومنحرف قد أدى إلى ظهور أو بقاء قوى كوردية مستمرة في نهجها الكلاسيكي المؤدلج، على الرغم من تضاؤل النفوذ الروسي في الشرق الأوسط.
ولكن، يمكن القول بأن انهيار الشيوعية عالمياً قد أرغم القيادات الكوردية للتفكير في شأنها بعد الانهيار بمنظارٍ جديد، إذ لم يعد في إمكانها التحدث عن سياسة القطبين الدوليين والعيش بيأس في عالمٍ يتجدد.
وهذا الفشل الذي اعترف به كبرى القيادات الشيوعية في روسيا وفي دول أوروبا الشرقية قد جاء معه بمشاكل جديدة في مجالات الاقتصاد العالمي والنظام المالي الدولي ومشاكل البيئة وعقد تحالفات دولية جديدة بشروطٍ يحددها أو يفرضها العالم الغربي، وبتحولات الطاقة الشبابية والعلمية العظيمة من ناحية الشرق صوب الغرب، وباضطرابات في ميزانيات الدول وفي الإنتاج والتسويق، وبخاصة في مجالات الطاقة والبترول والغاز. وتعاظم مشاكل التصحر والمجاعة وهجرة الملايين من أفريقيا صوب الشمال، ومشاكل الأسواق المالية التي تعرّض البلدان للإفلاس الوطني كما حدث في اليونان، وتخافه بلدان مثل اسبانيا والبرتغال، كانت في زمنٍ ما تحتل أجزاءً واسعة من العالم، وهذا ما كان له تأثير سلبي كبير، ليس على الشعوب الضعيفة كالشعب الكوردي وسواه في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وإنما في دول المعسكر الاشتراكي المنهار، بل في دول الاتحاد الأوربي الثري والواسع الإنتاج والكبير الإمكانات أيضاً.
وهنا لا بد من التطرّق للتأثيرات القوية الناجمة عن الصراعات الإقليمية في القضية القومية الكوردية، فنقول بأنه لا يخفى ما لاتفاقية الجزائر المشؤومة في عام 1975 بين الشاه الإيراني ونظام البعث العراقي ومن ثم سقوط الشاه الإيراني في عام 1980، وصعود نجم الملالي الطائفيين إلى الحكم في طهران، وبالتالي نشوب حرب دموية طويلة دامت أكثر من 8 سنوات بين البلدين المتجاورين: إيران والعراق، من تأثيرات بأشكالٍ مختلفة في مجمل الكفاح الوطني الكوردي، فمن جهة أضر انهيار اقتصاد البلدين باقتصاد كوردستان بشكلٍ واضح، وأضطر الألوف من الشباب الكوردي إلى النزوح من وطنهم كيلا يتم اقتيادهم إلى جبهات القتال، ومنهم من انضم إلى البيشمركة التي لم تكن ذات قيادة مشتركة رغم الفرصة التاريخية النادرة التي وقعت في أيدي القيادات السياسية الكوردية من جراء انشغال جيوش الدولتين ببعضهما، ومما زاد في الطين بلة، أن كلاً من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة قد استمرا في مد النظامين المتحاربين بالسلاح والخبرات المختلفة، بهدف إرهاقهما وإرغامهما على تقديم مزيدٍ من التنازلات لهما وفتح الأبواب لمصالحهما. لم تتمكن القيادات الكوردية من استغلال الظروف الناجمة عن الحرب بين دولتين تقتسمان كوردستان، بل إن الكورد تعرضوا لشتى أنواع المذابح ولحرب الأنفال في تلك الحقبة (1980-1988)، في حين كانت قياداتهم تتناحر وتستخدم السلاح ضد بعضها بعضاً، وإن فاجعة مدينة حلبجة في عام 1988 هي واحدة من شواهد الانهيار السياسي الكوردي في تلك المرحلة، مهما حاول البعض صقل وتلميع صورته آنذاك، في حين عكست الصراعات الدموية بين القوى الكوردية في التسعينيات من القرن الماضي “الانحطاط السياسي” للسياسات الكوردية. لقد تحدث العالم بأسره عن الكارثة الكوردية والموضوع الكوردي وضرورة أن يتحد الكورد، إلا أن الصراع السياسي الفعلي لأمتنا ظل في إطار النزاع الإقليمي المحدود، ولم تتحول القضية الكوردية إلى “قضية دولية” كالقضية الفلسطينية مثلاً، رغم الجهود المبذولة من بعض القادة الكبار وكذلك من أصدقاء شعبنا، ولنأخذ فكرةً قريبة عما جرى في جنوب كوردستان، بين انهيار الثورة الكوردية في عام 1975 وأواسط التسعينيات، لا بد لنا من قراءة كتاب جوناثان راندال “أمة في شقاق”.
السياسة الكوردية في جنوب كوردستان:
فتح غزو الجيش الصدامي للكويت في عام 1990 ثغرة في نظامه الاستبدادي، حيث اعتبر العالم الغربي ذلك “خطاً أحمر” لما سيحدثه استمرار الغزو من تداعيات إقليمية خطيرة، قد تؤدي إلى حرب شاملة بين إيران والمملكة العربية السعودية ودول وامارات الخليج. وفي حال ازدياد زعيم طائش مثل صدام حسين قوةً عسكرية ومالية، فإنه ربما يحتل بلداناً عربيةً أخرى، ومنها الكويت وسوريا والأردن بالدرجة الأولى، وهذا يعني بناء جبهة عربية واسعة وقوية وذات تمويل مالي ضخم، تصبح خطراً على وجود دولة وشعب إسرائيل والعديد من الممالك والإمارات العربية الحليفة للغرب في المنطقة، ولذا سرعان ما تحرك زعماء العرب وطلبوا من حلفائهم الغربيين بإخراج صدام حسين من الكويت وإعادة العائلة المالكة هناك للحكم ثانيةً بعد أن هربت أثناء الغزو.
تمكن الكورد في جنوب كوردستان الاستفادة جزئياً من نتائج “حرب الكويت”، إلا أن تبعية بعض قياداتهم لدول إقليمية حال دون تحقيق فوائد أكبر، فالذين كانوا في ظل نظام الملالي في إيران وسوريا، واعتبروا النظامين فيهما “حلفاء!”، لم يتحركوا إلا بموجب قرارات طهران ودمشق، ولم يتمكنوا من فهم أولويات الصراع لدى هاتين العاصمتين، مما أدى إلى نزاعات مسلحة داخلية في إقليم جنوب كوردستان، راح ضحيتها الآلاف من المقاتلين، خدمةً لتلك القوى الإقليمية التي أرادت التوسع في العراق، على حساب الشعبين العربي والكوردي، وكان لها ما أرادت فيما بعد. وهذا يبين إلى أي حدٍ تؤثر النزاعات الإقليمية في المنطقة على قضيتنا القومية، طالما قياداتنا لا تخرج عن نطاق تفكيرها الحزبي الضيق الأفق، رغم كل التغيرات الفجائية والتطورات الطبيعية التي تخلق معها فرصاً سانحة يمكن الاستفادة منها بشكلٍ جيد لمجمل الكفاح القومي الكوردستاني.
