نحو التحول الديمقراطي وبناء مجتمع مدني

اتحاد الشعب *

الديمقراطية في صورتها المتكاملة تعني ضمان ممارسة الإنسان لكافة حقوقه السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبالتالي فإن الفصل بين مضامينها أو تغييب بعضها لا يعني إلا تشويهها أو تهميشها إذ لا يمكن تحقيق الديمقراطية الاجتماعية في غياب الديمقراطية السياسية أو إلغائها، لأن ذلك يعني المزيد من الاستبداد وترشيح الجمود الفكري أو حصرها في قوالب معينة .
أما الأصوات الداعية إلى تأجيل مسألة الديمقراطية في بعض المجتمعات بحجة افتقارها إلى الوعي الذي يؤجلها لاستيعاب مفاهيم الديمقراطية، فإنها لا تعبر في الواقع إلا عن مصالح بعض الفئات الحاكمة والمتحكمة في مقدرات هذه المجتمعات إذ أن عملية تعميق الوعي بالممارسة الديمقراطية لا تكون إلا عن طريق ترجمتها ونقلها من إطار التنظير إلى إطار الممارسة الواقعية بكل أبعادها ومضامينها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أما الاستئثار بالسلطة وحركها بيد جماعة أو حزب واحد ، فأنها تؤدي إلى التخلف وخنق إمكانيات نضوج الوعي وتفاقم الأزمات والصراعات ، فالديمقراطية هي العلاج لتناقضات المجتمع المدني وتحقيق الانسجام والتوفيق بينه وبين المجتمع السياسي لأنها توفر العوامل الذاتية والموضوعية لإنهاء الصراعات السياسية والاجتماعية وتحقيق التوازن بين الدولة والمجتمع .
 فبالرغم من اختلاف الظروف الذاتية والموضوعية من مجتمع إلى آخر فأنها تشترك في المعاناة من الصراع بين مختلف التيارات الفكرية من دينية وعلمانية وديمقراطية محافظة وأخرى ليبرالية وتيارات يسارية وقومية واشتراكية وهواجس التردد والخوف من الممارسة الديمقراطية واضحة على أفكار وتنظيرات وسلوك بعض الطبقات، فالطبقة البرجوازية لا ترغب في إجراء انتخابات وإقامة مجتمع ديمقراطي، إلا إذا تأكدت من عدم تعرض مصالحها الاقتصادية ونفوذها السياسي إلى المخاطر ، والطبقة الوسطى تظل مترددة من العملية الديمقراطية ، لأنها لا تضمن فوزها في الانتخابات وقد تخشى من فقدها لامتيازاتها السابقة أما الأغلبية الساحقة فأنها تتمسك بالديمقراطية ولكنها لا تملك المقومات المادية للمساهمة في الانتخابات، كما أنها تخشى من عملية التزوير وتدخل السلطات .
أن قضايا الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني هي من أهم قضايا عصرنا التي تتأثر وتتفاعل مع بعضها في جميع مجتمعات عصرنا الحالي ، ولما كانت الحضارة الإنسانية في مجموعها هي وحدة متكاملة وتفاعلت عبر مراحل تاريخ البشرية بتجارب الإنسان نحو تحقيق الأفضل لبني جنسه ، فإنه لابد من الانفتاح على الفكر والتجارب الحضارية العالمية في مجال بناء مفاهيم حرية الإنسان وحقوقه بدون تردد ، وجعل الإنسان متحرراً من الخوف والتردد في المطالبة بتوفير الأرضية الملائمة لممارسة الديمقراطية لنظام للحكم والمجتمع .

