الصّلاة الأتمّ والطّعام الأدسم

نارين عمر
هناك دول شرق أوسطيّة وشرقيّة ومن دول وبلدان العالم الثّالث معروفة بسياسة تسمّى “النّأي بالنّفس”، ويبدو أنّ الكثير من شعوبها أيضاً يتبعونها، لعلمهم بجدوى تأثيرها ووافر نفعها على مرّ التّاريخ البشريّ وما قبله.
هذا الأمر يذكّرنا بموقف تاريخيّ ومقولةٍ شهيرة تْنسَب إلى أبي هريرة تقول: 
((كان أبو هريرة الصّحابيّ المعروف ينأى بنفسه من الوقوف مع عليّ بن أبي طالب أو معاوية بن أبي سفيان في القتال العنيف الذي دار بينهما، وبينما كان يوماً واقفاً فوق رابية يترقّب ويراقب القتال واشتداده سأله أحدهم: 
ما لك هنا تقف متفرّجاً؟ أنت لا مع هذا ولا مع ذلك؟ فنطق مقولته الشّهيرة:
“الصّلاة خلف عليّ أتمّ، والطّعام على مائدة معاوية أدسم، والوقوف فوق هذه الرّابية أسلم”.
 نعم، هذا ما فعله ويفعله الكثيرون من السّوريّين ومن شعوب العالم العربيّ والشّرق الأوسطيّ خلال الأعوام  التي شهدت الأحداث المتسارعة والمتغيّرات شبه الجذريّة في العالم وخلال مختلف المراحل الحامية التي يمرّ الوجود البشريّ، فهم يسايرون كلّ فئة على حدة، يصفّقون لهذه الجهة حتّى تتأثّر بتصفيقهم، ويهتفون لتلك الجهة حتّى تلتهب حنجرتهم، ويحنون الهامّة والقامة لهذه الجماعة حتّى يصابون بانحناء في الظّهر وصداع في الرّأس، ويبالغون في مدح هؤلاء إلى أن يئنّ منهم المديح؛ ولا يتناسون في اتباع مناسك العبد للأسياد في ذلك من دون أن تظهر على محيّاهم سمات الأسف والخجل، ما يهمّهم هو الحصول على مكاسب أكثر وغنائم أوفر، ويبدو أنّهم يصلون إلى مبتغاهم، ويتوصّلون إلى السّبل والدّروب التي تسهّل لهم المسير والحبو بيسر وسلاسة، المهمّ أنّهم  بالمقابل يجنون ثمار كلّ هذا، أو يوهمون نفسهم بذلك، فيكونون كالأطفال المدلّلين، أو يعَامَلون كالوجهاء والأغوات، لهم من كلّ مائدة لذّة، ومن كلّ احتفال مكان الصّدارة، ومن كلّ تنظيم أو منظّمة تُشكّل مقعداً ومكاناً، ولهم الفضاء على سعته، والأرض على وسعها أينما حلّوا وارتحلوا. 
هؤلاء يظهرون في كلّ الأزمات والمصائب والمحن التي تحلّ بالبلاد والعباد، وربّما يكون بعضهم سبباً من أسباب هذه المصائب!  سابقاً كناّ نجد هذا الأمر لدى الحزبيين الذين يسمّون في عرفنا بالسّياسيّين، ولكن الأمر بدأ يحلو شيئاً فشيئاً لهؤلاء الذين يرون نفسهم كتّاباً وأدباء وإعلاميّين وفنّانين، ونخصّ بالطّبع هؤلاء الطّارئين على السّاحة  وفي الميادين، بعض هؤلاء كانوا يخشون من ردّ سلام وتحيّة الأديب والكاتب والحزبيّ أيّام كان الكتّاب والحزبيّون والإعلاميّون يعدّون على أصابع اليد، ويتعرّضون إلى المضايقات والمحاسبات والمراقبات من هذه الجهة أو تلك. 
الغريب الغريب في الأمر أنّ معظم النّاس يعرفونهم، ويلعنونهم في سرّهم وفي جلساتهم الخاصّة، ويعدّون ويحصون تهمهم وأفعالهم غير السّويّة، ولكنّهم لا يجاهرون بها أمام الجميع، ولا يدعون إلى الكشف عن أفعالهم ومحاسبتهم!  فهل لأنّ معظم ناسنا على شاكلة هؤلاء؟ أم لأنّ الكلّ أضحى ينأى بنفسه وعائلته من أذيّة قد تلحق بهم؟ أم لأنّ هؤلاء يمتلكون أساليب ومقوّمات تجعل النّاس لا يقدمون على المجاهرة بأفعالهم والتّستّر عليها!؟
إذاً في هذه الحالة يتساوى الكلّ في ميزان الرّضوخ والاستسلام أو بعبارة مغلّفة بالأدب وجرعة من الحياء “النّأي بالنّفس”؟
النّصف الأوّل ينأى بالنّفس إرضاء لمَنْ يُعتَبَرون أسياداً وحماة لهم، والنّصف الآخر ينأى من النّصف الأوّل لئلا يُهلَك في سعير غضبه أو فورة انفعاله!
يبدو أنّ الحروب والأحداث الدّامية لدى الشّعوب والمجتمعات تفاجئهم بتصرّفاتٍ قد تسيّرهم نحو مزالق لا يُحمَد عقباها أو تجعلهم يغيّرون جلدهم في محاكاةٍ للأفعى أو مجاملة للحرباء! 
 أسئلة، استفسارات، تساؤلات باتت ترهق الذّاكرة، وتؤرق الوجدان مع معرفة عدم جدواها، لأنّ التّاريخ يعيد نفسه، فما بيننا وبين أبي هريرة أكثر من ألف عام، وما حدث بين عليّ ومعاويّة وقبلهما حدث ويحدث في كلّ حين وآن، وتظلّ أبجدية الفكر والعاطفة تلوَّن بعباراتٍ وكلماتٍ ورؤى جديدة، متجدّدة كتجدّد جلد الزّمان والزّمن معاً.
بات لزاماً على الشّعوب والمجتمعات أن تساير متغيّرات العصر الذي تتفيّأ بظلال كنفه، وأن تقوّم ذاتها، وتحرّر نفسها وأفكارها من هذه العادة السّيّئة فإن أرادت النّأي بالنّفس فلتنأى ولكنّها غير ملزمة على الرّضوخ للانتهازيين والمستغلين وأصحاب النّفس المتهوّرة.  لتقف على حيادٍ، ولتكشف الخطأ من الصّواب وبالعكس، أو لتترك هذه العادة لأصحابها، ولتقل كلمة الحقّ ولتنتشيَ  في حضن الصّراحة، ولتنعم براحة البال وسكينة الضّمير، ولتجلس إلى مائدة الإنسان القويم والمستقيم، ولتصلّي خلف الإمام المهتدي إلى دروب الخير والنّبل الإنسانيّ.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…