إلا أن العالم تغيّر بشدة، منذ هجمات 11/ ستمبر عام 2011 الإرهابية على الولايات المتحدة الأمريكية، إذ دخل الإرهابيون المتشددون دينياً على الخط، ليعطوا العالم الغربي “عدواً” يحتاج إليه للاستمرار في انتاج المزيد من الأسلحة وتوسيع الأجهزة الاستخباراتية، وتطوير الطائرات من دون طيارين، وبناء الفرق الخاصة بمختلف الأسماء والوظائف، ومد أجهزة الإعلام العملاقة بمزيدٍ من المال بهدف تلمييع “صورة” الغرب وتحطيم صور أعدائها أو منافسيها، وشن الأمريكان مع حلفائهم على أثر تلك الهجمات التي جاءت كحلقة من مسلسل هجمات سابقة على البعثات الأمريكية الدبلوماسية في أفريقيا، حربين واسعتين ومدمرتين، عل أفغانستان أولاً ثم على العراق ثانياً في عام 2003، حيث تم القضاء على نظام صدام حسين، وحل المندوب السامي الأمريكي يول بريمر الجيش العراقي، وتم حظر نشاط حزب البعث العربي الاشتراكي، وملاحقة رؤوس النظام البائد، ومنهم القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، صدام حسين، الذي كان بعض العرب يسمونه ب”حارس البوابة الشرقية”، فوجدوه من دون بذلته العسكرية لأول مرة، في جحرٍ تحت الأرض، لوحده، يائساً تعيساً، لم ير العالم قائد شعبٍ في مثل وضعه الذليل من قبل.
إن سقوط صدام حسين وانهيار نظام البعث في العراق، فتح الباب على مصراعيه للكورد لأن يتحركوا في عدة اتجاهات:
– إظهار حجم المعاناة والكارثة التي لحقت بالشعب الكوردي في ظل حكم البعث وبخاصة منذ عام 1968
– السعي لتحرير كافة المناطق التي نشر فيها حكم البعث من خرابٍ ودمار، وأجرى فيها التعريب بهدف تشويه ديموغرافيتها، وبخاصة تلك المناطق التي يتواجد فيها
البترول، مثل كركوك.
– فك الحصار الشديد الذي كان قد أقامه نظام صدام حسين على إقليم جنوب كوردستان، بهدف منعه من التواصل بالعالم الخارجي.
– توحيد وتطوير قوى الشعب الكوردي الانتاجية ومؤسسات الإقليم وتوحيد “البيشمركة”.
– بناء نظام برلماني، ديموقراطي وحر، يفسح المجال لجميع مكونات واتجاهات السياسة للإقليم للمساهمة في بناء مستقبلٍ آمنٍ ومستقر للشعب الكوردي، لإعادة ترتيب البيت الكوردي.
– وضع خطط عديدة لإعادة إعمار كوردستان التي صارت قاعاً صفصفاً بسبب الحروب وحرب الأنفال خاصة، والعمل للحصول على مساعدات دولية في هذا المجال.
– التوصل مع مكونات العراق المختلفة إلى نوعٍ متمدن من إدارة البلاد، بهدف مساهمة حقيقية للكورد والأقليات القومية والدينية فيها، وتحمل المسؤوليات الوطنية، على أساسٍ من العدل والإنصاف وإحقاق الحقوق والتعويض للمتضررين من حروب الطغيان البعثي، ووضع دستور جديد للعراق، يضمن “الفيدرالية” لكوردستان، على كامل ترابها الوطني، متزامناً مع إزالة كل المعوقات، ومنها سياسة التعريب والتهجير للمواطنين الكورد عن مناطقهم الأصلية وإحلال العرب فيها، والعمل معاً من أجل بناء العراق الحر الديموقراطي الجديد، بالتواصل والتضامن والتفاعل مع المحيط الإقليمي والعالم الخارجي.
ولأول مرة في التاريخ الحديث يصل الوضع في جنوب كوردستان إلى درجة الاعتراف به كقاعدة أساسية من قواعد العمل والتنسيق مع الحلف الأمريكي – الأوربي في الحرب ضد الإرهاب وضد سياسة التوسع الإيرانية. إلا أن التنسيق الأمريكي مع الكورد عسكرياً وسياسياً لم يكن يرضي الأتراك الذين يعلمون جيداً بأن انتصار الكورد في أي جزءٍ من أجزاء كوردستان سيؤثر إيجابياً في الأجزاء الأخرى، فهم يريدون أن يكون كل ما يتعلق بالكورد عن طريقهم فقط، إلا أن ما كان الأتراك يتخوفون منه قد تعاظم واستمر، بل إن الأمريكان ساعدوا كثيراً في أن يحتل الكورد مكانتهم الطبيعية في بغداد كمكونٍ أساسي من مكونات العراق القومية، وأن يساهموا في وضع دستورٍ للعراق الجديد، فتم الاعتراف بأن تكون لهم “فيدرالية” تتمتع باقتصادٍ خاصٍ لها، وسلطاتٍ تشريعية وتنفيذية وقضائية، وتم تقسيم السلطة التنفيذية في بغداد معهم، فحصلوا على رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية وبعض الوزارات الأخرى، كما تولى قائد البيشمركة أعلى المناصب العسكرية في العراق. وهذا يؤكد أن الدائرة الدولية هي التي طغت وسادت وساعدت على تقليص التأثيرات الإقليمية السلبية في سياسة ووجود الإقليم، في حين اندحر المشروع الإيراني وكذلك التركي الذي كان يطمح في أن تعطيها الولايات المتحدة كركوك بسبب وجود أقلية تركمانية فيها. ومنذ ذلك الحين والقيادات الكوردية تشعر بأن عليها تصعيد نضالاتها كقوى مطالبة ب”الفيدرالية القومية والنظام السياسي الديموقراطي” والتحول إلى قيادات قادرة على ملاءمة الحراك السياسي – الدبلوماسي الدولي.
وبالنسبة إلى حكومة إيران القائمة على التوسعية الفارسية برداء إسلامي طائفي، والتي لا تزال تمارس الحكم باستبدادية مطلقة، منذ سقوط حكم الشاه، فإنها تتعامل على طول الخط مع الشعب الكوردي ليس في شرق كوردستان وحدها، وإنما في سائر أنحاء كوردستان، تعامل الآثم المعتدي الهمجي، وتسعى إلى تدمير شعبنا بكل ما لديها من فنون الإرهاب الفكري والسياسي والمذهبي، وهي حقيقةً مسيطرة على النظام السياسي في بغداد، وتسعى للسيطرة على الإقليم الكوردي أيضاً، وعملت على الدوام لاستمرار الانقسام السياسي في الصف الكوردي بالمال الوفير وبث الفتن واستخدام لغة التهديد مع الترغيب، والسعي إليه بسبب التواجد الشيعي الكبير في العراق، وتسلل مواليها إلى مراكز القرار العراقي، حيال بعض القوى السياسية والشخصيات الهامة بين الكورد، وكاد يتم لها ما أرادت القيام به في جنوب كوردستان، بسبب سياسة النأي بالنفس عن المشاكل الخارجية، التي انتهجها الرئيس الأمريكي السابق باراك حسين أوباما، خلال الأعوام الثمانية الماضية، إلا أن إيران، رغم تأثيرها العميق في بغداد وفي بعض فصائل السياسة الكوردستانية في العراق، لا تستطيع، بسبب وجود أغلبية كوردية سنية فيه، فرض إرادتها على السياسة الكوردية في جنوب كوردستان كلياً، ويلعب الوجود الأمريكي في كوردستان دوراً هاماً في التصدي للمؤامرات الإيرانية، وهذه فرصة تاريخية ليتمكن شعبنا من تحرير نفسه من هذا النظام الطائفي والتوسعي الخطير، ويجدر بنا التطرق في هذا التقرير قبل الانتهاء منه، إلى الأسلوب الذي يجب أن يتم به ذلك.