ومن هنا يأتي على ضوء طبيعة المتغيرات الإقليمية والدولية للوصول إلى بناء مجتمع مدني مستند إلى الشرعية والديمقراطية وحكم القانون وحقوق الإنسان .
كانت الديمقراطية ولا تزال ضرورة لكل عصر ولكل مجتمع إذ أن كيان الإنسان يتحدد بمجموعه من الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والثقافية ، ضمن هذا الإطار الذي يضمن لأفراد المجتمع ممارسة تلك الحقوق والحريات وقيام مؤسسات المجتمع المدني وتطورها ، فالديمقراطية من هذا المنظور طريقة مثلى لتنظيم العلاقات داخل المجتمع تنظيماً عقلانياً ، فهي توجه الصراع والمنافسة المشروعة لخدمة وتطوير المجتمع، إذ إن دور الأفراد في ممارسة حقوقهم في اختيار ومراقبة وعزل السلطة الحاكمة وممارسة نشاطاتهم السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية ، من خلال مؤسسات مسـتقلة عن سيطرة ونفوذ الدولة لن يتحقق إلا في ظل النظام الديمقـراطي ، فالممارسـة الديمقراطية تتم من خـلال مؤسسات المجتمع المدني التي تعتبر جزءاً من العملية الديمقراطية ذاتها ، إن هذه العلاقة الجدلية بين متطلبات تكوين المجتمع المدني والديمقراطية يتطلب ترسيخ القيم والديمقراطية حتى تصبح جزءاً عاملاً في ثقافة المجتمع ، وتدفعه لبناء مجتمع مدني يواكب مستلزمات العصر ، في الانفتاح والتطور فقضية الديمقراطية ليست تنظيمية هيكلية مجردة بل هي ممارسة الإنسان لحقوقه وحرياته في الرأي والتفكير، وفي عقيدته وعلاقاته وسلوكه معتمداً على مدى تأصل القيم الأخلاقية في النفوس وتأثيرها على السلوك الفردي والاجتماعي ومدى إيمان النظام السياسي الحاكم بحق المجتمع في التمتع بحقوقه وحرياته الأساسية في ظل دولة حضارية متمدنة .
إن أهمية المسيرة الديمقراطية في تاريخ الإنسانية تكمن في آرائها لأسس جديدة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم من خلال التوازن بين مؤسسات المجتمع السياسي ومؤسسات المجتمع المدني، فالتي توفر الحماية والضمانات لممارسة الإنسان لحقوقه وحرياته الأساسية تساهم بالضرورة في تعميق شعور المواطن بالانتماء والاستعداد للتضحية، وبالتالي فإن الحديث عن الديمقراطية وبناء المجتمع المدني والدولة، يجب أن لا يخضع لعمليات المناورة والمقايضة إذ إن التنازل عن الأهداف الأساسية في بناء المجتمع المدني تلحق الهزيمة بالديمقراطية ويفرغ المجتمع المدني من محتواه الحقيقي، وإن تعميق الممارسة الديمقراطية ودعمها تعتبر أساسياً في تحرير الدولة من نظام الحزب الواحد والقبلية، فالترابط بين المجتمع المدني والممارسة الديمقراطية كاستراتيجية سياسية مسألة لا جدال فيها وهذا يعني ضرورة تبني استراتيجية جديدة لمفهوم السلطة السياسية .
ويجب النظر للديمقراطية المعاصرة على أنها منهج ضرورة توصلت إليها الإنسانية عبر كفاح طويل وتجارب مريرة للتخلص من عقدة احتكار العمل السياسي وهيمنة السلطة الحاكمة ، إلا أنه هناك سمات عامة ومشتركة لا يمكن تجاوزها وتغييبها في نظم الحكم الديمقراطية كحماية حقوق الإنسان وصيانة الحريات العامة وضرورة المشاركة السياسية الفعالة وتداول السلطة والرفض المطلق لحكم الفرد وعدم الجمع بين السلطات أو تركيزها بيد الحاكم الفرد أو الحزب الواحد أو فئة معينة، ومن ثم يجب توفير كافة الضمانات الدستورية لتحقيق ذلك .
———

* صحيفة شهرية يصدرها الإعـلام المركزي لحزب الاتحاد الشعبي الكردي في سـوريا / العدد 347

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…