يسير إقليم جنوب كوردستان منذ أكثر من عقدٍ من الزمن مسيرة جيدة، في مختلف المجالات العمرانية والتنموية، إلا أن أعداء الكورد وكوردستان المتعاونين سراً وعلانية في مخططاتهم حيال كوردستان، لا يتوانون عن ارتكاب جرائم عظيمة بحق الكورد، منها قطع رواتب موظفي كوردستان، والتآمر المستمر لمنع الكورد عن بيع البترول الذي ينتجونه من أرضهم ويحاولون تسويقه بأنفسهم، كما لا يتوانون عن إثارة الفتن والمشاكل بين الأحزاب الكوردية، ويحاولون إضعاف وإرهاق قوات البيشمركة بمختلف الأساليب، حتى وصل الأمر في عهد رئيس الوزراء نوري المالكي إلى ترك مدينة الموصل العراقية بما فيها من أموال كثيرة وأسلحة حديثة وجيدة لتنظيم الدولة (داعش)، مقابل أن يبدأ بالهجوم على كوردستان في حربٍ شرسة، ضحى فيها الكورد بآلاف المقاتلين، وكاد الإرهابيون يدخلون كوردستان، لولا الدعم الجيد الذي قدمه الأمريكان والأوروبيون الذين اكتشفوا بسرعة أن البيشمركة من أهم الجيوش في منطقة الشرق الأوسط في الحرب ضد الإرهاب، في حين أن الجيش التركي، العضو في حلف الناتو، كان يتفرج على هجوم (داعش) على مدينة كوباني الكوردية في غرب كوردستان، من مسافة مئات الأمتار، من دون حراك، بل ثمة ما يشير إلى دعم تركيا في البداية ل”داعش” بهدف القضاء على المقاومة الكوردية التي تألقت فيها صورة المحاربات الكورديات أمام العالم بأسره.
وعلى الرغم من انتصار البيشمركة في مقاومة هجوم الإرهابيين، فإن جهاتٍ عراقية ذات تأثيرٍ في السياسة العراقية لم تتراجع عن خطة تجويع شعب كوردستان، ومحاولات ضرب الكورد بعضهم ببعض، وتأليب أحزاب من خارج كوردستان على قيادة الإقليم، ومنها دفع حزب العمال الكوردستاني لسلخ منطقة “شنكال” عن كوردستان، بالتعاون والتنسيق مع “الحشد الشعبي” الذي يأخذ أوامره من إيران وليس من الحكومة العراقية، وتهديد بعض زعماء “قنديل” مثل جميل بايق ودوران قالقان بأنهم مستعدون لحرق جنوب كوردستان بأسره، في حين هم غير قادرين كما أكدت أحداث عام 2016، على إبعاد خطر الجيش التركي عن مدينتي نصيبين وجزرة الواقعتين في مرمى بنادقهم داخل شمال كوردستان.
ولذلك فإن المخاطر محيطة بإقليم جنوب كوردستان، والطريق الذي يجب الاستمرار عليه هو انتزاع الاعتراف الدولي به ككيان مستقل سياسياً، وإعلان الاستقلال يمكن أن تقوم به القيادة الكوردية من دون حاجة لاستفتاء، مثلما أعلن الرئيس الشهيد القاضي محمد استقلالها في مهاباد عام 1946، وهذا يعني رضوخ أعداء الكورد وكوردستان للواقع على الأرض، والاستقلال سيظل ناقصاً دون استعادة البيشمركة سيطرتهم على سائر أنحاء الإقليم، من “شنكال” إلى “قنديل”، رغماً عن أنف إيران والحشد الشعبي وعملاء إيران من الكورد. وهنا تبدو العلاقة الحميمة بين قيادتي الحزب الديموقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني ضرورة وطنية لا يمكن التراجع عنها بأي حالٍ من الأحوال، بل هو الطريق الأمثل لحماية منجزاتهما المشتركة في الإقليم. أما باقي الأحزاب والكتل السياسية مثل التغيير والإسلاميين فعليها واجب دعم القيادة الحكيمة للسيد الرئيس مسعود بارزاني ونائبه ومساعديه ومستشاره، لأن استقلال الكورد سيعود على جميع شعبنا بالخير إن شاء الله، ويكفي أن ظل الكورد لقرونٍ من الزمن عبيداً لغيرهم في أرض وطنهم كوردستان، ونؤكد أن ليس ثمة أي آيةٍ قرآنية تمنع أو تشريع دولي يمنع شعباً من الشعوب عن تحقيق وحدته القائمة على العدل والسلام والافتراق على حق أفضل من الاتحاد قسراً وعلى ظلم.
السياسة الكوردية في شرق كوردستان:
بمتابعة تطورات الموضوع الكوردي في شرق كوردستان لا نجد أي تقدم أو تطور ملحوظ، إلا مؤخراً، فقد استمر الطغيان الفارسي في تحطيم كل القواعد الضرورية لتطور الحركة الوطنية الكوردية، منذ أن اغتالت أجهزة استخباراتها الدنيئة قائد الحراك الديموقراطي المعارض للشعوب الإيرانية، ورئيس الحزب الديموقراطي الكوردستاني – إيران، الدكتور عبد الرحمن قاسملو، على طاولة للمفاوضات السرية بينه وبين ممثلين للحكومة الإيرانية في فيينا (النمسا) عام 1989، ومن ثم اغتالت خلفه الدكتور صادق شرف قندي ورفاقاً آخرين له في مطعم ميكونوس في برلين (ألمانيا)، بمناسبة حضورهم مؤتمراً للاشتراكية الدولية آنذاك في سبتمبر 1992، في حين فشلت الحركة القومية الكوردية في شرقي كوردستان حتى في أحلك الظروف في أن تتحد أو تتضافر وتتضامن في نشاطاتها وخطابها السياسي – الإعلامي ضد سياسة الصهر والاقصاء والقمع التي تنتهجها حكومات الملالي المتوالية على الحكم في طهران، نعم إنها ناضلت بقوة في كل الظروف الصعية، ولكن بنت في الوقت ذاته بين بعضها بعضاً جدراناً عازلة، رغم كل نداءات الشعب لها من أجل التوحد أو تشكيل جبهة فيما بينها. وفي السنوات الأخيرة الماضية تأكد الحزب الديموقراطي الكوردستاني في ظل قيادة أمينه العام السيد مصطفى هجري أن سياسة الإعدامات المستمرة من قبل حكومة طهران للمناضلين الكورد والعرب والبلوج تتطلب سلاح المقاومة والدفاع عن النفس بشتى الوسائل، منها العودة إلى الكفاح المسلح لتحقيق جملةٍ من الأهداف، منها:
– الفيدرالية لشرق كوردستان ضمن اتحاد وطني لكافة مكونات إيران القومية والدينية
– تغيير النظام الإرهابي الطائفي بنظام وطني، ديموقراطي حر، يضمن مساهمة فعالة لكافة قوى الشعوب الإيرانية
– ترتيب العلاقات السياسية والاقتصادية في جوٍ من السلم والأمن والاستقرار مع كافة جيران المنطقة والعالم الخارجي.
وهذا يعني أن الطريق للتقدم إلى الأمام، وهي وعرة وشائكة، وتتطلب التضحيات الجسام، لن تُسلَك إلا بمزيد من التلاحم القومي الكوردي والتعاون الوثيق مع القوى الوطنية والديموقراطي الممثلة للشعوب الإيرانية، وتعزيز التحالف مع الدول العربية التي لا تزال تعاني باستمرار من محاولات الهيمنة الفارسية وإرهاب الملالي ومساعي طهران للسيطرة على أجزاء من العالم العربي، كما يجب تعميق العلاقات مع العالم الحر الديموقراطي ومختلف الدول على أساس المصالح المشتركة. وهنا تقع مسؤولية دعم الثوار المخلصين لوطنهم كوردستان ولحياةٍ مشتركة في الحرية والسلام مع سائر شعوب المنطقة، على الدول العربية بالتأكيد لأنها يجب أن تنقل المعركة إلى داخل إيران، بعد أن تدخلت إيران حتى في اليمن، بعد البحرين وسوريا ولبنان.
السياسة الكوردية في شمال كوردستان:
أما تركيا، فهي تعلم جيداً أنها بحاجة إلى الكورد أكثر من العرب والتركمان، في صد الغزو الطائفي الفارسي في المنطقة، كما تعلم قيادتها السياسية أن بقاءها في السلطة مرهون بمدى دعم الكورد لها في أي انتخاب أو استفتاء كان في الداخل التركي. ونتائج آخر (3) انتخابات في تركيا ترينا بوضوح أن أي نجاح لحزب العدالة والتنمية ما كان ليتحقق لولا تزايد دعم الكورد بأصواتهم الانتخابية له، وهذا يعني أن تركيا كدولة إقليمية تشكلت بعد انهيار الامبراطورية العثمانية الواسعة في عام 1923، على أساس “شعب واحد، لغة واحدة”، أشد حاجةً للكورد من حاجة الكورد لها، سواءً أكان ذلك في شمال كوردستان أو في جنوبها. وهي في الواقع لا تستطيع فرض نفسها على الإقليم الجنوبي سياسياً، لذلك فإنها شرعت في انتهاج سياسة “احتواء” اقتصادية بهدف السيطرة على اقتصاده، والمسيطر على الاقتصاد – كما نعلم – هو الذي يحدد احداثيات السياسة فيما بعد. وقد نجح الأتراك في سياستهم الاقتصادية في جنوب كوردستان إلى حدٍ بعيد، في حين لم يتمكن الكورد – رغم امتلاكهم أسواقاً واسعة وإمكانات هائلة في مجال النفط وتنامي قواهم السياسية في العرق من التأثير المباشر في السياسة الداخلية التركية.
شهد تاريخ تركيا الحديث ثوراتٍ كوردية شهيرة، مثل ثورة الشيخ سعيد بيران 1925، ثورة آغري 1927- 1930 وثورة ديرسم بقيادة الشيخ علي رضا في عام 1937، وأعقبت هذه الثورات مجازر وإعدامات، منها مجزرة وادي زيلان التي راح ضحيتها الآلاف من الكورد، نساءً وأطفالاً وشيوخاً، وحقيقةً تقشعر أبدان الإنسان لهول وفظاعة الممارسات التي ارتكبها الأتراك بحق الشعب الكوردي، حيث لا تقل عن بشاعة ودناءة ما ارتكبوه سابقاً بحق الشعب الأرمني، إلا أنه ليس للكورد أصدقاء أقوياء ليدافعوا عنهم أو على الأقل أن يتحدثوا عما جرى لهم في تركيا التي أسسها مصطفى كمال. ويتألم المرء عندما يرى الجيش التركي يهاجم على شمال قبرص ويحتله ويعلن هناك قيام دويلة تركية، في حين يرفض النظام السياسي، الديموقراطي والعلماني والطوراني، الاعتراف بحق تقرير المصير لأكثر من 25 مليوناً من الكورد يعيشون على أرض وطنهم منذ أيام ميتان وميديا والكاردوخ، في حين أن الأتراك جاؤوا بعدهم من صحارى آسيا البعيدة إلى المنطقة بمئات القرون من الزمن.
وفي تركيا هذه قامت حركات سياسية كوردية، بعد فشل الثورات وتدمير البنى التحتية لكوردستان وعلى أثر حملات التتريك والتهجير الواسعة من كوردستان إلى غرب تركيا، مع دوام سياسة العداء التام لكل ما هو كوردي، إلا أنها لم تكن حركة قومية واحدة ومتماسكة بسبب الظروف التي مرت فيها كوردستان، ومن أخطرها ظروف التتريك بالقوة، ومنها (حركة تحرير كوردستان – كوك) و (د.د.ك.د) و (رزكاري) وسواها، إلاّ أن المخابرات التركية والشيوعيين والمنظمات اليمينية التركية المتطرفة كانت لها بالمرصاد، ومن القوى التي جندتها الحكومة لتصفية هذه الحركات القومية الكوردية، حزب العمال الكوردستاني الذي تأسس في عام 1979 فعلياً، ومن وثائق وأرشيفات الكورد نلاحظ أن الحكومة ما كانت لتتخلص منها دون تقديم حزب العمال الكوردستاني لها خدمة كبيرة في هذا الشأن. وكانت حملة التصفية لكوادر (كوك) رهيبة وشاملة مع الأسف، وإلى اليوم لا نجد من تولى أمر الكشف عن هذا التاريخ الدموي الذي تعرضت له الحركة القومية الكوردية في شمال كوردستان، سوى بعض شذرات الاعتراف التي وردت في كتابات السيد عبد الله أوجلان بذاته، وما ذكره بعض قادة تلك التنظيمات الكوردية المتواجدين في المهاجر.
لقد بدأت مرحلة جديدة في الصراع السياسي الكوردي في شمال كوردستان بانطلاق شرارة الكفاح المسلح الذي أعلنه حزب العمال الكوردستاني في عام 1984، وهذا الكفاح المسلح قد أتى كرد فعلٍ أساسي على مشاريع بناء السدود الضخمة في تركيا وحجز كمياتٍ هائلة من ماء نهر الفرات عن سوريا والعراق، مما أدى إلى توترات بين البلدين الذين تنازعا على كميات الماء المستحقة لكلٍ منهما، وبالتأكيد، فإن انقلاب الجنرال كنعان إيفرين الدموي في عام 1980 واستمرار السياسة العنصرية الطورانية للحكومات التركية البورجوازية ضد شعب كوردستان كان سبباً هاماً للثورة عليها، والسبب الآخر للثورة هو سيطرة عناصر من الطائفة العلوية ومن الأمن السوري على رئيس حزب العمال الكوردستاني، بعد التجائه إلى سوريا ومكوثه في دمشق و في وادي البقاع اللبناني، الذي كان خاضعاً للسيطرة السورية الفعلية، وكان ولا يزال مطلب الطائفة توحيد العلويين في سوريا وتركيا ضمن كيانٍ لهم، وأوجدوا لذلك حركة “أجيجيلر” التي تحالفت مع حزب العمال وعززت من دعم نظام حافظ الأسد لهما، حتى تم تهديد تركيا لدمشق في عهد رئيس الوزراء بولند أجاويد الذي أكد استعداده لغزو شمال سوريا كما غزا من قبل شمال قبرص، فتغيرت المعادلة وخسر الكورد خسارةً فاضحة، وتم اعتقال السيد أوجلان الذي هرب إلى أوروبا عوضاً عن الالتحاق برفاقه في جبال كوردستان، ومن ثم ذهب إلى كينيا في أفريقيا، وهناك تم اختطافه وإحضاره إلى تركيا ليلقى عقوبة السجن المؤبد، لأن تركيا كانت قد ألغت حكم الإعدام قبل ذلك، ولا يزال بعد 17 عاماً في قبضة الأتراك يستخدمونه كيفما شاؤوا، في تحريف أهداف كفاح الشعب الكوردي العادلة، وفي دوام سياسة التتريك وتحبيذ الولاء للدولة التي لم تدع سياسةً إجرامية إلا ومارستها ضد الشعب الكوردي باستمرار، بل زادت من حدتها بعد قيام حزب العمال بالثورة، حيث دمر الجيش التركي آلاف القرى، وهجرت الملايين من الكورد، وقضت على الأخضر واليابس كما تقول العرب، بذريعة أن “الحكومة تحارب أعداء الدين!” بجيشها “المحمدي!”، وهي التي تزعم في الوقت ذاته أنها “علمانية وديموقراطية ومدنية”.
بعد إحراز “حزب العدالة والتنمية” الذي تأسس في عام 2001 نسبة الأغلبية التي تؤهله لتشكيل الحكومة 34.26 % من أصوات الناخبين في انتخابات عام 2002، لم يتمكن السيد رجب طيب أردوغان تسلم منصب رئاسة الوزراء لأسباب محكوميته في وقتٍ مضى، فانتظر حتى 11 آذار 2003، في حين أصبح زميله عبد الله غول مهام وزير الخارجية، ومنذ ذلك الحين ظهرت بوادر تجديد في السياسة التركية الداخلية والخارجية، في ظل التغييرات الدولية العظيمة التي أفرزها قيام نظامٍ عالمي جديد، ففي الداخل سعت حكومة أردوغان إلى التطوير والتنمية الاقتصادية، بهدف منع الأحزاب الكلاسيكية التي كانت تمتص خيرات البلاد من العودة إلى الحكم، وعملت على تقليم أظافر الجنرالات لمنع قيامهم بأي انقلاب عسكري جديد في تركيا، وأدركت أنه لا بد من حلٍ للقضية الكوردية التي تكلف تركيا مليارات الدولارات سنوياً وجعلتها تئن تحت وطأة الهجرة المليونية من شرق البلاد إلى غربها، بحيث ضعف الإنتاج الزراعي بشكلٍ رهيب، وتزايد عدد العاطلين عن الشغل في المدن الكبيرة، مما يؤدي إلى مزيدٍ من المشاكل والاضطرابات، فكان لابد من عمل في هذا المجال، وبحكم أن حزبه ذي خلفية إسلامية، فقد بدأت الحكومة بتطبيق ما يدل على توجهه الإسلامي، وبخاصة في محافظات كوردستان، حيث الأغلبية الكوردية السنية تمنح حزبه أصواتها الانتخابية، فأصبحت السياسة الداخلية تظهر في رداءٍ جديد، مختلف عن رداء الأحزاب الكلاسيكية التركية التي كانت تود إظهار ذاتها كأحزاب “علمانية” و”غربية” لا علاقة لبلادها بالشرق والجنوب، وتمكن حزب العدالة خلال سنواتٍ قليلة من القضاء على نفوذ حزب العمال الكوردستاني في شمال كوردستان، رغم لجوء الحزب إلى اتباع سياسة جديدة متنكرة لحق تقرير المصير للشعب الكوردي، وخاضعة للأتاتوركية ومؤمنة بالولاء للدولة، وذلك بأن مارس حزب العدالة والتنمية سياسة التنمية والاسلمة في شرق البلاد وأظهر السعي لتحقيق السلام الوطني وسد باب العودة إلى القتال والدمار، ومن أجل ذلك بنى جسوراً عديدة مع إقليم جنوب كوردستان وطلب مساعدة رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني للتوسط لعقد السلام بين حزب العمال الكوردستاني والدولة التركية.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد عملت حكومة أردوغان من أجل تسريع الخطوات لانتساب تركيا إلى “الاتحاد الأوربي”، وزعمت أن أسلمة المؤسسات في الداخل التركي لا تعادي ولا تعاكس الطموحات التركية الجادة في الحياة الأوربية، بل إن تركيا ستكون بمثابة القلعة الحصينة لأوروبا من ناحية الجنوب الشرقي. ولكنها حرصت في الوقت ذاته على اعتبار حزب العمال الكوردستاني وسائر التشكيلات المنبثقة عنه في الشرق الأوسط والعالم، منظماتٍ إرهابية يقع على عاتق الأوربيين والحلفاء الأمريكان اعتبارها منظمات إرهابية أيضاً، وقد نجحت في ذلك بمساعدة من بعض العقول المتحجرة في حزب العمال ذاته، تلك التي دفعت باتباعها إلى ارتكاب جرائم وممارسات عديدة لسنواتٍ طويلة في أوروبا، حتى قام البعض بتشكيل “محاكم الشعب” السرية ، بل والعلنية أيضاً، واتبعت هذه العناصر المسؤولة سياسة لا تقبلها دول الاتحاد الأوربي ولم تعد تطيقها.
إلا أن هذه السياسة ذات الحدين المتنافرين لحزب العدالة والتنمية قد اصطدمت بحقيقة أن البناء الثقافي الطوراني في تركيا قائم على أساسٍ عنصري مقيت، لا يمكن تطويره إلا بتغيير مواد التربية والتعليم في المدرسة والمسجد وفي السوق التركية أيضاً، فعدم الاعتراف بالوجود القومي الكوردي الذي كان سمة السياسة الرسمية للبلاد، يتعارض كلياً مع مبادئ الدين المشترك (إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) الذي يجمع الشعبين التركي والكوردي، كما يتعارض مع ميثاق الاتحاد الأوربي المؤمن ب”حق تقرير المصير للشعوب” تماماً، فإذا بأوروبا تطالب الحكومة التركية بمزيدٍ من التعديلات الدستورية، وخاصة في مجال الاعتراف بحقوق الأقليات والحريات الإعلامية وحقوق المرأة والأطفال، كما تطالبها بالاعتراف بالمذابح الكبرى بحق الشعب الأرمني، مما أثار حفيظة حزب العدالة والتنمية، وبدأ يتململ من كثرة مطالب الاتحاد الأوربي التي لن يحققها أي حزب تركي حاكم، فلجأ إلى انتهاج سياسة مناوئة، بل معادية لدول ديموقراطية وأساسية في الاتحاد، وبخاصة ضد ألمانيا وفرنسا، ووصلت اتهامات السيد رجب طيب أردوغان لقيادات الدول الأوربية الديموقراطية إلى مستوىً لم يعد عاقل واحد في أوروبا ينصح حكومة بلاده بالسكوت عنها، بل بدأت حملة شرسة وواسعة لمنع تركيا من دخول الاتحاد في المستقبل القريب أو البعيد. ومن تلك التهديدات التي أطلقها السيد أردوغان: سنفتح الباب ليصل إليكم ملايين اللاجئين عن طريق تركيا، سألقن أوروبا درساً لن تنساه، ستعلمون أهمية تركيا بالنسبة لأمن بلدانكم. وهذا ما وجده البعض أموراً خطيرة، وتساءلوا: هل يهددنا هذا الرئيس التركي بإرسال الإرهابيين، وما الدرس الذي سيلقننا إياه؟
وهنا بالذات، فشلت قيادة حزب السيد أوجلان التي تبدو وكأنها تسير في اتجاه آخر على العكس من تصورات رئيسه واستعداده للسلام مع الدولة من دون شروط، فسياسة قيادة “قنديل” لا توحي بأنها تريد السلام فعلاً (وهنا يجب ألا نهمل تقلب سياسة الحكومة بصدد السلام وشنها حملات عسكرية دموية واسعة على المدن والأرياف الكوردية)، وأن هذه القيادة في جبل “قنديل” تميل إلى إيران بشكلٍ واضح، سواءً في سياستها تجاه الدولة التركية أو في سوريا، كما يجدر القول بأن قيادة “قنديل” فشلت في إخراج حزبها من قائمة “الإرهاب” السوداء، رغم كل الخلافات بين تركيا والاتحاد الأوربي، ورغم أن الأمريكان ينسقون مع حزبهم الوليد، حزب الاتحاد الديموقراطي، في سوريا، ولم تتمكن من بناء سياسة لها في أوروبا مغايرة للصورة التي كانت عليها قبل اعتبارها منظمة إرهابية.
يرى بعض عقلاء الكورد أن تخلي حزب السيد أوجلان عن سياسته الاستفرادية التسلطية المجبول عليها كوادر الحزب منذ انتسابهم إليه وهم شباب، قد يهدم الحزب من أساسه القائم على مبادئ صارمة، منها أن ما يصدر عن القائد الأعلى مقدس، وأن الحزب يمتلك الفكر الصائب الذي لابديل عنه، وأن استخدام القوة والعنف ضد المعارضين والمنافسين من شريعة الحزب الماركسية – اللينينية، وهذا يعني أن لا مستقبل لحزب السيد أوجلان في عالمٍ يتطور نحو التعددية والسلمية والتعامل المدني، وسيدخل التاريخ كحزبٍ من أحزاب عصر “الحرب الباردة” إن ظل على هذه العقيدة الفاشلة.
السياسة الكوردية في غرب كوردستان:
يمكن اختصار السياسة في غرب كوردستان بجملة واحدة: “ضد حفر الخنادق في جنوب كوردستان ومع حفرها في شمال كوردستان.” بمعنى وجود تناقض رهيب في العقلية السياسية هناك، ليس تجاه جنوب كوردستان فحسب، وإنما في العديد من المجالات.
من الضروري التنويه إلى فترة السبات العميق، منذ استيلاء البعث على السلطة في عام 1963 وإلى حين رحيل حافظ الأسد، فإن هذا الجزء من كوردستان، وإن كان لا يقل وعياً قومياً عن أجزاء كوردستان الأخرى، وناضلت فيه أحزاب كوردية لعقودٍ من الزمن، في ظروف القهر والدكتاتورية، إلا أنه لم يشهد هزات واضطرابات بسبب اقتناع القيادات الكوردية بأنها غير قادرة على القيام بالثورة أو على إدارة الكفاح المسلح، لظروف ذاتية وموضوعية عديدة، وكذلك بسبب سياسة القمع الوحشية التي رافقتها سياسات التعريب المنهجي والتهجير الجماعي وبناء المستوطنات العربية المدعومة مالياً وأمنياً (أكثر من 40 مستوطنة) في المنطقة الكوردية المتاخمة لحدود كلٍ من العراق وتركيا بمسافةٍ تزيد عن 300 كيلو متر وعرض ما بين 15 و20 كيلو متر، لتغيير ديموغرافيا المنطقة وتنفيذ ما يسمى ب”الحزام العربي”، إضافة إلى التمييز في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومنع الشباب الكوردي من الانتساب إلى الكليات العسكرية وحرمانهم من السلك الدبلوماسي بتاتاً، مع سحب الجنسية السورية عشوائياً عن مئات الألوف من الكورد، وانتهاج سياسة صارمة في مجال مكافحة اللغة والثقافة الكوردية.
بعد وصول نجل الرئيس حافظ الأسد، مع إطلالة القرن الحادي والعشرين، تم إطلاق العديد من الوعود الواهية عن فتح المجال للمنتديات الثقافية والسياسية، وبالتالي السماح للأحزاب بالتشكل أو الترخيص للموجودة منها، ومنها الأحزاب الكوردية التي تأسس أولها في عام 1957، فلم ينخدع الناشطون الكورد الواعون بتلك الفقاعات التي انخدع بها بعض القياديين الكورد الذين اعتقدوا أو آمنوا على الدوام بأن “القضية الكوردية قضية سورية داخلية”، ومنهم من راح ضحية تصوراتٍ خاطئة أو ناقصة عن مدى استعداد هكذا نظام دكتاتولاي في مسألة الحريات السياسية، ورفض زعماء الكورد بناءً على ذلك ما أسموه ب”الاعتماد على العامل الخارجي”، بل عارضوا ذلك النهج القومي المؤمن بأن “القضية الكوردية يجب أن تخرج من القمقم السوري”.
في عام 20033، على أثر سقوط نظام صدام حسين في العراق، والتغييرات الهائلة التي حدثت في إقليم جنوب كوردستان، لم يعد الشباب الكوردي في غرب كوردستان مستعداً للاستمرار في الحياة الذليلة تحت قبضة النظام الأسدي، الذي لم يتغير على الرغم من وعود الأسد الابن بأنه سيكون مختلفاً عما سبق. فاندلعت في عام 2004 انتفاضة شعبية عارمة في مدينة القامشلي، وسرعان ما شملت مختلف المدن الكوردية في الجزيرة، وأياً كانت اسبابها المباشرة، فإن الشعوب لا تنتفض في وجه نظامٍ ديموقراطي عادل ومنتخب من قبلها، وإنما ضد الدكتاتوريات والفساد والاستبداد، ولكن أياً من الأحزاب الكوردية – مع الأسف – لم يتمكن من قيادة الجماهير، نظراً لضعفها وتشقق تنظيماتها وندرة إمكاناتها، بل على العكس، تمكن النظام الأسدي الدموي من قمع الانتفاضة أمام أعين القيادات الكوردية، وعمل على كسب ودها والاقتراب منها بوعود جديدة كاذبة من جديد. ويجدر بالذكر أن المعارضة السورية “الديموقراطية والوطنية” قد وقفت على الأغلب مع النظام وليس مع المنتفضين لأنهم كانوا كورداً ولهم مطالب قومية أيضاً إلى جانب مطالبهم الأخرى الديموقراطية وتطلعهم للحريات السياسية وصون حقوق الإنسان في سوريا.
وحتى يومنا هذا لا يستطيع نجباء السياسة الكوردية فهم هذه الازدواجية في العقل السياسي العربي، بين المطالبة بالديموقراطية والوقوف مع أعدائها في حال انتفاضة من يسمونهم بالأقليات من أجلها. وهذا له ظل ممتد لايزال يغمر معظم الفصائل والشخصيات السياسية السورية التي تناضل ضد نظام الأسد الدكتاتوري، فهي حتى في عالم الحرية والديموقراطية تفصح عن عدائها العلني الصارخي لأي حكمٍ ذاتي أو لفيدرالية كورية في سوريا، والتهمة موجودة باستمرار (هذه مؤامرة صهيونية – إسرائيلية)، ويؤكد فطاحل “الحرية والديموقراطية في المعارضة السورية” على أنهم لن يسمحوا للكورد بأي حقٍ في إدارة أنفسهم، وكأن قدر هذا الشعب أن يخضع على الدوام لهذا أو ذاك ممن لا يستطيعون حتى إدارة قرية من قراهم دون دعمٍ أجنبي أو أموال تأتيهم من الملوك والأمراء. نعم، إنهم يرفضون أي مطلبٍ قومي حقيقي للشعب الكوردي الذي عانى تحت حكم العائلة الأسدية معاناةً مزدوجة، أولاً لأنه تعرّض لسياسات تمييزية وعنصرية، وثانياً لأنه طالب على الدوام بنظام سوري ديموقراطي ينتخب فيه الشعب من يمثله انتخاباً حراً ونزيهاً.
ومنذ اندلاع ثورات ما يسمى ب”الربيع العربي” في المنطقة، ونجاح المتظاهرين في التخلص من حكم بن علي في تونس، وفي القضاء على نظام معمر القذافي، وتراجع حسين مبارك عن دوره الأساسي في مصر، ومن ثم اعتقاله، توجهت الأنظار إلى سوريا، وبعد اندلاع الثورة فيها كانت الدول والممالك والإمارات العربية التي خافت قبل ذلك خوفاً شديداً على وجودها، قد جهزت نفسها لمجابهة الثورة السورية بأسلوب مخادع ودموي، فقد زجت قواها في الصراع السوري الداخلي بما لديها من إمكانات إعلامية ومالية وسياسية لتحقيق هدفين:
– التخلص من نظام الأسد الذي بات يلعب دور التابع الأمين الدائر في فلك ملالي إيران، وينفذ سياساتها في سوريا والمنطقة، بعد أن فشل في البقاء في لبنان وسحب
جيشه منها ذلولاً مدحورا.
– منع القوى الوطنية والديموقراطية السورية من تغيير النظام الاستبدادي إلى نظام ديموقراطي حقيقي، يعتمد على إرادة الشعب في بناء مؤسساته الحاكمة.
فدخلت هذه الدول والممالك والإمارات على خط الثورة السورية منذ بداية الاشتباكات مع قوى الأمن والجيش السوري من قبل المتظاهرين سلمياً، الذين لم يطيقوا إرهاب النظام، ودافعوا عن أنفسهم ضد الاعتقالات والتعذيب والسحل في الشوارع، واستغل النظام ذلك استغلالاً عجيباً، فأطلق سراحٍ كثيرين من المسجونين لديه بتهم القيام أو الشروع في القيام بأعمال “إرهابية” ووزع عليهم السلاح ودفعهم للانخراط بين المتظاهرين، وبالتالي تمكن من تحويل الأنظار إلى تلك الفئات المسلحة عوضاً عن الملايين الهادرة في شوارع المدن السورية، ومن بينها المدن الكوردية، في حين مدت القوى العربية الرافضة للربيع العربي هذه الجماعات المسلحة بما احتاجت إليه من أموال وأجهزة اتصال وأسلحة وخبراء، فتحولت سوريا في وقتٍ قصير إلى ساحة لإراقة دماء السوريين وتدمير البنى التحتية وتدمير الجيش السوري، وسرعان ما كثرت أسماء الصحابة والفاتحين للكتائب المسلحة التي تولى قيادات بعضها “إرهابيون” من تنظيمات معروفة بأن العالم الحر الديموقراطي يحاربها أو يسعى لتجميعها في أرضٍ ما وعزلها بهدف القضاء عليها، وهذا ما يسمى ب”عش الدبور”، الذي تحولت إليه سوريا فعلاً، وبتخطيط شيطاني رهيب، لا يهم فيه مدى معاناة الشعب السوري تحت وطأة الحرب التي لا تفرق فيها المجموعات الإرهابية ولا الطائرات القاصفة بين المدنيين والمقاتلين.
وما زاد في الطين بلة، هو الاندفاع العسكري لإيران التي كانت منذ عقودٍ من الزمن تطمح في التوسع على حساب الشعوب العربية، وشرعت الجماعات السورية وغير السورية المقاتلة والمجاميع الطائفية التابعة لإيران تنشر راياتها التي تحمل أسماء تذكرنا بأيام الصراع الأموي – الشيعي، ولا تشير عن قريب أو بعيد إلى مضامين الثورة السورية، مثل (فاطميون، زينبيون، يا حسين، حزب الله، يا علي…) على الطرف الشيعي – العلوي، و(فتح الشام، جيش الإسلام، البنيان المرصوص…) على الطرف المعادي لإيران، ومن ثم تحركت تركيا أيضاً عسكرياً فوزعت على أتباعها رايات (نور الدين الزنكي… وسواه)، وكأن سوريا عادت إلى عهد “الفتوحات العربية” وتحوّل الصراع إلى (سني وشيعي)، بعد أن بدأ كحربٍ للنظام على شعبه المسالم الطامح في الحريات السياسية وتغيير النظام السياسي، وليس الدخول في فتنة عمرها قرون من الزمن.
في هذه الحرب التي لا يعلم أحد إلى أين تؤدي وكم ستكلف من الدماء، بعد كل ما جرى في سوريا من مذابح ودمار وتعذيب وحشي وقصف بالصواريخ والراجمات والسلاح الكيميائي، وجد الكورد أنفسهم أمام لوحةٍ كبيرة هم غير قادرين على استيعابها والتعامل معها، فمن جهة لا يعلمون مع من يقفون، ومن جهة لا يعلمون كيف يتصرفون، حيث أن كل القوى المتحاربة، رغم عداواتها فيما بينها متفقة على ألا يحصل الكورد على شيءٍ من الكعكعة السورية مستقبلاً، مهما قدموا من تضحيات وساهموا في النضالات الوطنية. إلاّ أن حزب الاتحاد الديموقراطي، الذي بدا مستفرداً بقراراته وتوجهاته، وله نظرة كوسموبوليتية، أممية، غير كوردية، في مجمل الصراع القومي الكوردستاني، والذي يتلقى أوامره من جبل “قنديل” المتحالف مع طهران ودمشق، قد خطا خطوة غريبة، إذ رأينا أنه أنزل إلى الشوارع وحدات مسلحة، بلباسٍ عسكري أسود كما لدى مسلحي حزب الله، وبأقنعة تخفي الوجوه، رغم أن بيشمركة كوردستان و(غريلا) حزب العمال في شمال كوردستان لم يخفوا وجوههم يوماً، ووضعوا على صدور الشباب جميعاً صورة لزعيمهم السيد عبد الله أوجلان، ولو وضعنا صورة لهم إلى جانب صور لجماعات حزب الله التي دخلت الحرب في سوريا إلى جانب الشبيحة والمرتزقة الإيرانيين لمساعدة نظام الأسد لما وجدنا أي اختلاف، وإذا بالحزب يمتلك فجأة مختلف أنواع الأسلحة التي يحتاج لها، من دون أن يحتل ثكنةً عسكرية أو تهبط له الأسلحة والعتاد من الجو، إلا أنه بدأ يضرب على وترٍ شاذ هو “الخط الثالث” بين الثورة والنظام، بخلاف أحزاب المجلس الوطني الكوردي الذي أصر منذ البداية أنه مع الثورة على النظام وعلى أن الشعب الكوردي حليف للشعب العربي ومكون أساسي في سوريا التي مصيرها مشترك لمختلف مكوناتها الثائرة في وجه الإرهاب والاستبداد معاً.
كان الكورد يأملون في أن يتطور تعاون البيشمركة في معارك (كوباني) مع وحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي، إلاّ أن رفض هذا الحزب لعودة آلاف البيشمركة من (لشكرى روﮊ – جيش الشمس) الذي تألف وتشكّل من الشباب الكوردي السوري في إقليم جنوب كوردستان، والتهديد بقتاله في حال عودته، قد حيّر المراقبين السياسيين، فكيف يرحب الآبوجيون بمساعدة بيشمركة الإقليم لهم في (كوباني) ويرفضونها من إخوتهم الكورد السوريين في الوقت ذاته؟، وخطر إرهاب داعش المدعوم آنذاك من دول إقليمية لها مصلحة في القضاء على القوات الكوردية لا يزال مستمراً؟
وعلى أثر مساهمة كل من موسكو وواشنطن، والعديد من دول التحالف الدولي في الصراع السوري – السوري، وكل طرف يزعم أنه جاء لقتال داعش وجبهة النصرة، كان على الكورد أن يتواصلوا ويتعاونوا مع بعضهم بعضاً بشكلٍ من الأشكال، إلاّ أن العائق كان ولا يزال هو سياسة التسلط الذي مارسته ولا تزال تمارسه وحدات حماية الشعب التي رضيت بأن تقف إلى جانبها قوات العشائر العربية والأقليات الدينية، وأسست معها “قوات سوريا الديموقراطية”، وظلت ترفض حتى اليوم أن تقف إلى جانبها قوات كوردية، في حين أنها شطبت على ما سمته ب”الخط الثالث”، حيث وقفت قواتها في معارك عديدة ولا تزال تقف في مواقع بالقرب من مدينة حلب، جنباً إلى جنب، مع قوات نظام الأسد، وأعلنت باستمرار عداءها للجيش السوري الحر، وائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية بذريعة أنها تقيم في تركيا، ومعلوم أن حزب الاتحاد الديموقراطي ذاته قد حاول الاتصال والاتفاق مع أنقره، ومسؤولوه يؤكدون بين الحين والآخر بأن حزبهم لا يضمر سوءاً بتركيا التي تتبع الولايات المتحدة في النقاط الأساسية لاستراتيجية حلف الناتو، وحزب الاتحاد الديموقراطي يتلقى العون العسكري من واشنطن مباشرةً، فكيف يتم هذا؟
إن سياسة الكورد الفاشلة وعدم تضامنهم وتعاونهم، بسبب تعنت حزب الاتحاد الديموقراطي الذي يسلك طريق حزب العمال الكوردستاني ولا يخرج عنه قيد أنملة، هي التي أفسحت المجال لتركيا أن تتدخل هي أيضاً عسكرياً تدخلاً مباشراً في شمال سوريا، وهذا يعني أن سياسة هذا الحزب هي التي منحت أعداء الكورد وكوردستان أن يفرضوا أنفسهم على غرب كوردستان، وبالتأكيد يقع جزء من المسؤولية على أحزاب المجلس الوطني الكوردي التي لم تتمكن من مواجهة هذه السياسة الخاطئة وراوحت في مكانها ولم تتمكن من بناء القوة الكافية لتغيير المعادلة السياسية – العسكرية في غرب كوردستان.
الكورد في هذا الجزء من وطنهم متفقون على أن من الضروري تحقيق ما يطمحون إليه في هذه المرحلة من تاريخ كفاحهم السياسي، ألا وهو “الفيدرالية” في إطار الدولة السورية القائمة على أسس الاحترام المتبادل بين مكوناتها المختلفة وبناء السلطة الدستورية الديموقراطية التي تسمح للجميع بالمساهمة في الحكم والإدارة في عدلٍ ومساواةٍ وتضامن وطني حقيقي، بعيداً عن الكره والقمع والإرهاب والاستبداد.
وهكذا، من خلال هذا التقرير عما جرى ويجري في كوردستان عامةً، يمكن التوصل إلى سمة مشتركة لحركة التحرر الوطني الكوردستانية، ألا وهي سمة “التفرق”، على الرغم من أن الظروف الدولية تساعد الآن في أن يتقدم شعبنا خطواتٍ جيدة نحو الأمام، والتفرّق يقابله منطقياً “التوحد”، ولكن لا توحّد ما لم نتخلص من “التخلّف” السياسي الذي يحيط بحركتنا الوطنية التحررية من كل جانب، فالأعداء رغم صراعاتهم وحروبهم ومصالحهم المتعارضة “متفقون” في مساعيهم للقضاء على هذه الحركة، وعلى الاستمرار في نهب وسلب خيرات وطننا كوردستان، أما أحزابنا التي تزعم أنها تضحي من أجل الأمة الكوردية، فهي بسبب أنانية بعض قادتها وزعمائها لا تستطيع تحقيق أدنى التقارب الجاد فيما بينها، فلا جبهاتها قادرة على الصمود في وجه التحديات، ولا مجالسها تتمكن من تجاوز المصاعب، ولا أي حزبٍ، مهما كان قوياً قادر على قيادة هذه الأمة الكبيرة والمقسمة المجزأة.
إن جنوب كوردستان قد وصل إلى درجةٍ يمكن القول عندها بأنه مؤهل لأن يصبح دولةً مستقلة وقادرة على الوقوف على قدميها، ولكن بعض الفاشلين المترددين يقولون بأن جنوب كوردستان لا يملك المال الكافي لبناء دولة مستقلة، فنقول: إن اليونان يعتبر من أقدم دول المعمورة، ولكن لديه أزمة مالية تودي بحكوماتها الواحدة تلو الأخرى، وإن دولاً مثل اسبانيا والبرتغال كانتا تملكان مساحاتٍ واسعة من المستعمرات تكاد تسقطان في ذات الأوحال التي سقطت فيها اليونان، والبعض يقول بأن جنوب كوردستان ضعيف من مختلف النواحي، فنقول: إن سوريا التي كانت في الماضي قاعدة للفتوحات العربية في عهد الأمويين، والزنكيين والأيوبيين في حربهم ضد الصليبيين، تكاد تتمزق اليوم، إلا أنها في أعين العالم لا تزال دولة مستقلة، أم أنكم متشائمون من مستقبل أمتكم الكوردية؟
إن ما يريده شعبنا هو استراتيجية جديدة للاتحاد والتحرير، قائمة على أساس وضع كل الطاقات المتوفرة، سياسياً وعسكرياً ومادياً في إطار واحد، لا تشتيتها وتفتيتها وتقزيمها، وعلى أساس وحدة القيادة والتخطيط ووضع “خارطة طريق” للتحرير التام والشامل لكل التراب الوطني، وهذا يحتاج إلى رفض الاملاءات الإقليمية، قبل وبعد كل عمل وكل خطوة.
انتهى